فقال { أن اقذفيه في التابوت } يعني : ألهمناها أن اجعليه في التابوت فاقذفيه في اليم { فاقذفيه في اليم } يعني : نهر النيل { فليلقه اليم بالساحل } يعني : شاطئ النهر لفظه أمر ، ومعناه خبر ، ومجازه حتى يلقيه اليم بالساحل { يأخذه عدو لي وعدو له } يعني : فرعون . فاتخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً ووضعت فيه موسى وقيرت رأسه وخصاصه يعني : شقوقه ، ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا تابوت يجيء به الماء ، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه ، فأخرجوه ، وفتحوا رأسه ، فإذا صبي من أصبح الناس وجهاً ، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك فذلك قوله تعالى : { وألقيت عليك محبةً مني } قال ابن عباس : أحبه وحببه إلى خلقه . قال عكرمة : ما رآه أحد إلا أحبه . قال قتادة : ملاحة كانت في عيني موسى ما رآه أحد إلا عشقه { ولتصنع على عيني } يعني : لتربى بمرآى ومنظر مني ، قرأ أبو جعفر : ولتصنع بالجزم .
ثم قذفته في اليم ، أي : شط نيل مصر ، فأمر الله اليم ، أن يلقيه في الساحل ، وقيض أن يأخذه ، أعدى الأعداء لله ولموسى ، ويتربى في أولاده ، ويكون قرة عين لمن رآه ، ولهذا قال : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } فكل من رآه أحبه { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلاءتي ، وأي نظر وكفالة أجلّ وأكمل ، من ولاية البر الرحيم ، القادر على إيصال مصالح عبده ، ودفع المضار عنه ؟ ! فلا ينتقل من حالة إلى حالة ، إلا والله تعالى هو الذي دبّر ذلك لمصلحة موسى ، ومن حسن تدبيره ، أن موسى لما وقع في يد عدوه ، قلقت أمه قلقا شديدا ، وأصبح فؤادها فارغا ، وكادت تخبر به ، لولا أن الله ثبتها وربط على قلبها ، ففي هذه الحالة ، حرم الله على موسى المراضع ، فلا يقبل ثدي امرأة قط ، ليكون مآله إلى أمه فترضعه ، ويكون عندها ، مطمئنة ساكنة ، قريرة العين ، فجعلوا يعرضون عليه المراضع ، فلا يقبل ثديا .
ثم وضح - سبحانه - ما أوحاه إلى أم موسى فقال : { أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ . . . } .
و { أَنِ } فى قوله { أَنِ اقذفيه } مفسرة ، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه .
والمراد بالقذف هنا : الوضع ، والمراد به فى قوله { فاقذفيه فِي اليم } الإلقاء فى البحر وهو نيل مصر .
والتابوت : الصندوق الذى يوضع فيه الشىء .
والمعنى : لقد كان من رعايتنا لك يا موسى أن أوحينا إلى أمك عندما خافت عليك القتل : أن ضعى ابنك فى التابوت ، ثم بعد ذلك اقذفيه بالتابوت فى البحر ، وبأمرنا وقدرتنا يلقى اليم بالتابوت على شاطىء البحر وساحله ، وفى هذه الحالة يأخذه عدو لى وعدو له ، وهو فرعون الذى طغى وقال لقومه أنا ربكم الأعلى .
والضمائر كلها تعود إلى موسى - عليه السلام - وقيل إن الضمير فى قوله { فاقذفيه فِي اليم } .
وفى قوله { فَلْيُلْقِهِ } يعود إلى التابوت ، والأول أرجح ، لأن تفريق الضمائر هنا لا داعى له ، بل الذى يقتضيه بلاغة القرآن الكريم ، عودة الضمائر إلى موسى - عليه السلام - .
قال بعض العلماء : وصيغة الأمر فى قوله { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } فيها وجهان معروفان عند العلماء :
أحدهما : أن صيغة الأمر معناها الخبر : قال أبو حيان فى البحر : وقوله { فَلْيُلْقِهِ } أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة ، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها .
الثانى : أن صيغة الأمر فى قوله { فَلْيُلْقِهِ } أريد بها الأمر الكونى القدرى كقوله : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل ، لأن الله - تعالى - أمره بذلك كونا وقدرا . . .
