قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } . الآية ، نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار ، طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ، يقصد بذلك مضارتها . قوله تعالى : { فبلغن أجلهن } أي أشرفن على أن تبين بانقضاء العدة ، ولم يرد حقيقة انقضاء العدة ، لأن العدة إذا انقضت لم يكن للزوج إمساكها ، فالبلوغ هاهنا بلوغ مقاربة ، وفي قوله تعالى بعد هذا { فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } حقيقة انقضاء العدة ، والبلوغ يتناول المعنيين ، يقال : بلغ المدينة إذا قربت منها وإذا دخلها .
قوله تعالى : { فأمسكوهن } . أي راجعوهن .
قوله تعالى : { بمعروف } . قيل المراجعة بالمعروف أن يشهد على رجعتها ، وأن يراجعها بالقول لا بالوطء .
قوله تعالى : { أو سرحوهن بمعروف } . أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيكن أملك بأنفسهن .
قوله تعالى : { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } . أي لا تقصدوا بالرجعة المضارة بتطويل الحبس .
قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } . أي أضر بنفسه بمخالفة أمر الله تعالى .
قوله تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } . قال الكلبي : يعني قوله تعالى : ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) وكل من خالف أمر الشرع فهو متخذ آيات الله هزواً ، وقال أبو الدرداء : هو أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول : كنت لاعباً ، ويعتق ويقول : مثل ذلك ، وينكح ويقول مثل ذلك .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الحرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمرو الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا على بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، عن أبي حبيب بن أردك هو عبد الرحمن بن حبيب وابن ماهك هو يوسف بن ماهك عن عطاء بن أبي رباح عن أبي ماهك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والرجعة " .
قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم } . بالإيمان .
قوله تعالى : { وما أنزل عليكم من الكتاب } . يعني : القرآن .
قوله تعالى : { والحكمة } . يعني : السنة ، وقيل : مواعظ القرآن .
قوله تعالى : { يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم } .
ثم قال تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } أي : طلاقا رجعيا بواحدة أو ثنتين .
{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : قاربن انقضاء عدتهن .
{ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : إما أن تراجعوهن ، ونيتكم القيام بحقوقهن ، أو تتركوهن بلا رجعة ولا إضرار ، ولهذا قال : { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } أي : مضارة بهن { لِتَعْتَدُوا } في فعلكم هذا الحلال ، إلى الحرام ، فالحلال : الإمساك بمعروف{[145]} والحرام : المضارة ، { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ولو كان الحق يعود للمخلوق فالضرر عائد إلى من أراد الضرار .
{ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } لما بين تعالى حدوده غاية التبيين ، وكان المقصود ، العلم بها والعمل ، والوقوف معها ، وعدم مجاوزتها ، لأنه تعالى لم ينزلها عبثا ، بل أنزلها بالحق والصدق والجد ، نهى عن اتخاذها هزوا ، أي : لعبا بها ، وهو التجرؤ عليها ، وعدم الامتثال لواجبها ، مثل استعمال المضارة في الإمساك ، أو الفراق ، أو كثرة الطلاق ، أو جمع الثلات ، والله من رحمته جعل له واحدة بعد واحدة ، رفقا به وسعيا في مصلحته .
{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } عموما باللسان ثناء وحمدا ، وبالقلب اعترافا وإقرارا ، وبالأركان بصرفها في طاعة الله ، { وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } أي : السنة اللذين بيّن لكم بهما طرق الخير ورغبكم فيها ، وطرق الشر وحذركم إياها ، وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه ، وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
وقيل : المراد بالحكمة أسرار الشريعة ، فالكتاب فيه ، الحكم ، والحكمة فيها ، بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه ، وكلا المعنيين صحيح ، ولهذا قال { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي : بما أنزل عليكم ، وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة ، أسرار الشريعة ، لأن الموعظة ببيان الحكم والحكمة ، والترغيب ، أو الترهيب ، فالحكم به ، يزول الجهل ، والحكمة مع الترغيب ، يوجب الرغبة ، والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } في جميع أموركم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فلهذا بيّن لكم هذه الأحكام بغاية الإحكام والإتقان التي هي جارية مع المصالح في كل زمان ومكان ، [ فله الحمد والمنة ] .
وبعد أن بين - سبحانه - في الآية السابقة أن الزوج مخير بين الإِمساك والتسريح في مدة العدة ، عقب ذلك ببيان أن هذا التخيير من حقه حتى آخر وقت في العدة ، وذلك لتذكيره بأن الإِمساك أفضل من التسريح ، وأن عليه ألا يلجأ إلى الطلاق إلا إذا سدجت طرق الإِصلاح والمعالجة ، وأنه إذا اختار الطلاق فعليه أن يسلك فيه طريق الحق والعدل لا طريق الباطل والجور .
قال - تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } .
قال الراغب : الأجل : المدة المضروبة للشيء . قال - تعالى - { ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى . . } - أي مدة معينة - والبلوغ والبلاغ الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى مكاناً كان أو زماناً أو أمراً من الأمور المقدرة ، وربما يعبر به عن المشارفة عليه وإن لم يننه . فمن الانتهاء قوله - تعالى - : { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } وأما قوله : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فللمشارفة فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل لا يصح للزوج مراجعتها وإمساكها " .
والمراد بالأجل هنا عدة المرأة . وببلوغها قرب انتهائها .
والضرار - كما يقول الرازي - هو المضارة . قال - تعالى - : { والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً } أي اتخذوا المسجد ضرراً ليضاروا المؤمنين ، ومعناه يرجع إلى إثارة العداوة ، وإزالة الألفة ، وإيقاع الوحشة ، وموجبات النفرة " .
والمعنى : وإذا طلقتم - أيها المؤمنون - نساءكم طلاقاً رجعياً ، { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي فشارفت عدتهن على الانتهاء ، وقاربت الانقضاء ، فعليكم أن تتدبروا مليا في أمركم ، فإن رأيتم الأصلح في بقائهن معكم فنفذوا ذلك وأمسكوهن بمعروف .
أي بما هو المعروف من شرع الله الحكيم ، وبما تقره الأخلاق الحسنة والعقول السليمة . وإن رأيتم أنه لا رغبة لكم في البقاء معهن فسرحوهن بمعروف أي فأمضوا الطلاق وتفارقوا بالطريقة التي يرضاها الحق - سبحانه - بأن تؤدوا لهن حقوقهن . ولا تذكروهن بسوء بعد انفصالكم عنهن ، فهذا شأن الأتقياء الصالحين فقد سئل بعضهم ، لم طلقت امرأتك ؟ فقال : إن العاقل لا يذكر ما بينه وبين أهله .
قال القرطبي : معنى ( بلغن ) قاربن بإجماع من العلماء ، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك ، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإِمساك ، وهو في الآية التي بعدها بمعنى الانتهاء ، لأن المعنى يقتضي ذلك ، فهو حقيقة في الثانية ، مجاز في الأولى - أي التي معنا - " .
ثم نهى - سبحانه - عن الإِمساك الذي يكون معه الضرر فقال . { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } أي لا تراجعوهن إرادة الضرر بهن والإيذاء لهن لتعتدوا عليهن ، والجملة الكريمة تأكيد للأمر بالإِمساك بمعروف ، وتوضيح لمعناه ، وزجر صريح عما كان يفعله يعضهم من مراجعته لامرأته قبل انتهاء عدتها لا لقصد الإِبقاء على الزوجية وإنما القصد إطاعة عدة الزوجة ، أو لقصد أن تفتدي نفسها منه بالمال : { ضِرَاراً } منصوب على الحال في تمسكوهن أو على أنه مفعول لأجله . واللام في قوله : { لِّتَعْتَدُواْ } هي لام العاقبة أي لتكون عاقبة أمركم الاعتداء وحذف متعلق " لتعتدوا " ليتناول الاعتداء عليهن وعلى أحكام الله - تعالى - .
وقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } وعيد شديد لمن يقدم على ما نهى الله عنه . أي : ومن يراجع مطلقته بقصد الإِضرار بها والاعتداء عليها فقد ظلم نفسه ظلماً مؤكداً ، لأنه سيعرضها لعقاب الله وسخط الناس .
وجعل ظلمهم لنسائهم ظلماً لأنفسهم ، لأن عملهم هذا سيؤدي إلى اختللا المعاشرة الزوجية واضطرابها ، وشيوع العداوة والبغضاء بين الزوجين وبين أهلهما . ثم كرر - سبحانه - تحذير المخالفين لشريعته ، وذكرهم بألوان نعمه عليهم ليستجيبوا لأمره فقال : { وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ } .
آيات الله : أحكامه التي شرعها في شأن الطلاق وغيره .