وقوله { يَأْخُذْهُ } مجزوم فى جواب الطلب وهو قوله { فَلْيُلْقِهِ . . } إذ أنه على الوجه الأول يكون الطلب باعتبار لفظه وصيغته .
وقوله - سبحانه - { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } بيان للمنة الثانية .
قال الآلوسى : وكلمة " منى " متعلقة بمحذوف وقع صفة لمحذوف ، مؤكدة لما فى تتنكيرها من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية . أى : وألقيت عليك محبة عظيمة كائنة منى - لا من غيرى - قد زرعتها فى القلوب ، فكل من رآك أحبك .
ولقد كان من آثار هذه المحبة : عطف امرأة فرعون عليه ، وطلبها منه عدم قتله ، وطلبها منه كذلك أن يتخذه ولدا .
وكان من آثار هذه المحبة أن يعيش موسى فى صغره معززا مكرما فى بيت فرعون مع أنه فى المستقبل سيكون عدوا له .
وهكذا رعاية الله - تعالى - ومحبته لموسى جعلته يعيش بين قوة الشر والطغيان آمنا مطمئنا .
قال ابن عباس : أحب الله - تعالى - موسى ، وحببه إلى خلقه .
وقوله - تعالى - : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } بيان للمنة الثالثة . .
أى : أوحيت إلى أمك بما أوحيت من أجل مصلحتك ومنفعتك وألقيت عليك محبة منى ، ليحبك الناس ، ولتصنع على عينى . أى : ولتربى وأنت محاط بالحنو والشفقة تحت رعايتى وعنايتى وعينى ، كما يراعى الإنسان بعينه من يحبه ويهتم بأمره .
وهذا ما حدث لموسى فعلا ، فقد عاش فى طفولته تحت عين فرعون ، وهو عدو الله - تعالى - ومع ذلك لم تستطع عين فرعون أن تمتد بسوء إلى موسى ، لأن عين الله - تعالى - كانت ترعاه وتحميه من بطش فرعون وشيعته .
فالجملة الكريمة فيها من الرفق بموسى - عليه السلام - ومن الرعاية له ، ما يعجز القلم عن وصفه .
وكيف يستطيع القلم وصف حال إنسان قال الله فى شأنه : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } .
قال صاحب الكشاف : أى : ولتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الرجل الشىء بعينه إذا اعتنى به ، وتقول للصانع ؛ اصنع هذا على عينى إنى أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادى وبغيتى .
وقوله : { وَلِتُصْنَعَ } معطوف على علة مضمرة مثل : ليتعطف عليك . . . أو حذف معلله أى : ولتصنع على عينى فعلت ذلك .
( أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل ) . .
حركات كلها عنف وكلها خشونة . . قذف في التابوت بالطفل . وقذف في اليم بالتابوت . وإلقاء للتابوت على الساحل . . ثم ماذا ? أين يذهب التابوت المقذوف فيه بالطفل المقذوف في اليم الملقى به على الساحل . من يتسلمه ? ( عدو لي وعدو له ) .
وفي زحمة هذه المخاوف كلها . وبعد تلك الصدمات كلها . ماذا ? ما الذي حدث للطفل الضعيف المجرد من كل قوة ? ما الذي جرى للتابوت الصغير المجرد من كل وقاية ?
( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ) ! ! !
يا للقدرة القادرة التي تجعل من المحبة الهينة اللينة درعا تتكسر عليها الضربات وتتحطم عليه الأمواج . وتعجز قوى الشر والطغيان كلها أن تمس حاملها بسوء ؛ ولو كان طفلا رضيعا لا يصول ولا يجول بل لا يملك أن يقول . .
إنها مقابلة عجيبة في تصوير المشهد . مقابلة بين القوى الجبارة الطاغية التي تتربص بالطفل الصغير ، والخشونة القاسية فيما يحيط به من ملابسات وظروف . . والرحمة اللينة اللطيفة تحرسه من المخاوف ، وتقيه من الشدائد وتلفه من الخشونة ، ممثلة في المحبة لا في صيال أو نزال : ( ولتصنع على عيني ) . . وما من شرح يمكن أن يضيف شيئا إلى ذلك الظل الرفيق اللطيف العميق الذي يلقيه التعبير القرآني العجيب : ( ولتصنع على عيني )وكيف يصف لسان بشري ، خلقا يصنع على عين الله ? إن قصارى أي بشري أن يتأمله ويتملاه . . إنها منزلة وإنها كرامة أن ينال إنسان لحظة من العناية . فكيف بمن يصنع صنعا على عين الله ? إنه بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه .
ولتصنع على عيني . تحت عين فرعون - عدوك وعدوي - وفي متناول يده بلا حارس ولا مانع ولا مدافع . ولكن عينه لا تمتد إليك بالشر لأني ألقيت عليك محبة مني . ويده لا تنالك بالضر وأنت تصنع على عيني .
هذه{[19265]} إجابة من الله لرسوله موسى ، عليه السلام ، فيما سأل من ربه عز وجل ، وتذكير{[19266]} له بنعمه السالفة عليه ، فيما كان ألهم أمه حين كانت ترضعه ، وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه ؛ لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان . فاتخذت له تابوتا ، فكانت{[19267]} ترضعه ثم تضعه فيه ، وترسله في البحر - وهو النيل - وتمسكه إلى منزلها بحبل فذهبت مرة لتربطه{[19268]} فانفلت منها وذهب به البحر ، فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] فذهب به البحر إلى دار فرعون { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } [ القصص : 8 ] أي قدرًا مقدورًا{[19269]} من الله ، حيث كانوا هم يقتلون الغلمان{[19270]} من بني إسرائيل ، حذرًا من وجود موسى ، فحكم الله - وله السلطان العظيم ، والقدرة التامة - ألا يربى إلا على فراش فرعون ، ويغذى بطعامه وشرابه ، مع محبته وزوجته له ؛ ولهذا قال : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } [ أي : عند عدوك ، جعلته يحبك . قال سلمة بن كُهَيْل : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } ]{[19271]} قال : حببتك إلى عبادي .
{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } قال أبو عمران الجوني : تربى بعين الله .
وقال معمر بن المثنى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } بحيث أرى .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف ، غذاؤه عندهم غذاء الملك ، فتلك الصنعة .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوّ لّي وَعَدُوّ لّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مّنّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىَ عَيْنِيَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد مننا عليك يا موسى مرّة أخرى حين أوحينا إلى أمك ، أن اقذفي ابنك موسى حين ولدتك في التابوت فاقْذِفِيهِ فِي اليَمّ يعني باليم : النيل فَلْيُلْقِهِ اليَمّ بالساحِلِ يقول : فاقذفيه في اليم ، يلقه اليم بالساحل ، وهو جزاء أخرج مخرج الأمر ، كأن اليم هو المأمور ، كما قال جلّ ثناؤه : " اتّبِعُوا سَبِيلَنَا ولْنَحْمِلْ خَطَاياكُمْ " يعني : اتبعوا سبيلنا نحمل عنكم خطاياكم ، ففعلت ذلك أمه به فألقاه اليم بمَشْرَعة آل فرعون ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما ولدت موسى أمه أرضعته ، حتى إذا أمر فرعون بقتل الولدان من سنته تلك عمدت إليه ، فصنعت به ما أمرها الله تعالى ، جعلته في تابوت صغير ، ومهدت له فيه ، ثم عمدت إلى النيل فقذفته فيه ، وأصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كلّ غداة ، فبينا هو جالس ، إذ مرّ النيل بالتابوت فقذف به وآسية ابنة مُزَاحم امرأته جالسة إلى جنبه ، فقال : إن هذا لشيء في البحر ، فأتوني به ، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به ، ففتح التابوت فإذا فيه صبيّ في مهده ، فألقى الله عليه محبته ، وعطف عليه نفسه . وعنى جلّ ثناؤه بقوله : " يأْخُذْهُ عَدُوّ لي وَعَدُوّ لَهُ " ، فرعون هو العدوّ ، كان لله ولموسى .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : " فاقْذِفِيهِ فِي اليَمّ " وهو البحر ، وهو النيل .