والهزء - بضمتين - مصدر هزأ به إذا سخر ولعب وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول أي : مهزوءاً بها . وقوله { هُزُواً } مفعول ثان لتتخذوا .
والمراد بالحكمة هنا . السنة النبوية المطهرة .
والموعظة والعظة : النصح والتذكير بالخير . بما يرقق القلوب ، ويحذر النفوس مما نهى الله عنه .
أي : ولا تتخذوا - أيها الناس - آيات الله التي شرعها لكم في شأن الطلاق وغيره مهزوءاً بها بأن تعرضوا عنها ، وتتهاونوا في المحافظة عليها ، والتمسك بتعاليمها ، ومن مظاهر ذلك أن بعض الناس كان يكثر من التلفظ بالطلاق متوهما أن ذلك لا يضر ، أو كان يتخذ المراجعة وسيلة لإيذاء المرأة .
قال القرطبي : وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رجلا قال ابن عباس : " إني طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى على ؟ فقال ابن عباس : طلقت منك بثلاث ، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا " .
والجملة الكريمة نهى أريد به الأمر بضده ، أي جدوا في العمل بأوامر الله وآياته ، وارعوها حق رعايتها .
وقوله : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ } إلخ أي تذكروها في هدايتكم إلى الإِسلام ، وفي مشروعية الزوجية وفي غير ذلك مما لا يصحى من النعم وتدبروا نعم الله عليكم فقابلوها بالشكر ، واستعملوها فيما خلقت له ، وتذكروا كذلك ما أنزل الله عليكم بواسطة رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب وهو القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ، ومن الحكمة وهي السنة النبوية المطهرة ، بما جاء فيهما من توجيهات سامية ، وآداب عالية .
و " ما " في قوله : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } موصولة والعائد محذوف أي ما أنزله و " من " في قوله : { مِّنَ الكتاب } بيانية ، وجملة { يَعِظُكُمْ بِهِ } حال من فاعل أنزل أو من مفعوله ، والضمير في { به } يعود على الكتاب والحكمة بعد تأويلهما بالمذكور . وجعل ضميرها واحداً لأنهما في مؤداهما وغايتهما شيء واحد ، فالسنة ليست نابعة إلا من الكتاب ومنه أخذت قوتها وسلطانها .
وقوله - سبحانه - : في ختام الآية { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تذكير لهم بتقوى الله وخشيته ومراقبته ، وتحذير لهم من مخالفة أمره .
أي : صونوا أنفسكم عن كل ما يغضب الله - تعالى - فيما يتعلق بأمور الزوجية وفي غيرها مما شرعه لكم ، واعلموا أنه - سبحانه - عليم بكل شيء ، عليم بما تسرونه وما تعلنونه ، وسيحاسب كل إنسان بما قدمت يداه { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }
بعد ذلك يجيء التوجيه الإلهي للأزواج المطلقين . توجيههم إلى المعروف واليسر والحسنى بعد الطلاق في جميع الأحوال :
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ؛ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . ولا تتخذوا آيات الله هزوا ؛ واذكروا نعمة الله عليكم ، وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ؛ واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) .
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ، ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .
إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة . سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها . ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرا من عناصرها . ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس ، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية . عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن ، ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير . . هو عنصر الإيمان بالله . والإيمان باليوم الآخر . وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان - أرفع النعم - إلى نعمة الصحة والرزق . واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة . . وهذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان هنا عن إيثار المعروف والجميل والحسنى ، سواء اتصلت حبال الحياة الزوجية أو انفصمت عراها .
ولقد كانت المرأة في الجاهلية تلاقي من العنت ما يتفق وغلظ الجاهلية وانحرافها . كانت تلقى هذا العنت طفلة توأد في بعض الأحيان ، أو تعيش في هون ومشقة وإذلال ! وكانت تلقاه زوجة هي قطعة من المتاع للرجل ، أغلى منها الناقة والفرس وأعز ! وكانت تلقاه مطلقة . تعضل فتمنع من الزواج حتى يسمح مطلقها ويأذن ! أو يعضلها أهلها دون العودة إلى مطلقها ، إن أرادا أن يتراجعا . . وكانت النظرة إليها بصفة عامة نظرة هابطة زرية ، شأنها في هذا شأن سائر الجاهليات السائدة في الأرض في ذلك الأوان .