واختلف أهل التأويل في معنى المحبة التي قال الله جلّ ثناؤه " وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي " فقال بعضهم : عنى بذلك أنه حببه إلى عباده . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي والعباس بن محمد الدوري ، قالا : حدثنا حسين الجعفي عن موسى بن قبس الحضرمي ، عن سلمة بن كهيل ، في قول الله : " وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً منّي " قال العباس : حببتك إلى عبادي وقال الصّدَائي : حببتك إلى خلقي .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أي حسنت خلقك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني إبراهيم بن مهدي ، عن رجل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قوله : " وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً منّي " قال : حسنا وملاحة .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله ألقى محبته على موسى ، كما قال جلّ ثناؤه " وألْقَيْتَ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي " فحببه إلى آسية امرأة فرعون ، حتى تبنّته وغذّته وربّته ، وإلى فرعون ، حتى كفّ عنه عاديته وشرّه . وقد قيل : إنما قيل : وألقيت عليك محبة مني ، لأنه حببه إلى كل من رآه . ومعنى " ألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي " حببتك إليهم يقول الرجل لاَخر إذا أحبه : ألقيت عليك رحمتي : أي محبتي .
و { أن } في قوله { أن اقذفيه } بدل من { ما } والضمير الأول في { اقذفيه } عائد على موسى وفي الثاني على { التابوت }{[8104]} ، ويجوز أن يعود على { موسى } . وقوله { فليلقه اليم } خبر خرج في صيغة الأمر إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها ، ومنه قول النبي عليه السلام «قوموا فلأصل لكم »{[8105]} فأخبر الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة وهذا كثير ، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك ، و «العدو » الذي هو لله ولموسى كان فرعون ولكن أم موسى أخبرت به على الإبهام وذلك قالت لأخته قصيه وهي لا تدري أين . ثم أخبر تعالى موسى أنه «ألقى عليه محبة » منه فقال بعض الناس أراد محبة آسية لأنها كانت من الله وكانت سبب حياته . وقالت فرقة : أراد القبول الذي يضعه الله في الأرض لخيار عباده ، وكان حظ موسى منه في غاية الوفر . وقالت فرقة : أعطاء جمالاً يحبه به كل من رآه ، وقالت فرقة : أعطاء ملاحة العينين ، وهذان قولان فيهما ضعف وأقوى الأقوال أنه القبول . وقرأ الجمهور و «لِتُصنع » بكسر اللام وضم التاء على معنى ولتغذى وتطعم وتربى ، وقرأ أبو نهيك «ولَتصنع » بفتح التاء ، قال ثعلب معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «ولْتصنع » بسكون اللام على الأمر للغالب وذلك متجه . وقوله { على عيني } معناه بمرأى مني وأمر مدرك مبصر مراعى .
{ أن اقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له } .
{ أنِ } تفسير لفعل { أوْحَيْنَا } لأنه معنى القول دون حروفه أو تفسير ليوحى .
والقذف : أصله الرمي ، وأطلق هنا على الوضع في التابوت ، تمثيلاً لهيئة المُخفى عمله ، فهو يسرع وضعه من يده كهيئة من يقذف حجراً ونحوه .
والتابوت : الصندوق . وتقدّم عند قوله تعالى : { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } في سورة البقرة ( 248 ) .
واليمّ : البحر ، والمراد به نهر النّيل .
والساحل : الشاطىء ، ولام الأمر في قوله فَلْيُلْقِهِ } دالة على أمر التكوين ، أي سخرنا اليَمّ لأن يلقيه بالساحل ، ولا يبتعد به إلى مكان بعيد ، والمراد ساحل معهود ، وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة .
والضمائر الثلاثة المنصوبة يجوز أن تكون عائدة إلى موسى لأنّه المقصود وهو حاضر في ذهن أمّه الموحى إليها ، وقَذفه في التّابوت وفي اليَمّ وإلقاؤه في الساحل كلها أفعال متعلّقة بضميره ، إذ لا فرق في فعل الإلقاء بين كونه مباشراً أو في ضمن غيره ، لأنه هو المقصود بالأفعال الثلاثة . ويجوز جعل الضميرين الأخيرين عائدين إلى التابوت ولا لبس في ذلك .
وجزم { يَأْخُذْهُ } في جواب الأمر على طريقة جزم قوله { يفقهوا قولي } [ طه : 28 ] المتقدم آنفاً .
والعدوّ : فرعون ، فهو عدوّ الله لأنه انتحل لنفسه الإلهية ، وعدوّ موسى تقديراً في المستقبل ، وهو عدوّه لو علم أنه من غلمان إسرائيل لأنّه اعتزم على قتل أبنائهم .
{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى }
عطف على جملة { أوحينا } أي حين أوحينا إلى أمّك ما كان به سلامتك من الموت ، وحين ألقيت عليك محبّة لتحصل الرقّة لواجده في اليَمّ ، فيحرص على حياته ونمائه ويتخذه ولداً كما جاء في الآية الأخرى { وقالت امرأة فرعون قرّةُ عينٍ لي ولك لا تقتلوه } [ القصص : 9 ] ؛ لأنّ فرعون قد غلب على ظنه أنّه من غلمان إسرائيل وليس من أبناء القبط ، أو لأنه يخطر بباله الأخذ بالاحتياط .
وإلقاء المحبة مجاز في تعلّق المحبة به ، أي خلق المحبّة في قلب المحبّ بدون سبب عاديّ حتى كأنه وضعٌ باليد لا مقتضي له في العادة .
ووصف المحبّة بأنها من الله للدّلالة على أنها محبّة خارقة للعادة لعدم ابتداء أسباب المحبّة العرفيّة من الإلف والانتفاع ، ألا ترى قول امرأة فرعون : { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } [ القصص : 9 ] مع قولها : { قرّة عين لي ولك } [ القصص : 9 ] ، فكان قرة عين لها قبل أن ينفعها وقبل اتخاذه ولداً .
جملة { ولتصنع على عيني } عطف على جملة { إذ أوحينا إلى أمك الخ . جُعل الأمران إتماماً لمنّة واحدة لأن إنجاءه من القتل لا يظهر أثره إلاّ إذا أنجاه من الموت بالذبول لترك الرضاعة ، ومن الإهمال المفضي إلى الهلاك أو الوهن إذا ولي تربيته من لا يشفق عليه الشفقة الجبليّة . والتقدير : وإذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله لأجل أن تُصنع على عيني .
والصنع : مستعار للتربية والتنمية ، تشبيهاً لذلك بصنع شيء مصنوع ، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة : هو صنيعة فلان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد مننا عليك يا موسى مرّة أخرى حين أوحينا إلى أمك، أن اقذفي ابنك موسى حين ولدتك في التابوت "فاقْذِفِيهِ فِي اليَمّ "يعني باليم: النيل، "فَلْيُلْقِهِ اليَمّ بالساحِلِ" يقول: فاقذفيه في اليم، يلقه اليم بالساحل، وهو جزاء أخرج مخرج الأمر، كأن اليم هو المأمور، كما قال جلّ ثناؤه: "اتّبِعُوا سَبِيلَنَا ولْنَحْمِلْ خَطَاياكُمْ" يعني: اتبعوا سبيلنا نحمل عنكم خطاياكم، ففعلت ذلك أمه به فألقاه اليم بمَشْرَعة آل فرعون... وعنى جلّ ثناؤه بقوله: "يأْخُذْهُ عَدُوّ لي وَعَدُوّ لَهُ"، فرعون هو العدوّ، كان لله ولموسى...
واختلف أهل التأويل في معنى المحبة التي قال الله جلّ ثناؤه" وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي"؛
فقال بعضهم: عنى بذلك أنه حببه إلى عباده... وقال آخرون: بل معنى ذلك: أي حسنت خلقك... والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله ألقى محبته على موسى، كما قال جلّ ثناؤه" وألْقَيْتَ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي "فحببه إلى آسية امرأة فرعون، حتى تبنّته وغذّته وربّته، وإلى فرعون، حتى كفّ عنه عاديته وشرّه. وقد قيل: إنما قيل: وألقيت عليك محبة مني، لأنه حببه إلى كل من رآه. ومعنى" ألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي ": حببتك إليهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} قال عامة أهل التأويل: ألقى عليه محبة في قلب امرأة فرعون حين قالت: {قرت عين لي ولك لا تقتلوه} الآية [القصص: 9] ولكن ألقى عليه محبة في قلب امرأته وقلب فرعون أيضا حتى كان أشفق الناس عليه وأحبهم بعد ما كان يقتل الولدان بسببه ليجده، ويظفر به؛ يذكره عز وجل رحمته عليه ومنته له، وهي المنة التي ذكر حين قال: {ولقد مننا عليك مرة أخرى}.
وقوله تعالى: {ولتصنع على عيني} والصنع هو فعل الخير والمعروف، أي لنصنع إليك المعروف والإحسان.