ثم جاء الإسلام . . جاء ينسم على حياة المرأة هذه النسمات الرخية التي نرى هنا نماذج منها . وجاء يرفع النظرة إليها فيقرر أنها والرجل نفس واحدة من خلقة بارئها . . وجاء يرتفع بالعلاقات الزوجية إلى مرتبة العبادة عند الإحسان فيها . . هذا ولم تطلب المرأة شيئا من هذا ولا كانت تعرفه . ولم يطلب الرجل شيئا من هذا ولا كان يتصوره . إنما هي الكرامة التي أفاضها الله من رحمته للجنسين جميعا ، على الحياة الإنسانية جميعا . .
( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف . ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) . .
والمقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة . فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الاصلاح - والمعاملة بالمعروف - وهذا هو الإمساك بالمعروف . . وإما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة - وهذا هو التسريح بإحسان ، بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء . .
( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) . .
وذلك كالذي روي عن الأنصاري الذي قال لامرأته : والله لا آويك ولا أفارقك ! فهذا هو الإمساك بغير إحسان . إمساك الضرار الذي لا ترضاه سماحة الإسلام . وهو الإمساك الذي تكرر النهي عنه في هذا السياق ؛ لأنه فيما يبدو كان شائعا في البيئة العربية : ويمكن أن يشيع في أية بيئة لم الإسلام ، ولم يرفعها الإيمان . .
وهنا يستجيش القرآن أنبل المشاعر ؛ كما يستجيش عاطفة الحياء من الله ، وشعور الخوف منه في آن . ويحشد هذه المؤثرات كلها ليخلص النفوس من أوضاع الجاهلية وآثارها ؛ ويرتفع بها إلى المستوى الكريم الذي يأخذ بيدها إليه :
( ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . ولا تتخذوا آيات الله هزوا . واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به . واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) . .
إن الذي يمسك المطلقة ضرارا واعتداء يظلم نفسه . فهي أخته . من نفسه . فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه . وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية ، والجموح بها عن طريق الطاعة . . وهذه هي اللمسة الأولى .
وآيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة ، تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق ؛ فإذا هو استغلها في الحاق الإضرار والأذى بالمرأة ، متلاعبا بالرخص التي جعلها الله متنفسا وصمام آمن ، واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها ، في إمساكالمراة لإيذائها وإشقائها . . إذا فعل شيئا من هذا فقد اتخذ آيات الله هزوا - وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعى الإسلام في هذه الأيام ، من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد . ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام - وويل لمن يستهزيء بآيات الله دون حياء من الله .
ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة . وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به . . وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم ، شاملة لهذه الحياة . .
وأول ما كان يخطر على بالهم من نعمة الله عليهم ، هو وجودهم ذاته كأمة . . فماذا كان أولئك العرب والأعراب قبل أن يأتيهم الإسلام ؟ أنهم لم يكونوا شيئا مذكورا . لم تكن الدنيا تعرفهم ولا تحس بهم . كانوا فرقا ومزقا لا وزن لها ولا قيمة . لم يكن لديهم شيء يعطونه للبشرية فتعرفهم به . بل لم يكن لديهم شيء يعطونه لأنفسهم فيغنيهم . لم يكن لديهم شيء على الإطلاق . لا مادي ولا معنوي . . كانوا فقراء يعيشون في شظف . إلا قلة منهم تعيش في ترف ، ولكنه ترف غليظ ساذج هابط أشبه شيء بترف الأوابد التي تكثر في أوكارها الفرائس ! وكانوا كذلك فقراء العقل والروح والضمير . عقيدتهم مهلهلة ساذجة سخيفة . وتصورهم للحياة بدائي قبلي محدود . واهتماماتهم في الحياة لا تتعدى الغارات الخاطفة ، والثارات الحادة ، واللهو والشراب والقمار ، والمتاع الساذج الصغير على كل حال !
ومن هذه الوهدة المغلقة أطلقهم الإسلام . بل أنشأهم إنشاء . أنشأهم ومنحهم الوجود الكبير ، الذي تعرفهم به الإنسانية كلها . أعطاهم ما يعطونه لهذه الإنسانية . أعطاهم العقيدة الضخمة الشاملة التي تفسر الوجود كما لم تفسره عقيدة قط ؛ والتي تمكنهم من قيادة البشرية قيادة راشدة رفيعة . وأعطاهم الشخصية المميزة بهذه العقيدة التي تجعل لهم وجودا بين الأمم والدول ، ولم يكن لهم قبلها أدنى وجود . وأعطاهم القوة التي تعرفهم بها الدنيا وتحسب لهم معها حسابا ، وكانوا قبلها خدما للإمبراطوريات من حولهم ، أو مهملين لا يحس بهم أحد . وأعطاهم الثروة كذلك بما فتح عليهم في كل وجهة . . وأكثر من هذا أعطاهم السلام ، سلام النفس . وسلام البيت وسلام المجتمع الذي يعيشون فيه . أعطاهم طمأنينة القلب وراحة الضمير والاستقرار على المنهج والطريق . . وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف في الأرض ؛ فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين . .
فإذا ذكرهم الله بالنعمة هنا ، فهم يذكرون شيئا حاضرا في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر . وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد . وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر . . وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به . . والقرآن يقول لهم : ( وما أنزل عليكم ) . . بضمير المخاطب ؛ ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم ، والله ينزل عليهم هذه الآيات ، التي يتألف منها المنهج الرباني ، ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة . .
ثم يلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة في هذه الآية ، وهو يخوفهم الله ويذكرهم أنه بكل شيء عليم :
( واتقوا الله ، واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) . .
فيستجيش شعور الخوف والحذر ، بعد شعور الحياء والشكر . . ويأخذ النفس من أقطارها ، ليقودها في طريق السماحة والرفق والتجمل . .
{ وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنّ ضِرَاراً لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وإذا طلقتم أيها الرجال نساءكم فبلغن أجلهن ، يعني ميقاتهن الذي وقته لهن من انقضاء الأقراء الثلاثة إن كانت من أهل الأقراء وانقضاء الأشهر ، إن كانت من أهل الشهور ، فأَمْسِكُوهُنّ يقول : فراجعوهن إن أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة ، وذلك إما في التطليقة الواحدة أو التطليقتين كما قال تعالى ذكره : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ .
وأما قوله : بِمَعْرُوفٍ فإنه عنى بما أذن به من الرجعة من الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة دون الرجعة بالوطء والجماع ، لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة ، وعلى الصحبة مع ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس . أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ يقول : أو خلّوهن يقضين تمام عدتهنّ وينقضي بقية أجلهنّ الذي أجلته لهنّ لعددهن بمعروف ، يقول : بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم . وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا يقول : ولا تراجعوهنّ إن راجعتموهنّ في عددهنّ مضارة لهنّ لتطوّلوا عليهنّ مدة انقضاء عددهنّ ، أو لتأخذوا منهنّ بعض ما آتيتموهنّ بطلبهنّ الخلع منكم لمضارّتكم إياهنّ بإمساككم إياهنّ ، ومراجعتكموهنّ ضرارا واعتداء .
وقوله : لِتَعْتَدُوا يقول : لتظلموهنّ بمجاوزتكم في أمرهنّ حدودي التي بينتها لكم .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : وَلا تُمْسِكوهُن ضِرَارا قال : يطلقها حتى إذا كادت تنقضي راجعها ، ثم يطلقها ، فيدعها ، حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها ، ولا يريد إمساكها ، فذلك الذي يضارّ ويتخذ آيات الله هزوا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سئل الحسن عن قوله تعالى : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : كان الرجل يطلق المرأة ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، ثم يراجعها يضارّها فنهاهم الله عن ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ قال نهى الله عن الضرار ضرارا أن يطلق الرجل امرأته ، ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأجل حتى يفي لها تسعة أشهر ليضارّها به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : نهى عن الضرار ، والضرارُ في الطلاق : أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها . وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ، ثم يطلقها ، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها ، فأنزل الله هذه الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : كان الرجل يطلق امرأته تطليقة واحدة ثم يدعها ، حتى إذا ما تكاد تخلو عدتها راجعها ، ثم يطلقها ، حتى إذا ما كاد تخلو عدتها راجعها ، ولا حاجة له فيها ، إنما يريد أن يضارّها بذلك ، فنهى الله عن ذلك وتقدم فيه ، وقال : وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال : قال الله تعالى ذكره : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا فإذا طلق الرجل المرأة وبلغت أجلها فليراجعها بمعروف أو ليسرحها بإحسان ، ولا يحلّ له أن يراجعها ضرارا ، وليست له فيها رغبة إلا أن يضارّها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : هو في الرجل يحلف بطلاق امرأته ، فإذا بقي من عدتها شيء راجعها يضارّها بذلك ، ويطوّل عليها فنهاهم الله عن ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك بن أنس ، عن ثور بن زيد الديلي : أن رجلاً كان يطلق امرأته ثم يراجعها ، ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها ، كيما يطوّل عليها بذلك العدّة ليضارّها فأنزل الله تعالى ذكره : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ يعظّم ذلك .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ولا تُمْسِكُوهُنّ ضِرارا : هو الرجل يطلق امرأته واحدة ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ليضارّها بذلك لتختلع منه .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا قال : نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ، ففعل ذلك بها ، حتى مضت لها تسعة أشهر مضارّة يضارّها ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا .
حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرني أبي ، قال : سمعت عبد العزيز يسأل عن طلاق الضرار ، فقال : يطلق ثم يراجع ، ثم يطلق ، ثم يراجع ، فهذا الضرار الذي قال الله : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : الرجل يطلق امرأته تطليقة ، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها تطليقة ، ثم يمسك عنها حتى تحيض ثلاث حيض ، ثم يراجعها لتعتدوا قال : لا يطاول عليهن .
وأصل التسريح من سَرْحِ القوم ، وهو ما أطلق من نعمهم للرعي ، يقال للمواشي المرسلة للرعي : هذا سَرْح القوم ، يراد به مواشيهم المرسلة للرعي ، ومنه قول الله تعالى ذكره : والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَناِفعُ وَمِنْهَا تَأكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون يعني بقوله حين تسرحون : حين ترسلونها للرعي فقيل للمرأة إذا خلاها زوجها فأبانها منه : سَرّحها ، تمثيلاً لذلك بتسريح المسرّح ماشيته للرعي وتشبيها به .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .
يعني تعالى ذكره بذلك : ومن يراجع امرأته بعد طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة ضرارا بها ليعتدي حدّ الله في أمرها ، فقد ظلم نفسه ، يعني فأكسبها بذلك إثما ، وأوجب لها من الله عقوبة بذلك .
وقد بينا معنى الظلم فيما مضى ، وأنه وضع الشيء في غير موضعه وفعل ما ليس للفاعل فعله .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .
يعني تعالى ذكره : ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله بين حلاله وحرامه وأمره ونهيه في وحيه وتنزيله استهزاءً ولعبا ، فإنه قد بين لكم في تنزيله وآي كتابه ما لكم من الرجعة على نسائكم في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة ، وما ليس لكم منها ، وما الوجه الجائز لكم منها وما الذي لا يجوز ، وما الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة وما ليس لكم ذلك فيه ، وكيف وجوه ذلك رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم ، ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن كان فيه من صاحبه مما هو فيه المخرج والمخلص بالطلاق والفراق ، وجعل ما جعل لكم عليهنّ من الرجعة سبيلاً لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه بعد فراقه إياهن منهن ، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن ، إنعاما منه بذلك عليكم ، لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنزيلي تفضلاً مني ببيانه عليكم ، وإنعاما ورحمة مني بكم لعبا وسخريا .
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبّوبَةَ ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أيوب بن سليمان ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن أرقم ، أن الحسن حدثهم : أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطّلق الرجل أو يعتق ، فيقال : ما صنعت ؟ فيقول : إنما كنت لاعبا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ طَلّق لاعِبا أوْ أعْتَق لاعِبا فَقَدْ جاز عَلَيْهِ » قال الحسن : وفيه نزلت : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا قال : كان الرجل يطلق امرأته ، فيقول : إنما طلقت لاعبا ، ويتزوّج أو يعتق أو يتصدّق فيقول : إنما فعلت لاعبا ، فنهوا عن ذلك ، فقال تعالى ذكره : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .
3حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن عبد الرحمن ، عن أبي العلاء ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعريين فأتاه أبو موسى ، فقال : يا رسول الله غضبت على الأشعريين فقال : «يَقُولُ أحَدُكُمْ قَدْ طَلّقْتُ قَد راجَعْتُ لَيْسَ هَذا طَلاقَ المُسْلِمِين ، طَلّقُوا المَرأةَ في قُبْلِ عِدّتِها » .
حدثنا أبو زيد ، عن ابن شبة ، قال : حدثنا أبو غسان النهدي ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن أبي خالد ، يعني الدالاني ، عن أبي العلاء الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم : «يَقُولُ أحَدُكُمْ لاِمْرأتِهِ : قَدْ طَلّقْتُكِ ، قَدْ راجَعْتُكِ لَيْس هَذَا بِطَلاق المُسْلِمِين ، طَلّقُوا المَرأةَ في قُبْلِ عِدّتِها » .