وقوله تعالى: {على عيني} قال بعضهم: [{على عيني}] على حفظي؛ يقال: عين الله عليك، أي كن في حفظ الله، وهو قول الحسن وقتادة. وقال بعضهم: لِتُربَى على عيني، أي على علمي، والأول أشبه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... قوله "ولتصنع على عيني "قال قتادة: معناه لتغذى على محبتي وإرادتي، وتقديره وأنا أراك، يجري أمرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك، كما يقول القائل لغيره: أنت مني بمرأى ومستمع أي: أنا مراع لأحوالك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... ربَّاه في حِجْرِ العدو وكان قد قَتَلَ بسببه ألوفاً من الولدان... ولكنْ مِنْ مَأمنِهِ يُؤْتى الحَذِرُ! وبلاءُ كلِّ أحدٍ كان بَعْدَه إلا بَلاءَ موسى عليه السلام فإنه تَقَدَّمَ عليه بسنين؛ ففي اليوم الذي أخذ موسى في حِجْرِه كان قد أمر بقتل كثير من الولدان، ثم إنه ربَّاه ليكونَ إهلاكُ مُلْكِهِ على يده...
لِيُعْلَمَ أَنَّ أَسرارَ الأقدار لا يعلمها إلا الجبارُ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته أن لا تخطيء جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز، أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه، فقيل {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل}... وظاهر اللفظ [على] أنّ البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه: لأنّ الماء يسحله أي يقشره وقذف به ثمة فالتقط من الساحل، إلا أن يكون قد ألقاه اليم بموضع من الساحل فيه فوّهة نهر فرعون، ثم أدّاه النهر إلى حيث البركة. [وألقيت عليك محبة مني] {مِّنِّى} لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت، فيكون المعنى على: أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب. وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة، أي: محبة حاصلة أو واقعة مني، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك...
{وَلِتُصْنَعَ على عيني} لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك، كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به، وتقول للصانع: اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي. ولتصنع: معطوف على علة مضمرة، مثل: ليتعطف عليك وترأم ونحوه. أو حذف معلله، أي: ولتصنع فعلت ذلك...
ظاهر القرآن يدل على أن المراد من قوله: {ولتصنع على عيني} الحفظ والحياطة كقوله تعالى: {إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن} فصار ذلك كالتفسير لحياطة الله تعالى له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم فسره بقوله: {أن اقذفيه} أي ألقي ابنك {في التابوت} وهو الصندوق، فعلوت من التوب الذي معناه تفاؤلاً به، وقال الحرالي: هو وعاء ما يعز قدره، والقذف مجاز عن المسارعة إلى وضعه من غير تمهل لشيء أصلاً، إشارة إلى أنه فعل مضمون السلامة كيف ما كان، والتعريف لأنه نوع من الصناديق أشد الناس معرفة به بنو إسرائيل {فاقذفيه} أي موسى عليه السلام عقب ذلك بتابوته، أو التابوت الذي فيه موسى عليه السلام {في اليم} أي البحر وهو النيل.
ولما كانت سلامته في البحر من العجائب، لتعرضه للغرق بقلب الريح للتابوت، أو بكسره في بعض الجدر أو غيرها، أو بجريه مستقيماً مع أقوى جرية من الماء إلى البحر الملح وغير ذلك من الآفات، أشار إلى تحتم تنجيته بلام الأمر عبارة عن معنى الخبر في قوله، جاعلاً البحر كأنه ذو تمييز ليطيع الأمر: {فليلقه} أي التابوت الذي فيه موسى عليه السلام أو موسى بتابوته {اليم بالساحل} أي شاطئ النيل، سمي بذلك لأن الماء يسحله، أي ينشره إلى جانب البيت الذي الفعل كله هرباً من شر صاحبه، وهو فرعون، وهو المراد بقوله: {يأخذه} جواباً للأمر، أي موسى {عدو لي} ونبه على محل العجب بإعادة لفظ العدو في قوله: {وعدو له} فإنه ما عادى بني إسرائيل بالتذبيح إلا من أجله {وألقيت عليك محبة} أي عظيمة؛ ثم زاد الأمر في تعظيمها إيضاحاً بقوله: {مني} أي ليحبك كل من رآك لما جبلتك عليه من الخلال الحميدة، والشيم السديدة، لتكون أهلاً لما أريدك له {ولتصنع} أي تربى بأيسر أمر تربية بمن هو ملازم لك لا ينفك عن الاعتناء بمصالحك عناية شديدة {على عيني} أي مستعلياً على حافظيك غير مستخفى في تربيتك من أحد ولا مخوف عليك منه، وأنا حافظ لك حفظ من يلاحظ الشيء بعينه لا يغيب عنها، فكان كل ما أردته، فلما رآك هذا العدو أحبك وطلب لك المراضع، فلما لم تقبل واحدة منهن بالغ في الطلب، كل ذلك إمضاء لأمري وإيقافاً لأمره به نفسه لا بغيره ليزداد العجب من إحكام السبب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
حركات كلها عنف وكلها خشونة.. قذف في التابوت بالطفل. وقذف في اليم بالتابوت. وإلقاء للتابوت على الساحل.. ثم ماذا؟ أين يذهب التابوت المقذوف فيه بالطفل المقذوف في اليم الملقى به على الساحل. من يتسلمه؟ (عدو لي وعدو له). وفي زحمة هذه المخاوف كلها. وبعد تلك الصدمات كلها. ماذا؟ ما الذي حدث للطفل الضعيف المجرد من كل قوة؟ ما الذي جرى للتابوت الصغير المجرد من كل وقاية؟ (وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني)!!! يا للقدرة القادرة التي تجعل من المحبة الهينة اللينة درعا تتكسر عليها الضربات وتتحطم عليه الأمواج. وتعجز قوى الشر والطغيان كلها أن تمس حاملها بسوء؛ ولو كان طفلا رضيعا لا يصول ولا يجول بل لا يملك أن يقول.. إنها مقابلة عجيبة في تصوير المشهد. مقابلة بين القوى الجبارة الطاغية التي تتربص بالطفل الصغير، والخشونة القاسية فيما يحيط به من ملابسات وظروف.. والرحمة اللينة اللطيفة تحرسه من المخاوف، وتقيه من الشدائد وتلفه من الخشونة، ممثلة في المحبة لا في صيال أو نزال: (ولتصنع على عيني).. وما من شرح يمكن أن يضيف شيئا إلى ذلك الظل الرفيق اللطيف العميق الذي يلقيه التعبير القرآني العجيب: (ولتصنع على عيني) وكيف يصف لسان بشري، خلقا يصنع على عين الله؟ إن قصارى أي بشري أن يتأمله ويتملاه.. إنها منزلة وإنها كرامة أن ينال إنسان لحظة من العناية. فكيف بمن يصنع صنعا على عين الله؟ إنه بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه. ولتصنع على عيني. تحت عين فرعون -عدوك وعدوي- وفي متناول يده بلا حارس ولا مانع ولا مدافع. ولكن عينه لا تمتد إليك بالشر لأني ألقيت عليك محبة مني. ويده لا تنالك بالضر وأنت تصنع على عيني.
{فليلقه اليم بالساحل}: أي: تحمله الأمواج وتسير به، وكأن لديها أوامر أن تدخله في المجرى الموصل لقصر فرعون. فعندنا – إذن – لموسى ثلاثة إلقاءات: إلقاء الرحمة والحنان في التابوت، وإلقاء التابوت في اليم تنفيذا لأمر الله، وإلقاء اليم للتابوت عند قصر فرعون...
{يأخذه عدو لي وعدو له}: (عدو لي) أي: لله تعالى: لأن فرعون ادعى الألوهية، (وعدو له) أي: لموسى، لأنه سيقف في وجهه ويوقفه عند حده. وفي الآية إشارة إلى إنفاذ إرادته سبحانه، فإذا أراد شيئا قضاه، ولو حتى على يد أعدائه وهم غافلون، فمن يتصور أو يصدق أن فرعون في جبروته وعتوه وتقتيله للذكور من أولاد بني إسرائيل هو الذي يضم إليه موسى ويرعاه في بيته، بل ويحبه ويجد له قبولا في نفسه. وهل التقطه فرعون بداية ليكون له عدوا؟ أم التقطه ليكون ابنا؟ كما قالت زوجته آسية: {قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (9)} (القصص).إذن: كانت محبة، إلا أنها آلت إلى العداوة فيما بعد، آلت إلى أن يكون موسى هو العدو الذي ستربيه بنفسك وتحافظ عليه ليكون تقويض ملكك على يديه.