القول في تأويل قوله تعالى : واذْكُرُوا نِعْمَة اللّهِ عَلَيْكُمْ وَما أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ .
يعني تعالى ذكره بذلك : واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام ، الذي أنعم عليكم به ، فهداكم له ، وسائر نعمه التي خصكم بها دون غيركم من سائر خلقه ، فاشكروه على ذلك بطاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه ، واذكروا أيضا مع ذلك ، ما أنزل عليكم من كتابه ذلك ، القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، واذكروا ذلك فاعلموا به ، واحفظوا حدوده فيه . والحكمة : يعني : وما أنزل عليكم من الحكمة ، وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لكم . وقد ذكرت اختلاف المختلفين في معنى الحكمة فيما مضى قبل في قوله : ويُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحَكْمَةَ فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
يعني تعالى ذكره بقوله : يَعِظُكُمْ بِهِ يعظكم بالكتاب الذي أنزل عليكم . والهاء التي في قوله «به » عائدة على الكتاب . وَاتّقُوا اللّهَ يقول : وخافوا الله فيما أمركم به ، وفيما نهاكم عنه في كتابه الذي أنزله عليكم ، وفيما أنزله فبينه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم أن تضيعوه وتتعدوا حدوده ، فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه ، ونكال عذابه . وقوله : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : واعلموا أيها الناس أن ربكم الذي حدّ لكم هذه الحدود ، وشرع لكم هذه الشرائع ، وفرَض عليكم هذه الفرائض في كتابه وفي تنزيله ، على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما أنتم عاملوه من خير وشرّ ، وحسن وسيىء ، وطاعة ومعصية ، عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره شيء ، وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا ، وبالسيىء سيئا ، إلا أن يعفو ويصفح فلا تتعرّضوا لعقابه ، ولا تظلموا أنفسكم .
عطف على جملة : { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا } [ البقرة : 230 ] الآية عطف حكم على حكم ، وتشريع على تشريع ، لقصد زيادة الوصاة بحسن المعاملة في الاجتماع والفرقة ، وما تبع ذلك من التحذير الذي سيأتي بيانه .
وقوله : { فبلغهن أجلهن } مؤذن بأن المراد : وإذا طلقتم النساء طلاقاً فيه أجل . والأجل هنا لما أضيف إلى ضمير النساء المطلقات علم أنه أجل معهود بالمضاف إليه ، أعني أجل الانتظار وهو العدة ، وهو التربص في الآية السابقة .
وبلوغ الأجل : الوصول إليه ، والمراد به هنا مشارفة الوصول إليه بإجماع العلماء ؛ لأن الأجل إذا انقضى زال التخيير بين الإمساك والتسريح ، وقد يطلق البلوغ على مشارفة الوصول ومقاربته ، توسعاً أي مجازاً بالأوْل . وفي القاعدة الخامسة من الباب الثامن من « مغني اللبيب » أن العرب يعبرون بالفعل عن أمور : أحدها ، وهو الكثير المتعارف عن حصول الفعل وهو الأصل . الثاني : عن مشارفته نحو { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً } [ البقرة : 240 ] أي يقاربون الوفاة ، لأنه حينَ الوصية . الثالث : إرادته نحو { إذا قمتم إلى الصلوات فاغسلوا } [ المائدة : 6 ] . الرابع : القدرة عليه نحو { وعداً علينا إنا كنا فاعلين } [ الأنبياء : 104 ] أي قادرين .
والأجل في كلام العرب يطلق على المدة التي يمهل إليها الشخص في حدوث حادث معين ، ومنه قولهم : ضرب له أجلاً { أيما الأجلين قضيت } [ القصص : 28 ] .
والمراد بالأجل هنا آخر المدة ، لأن قوله : { فبلغن } مؤذن بأنه وصول بعد مسير إليه ، وأسند ( بلغن ) إلى النساء لأنهن اللاتي ينتظرن انقضاء الأجل ، ليخرجن من حبس العدة ، وإن كان الأجل للرجال والنساء معاً ، للأوَّلين توسعة للمراجعة ، وللأخيرات تحديداً للحِل للتزوج . وأضيف الأجل إلى ضمير النساء لهاته النكتة .
والقول في الإمساك والتسريح مضى قريباً . وفي هذا الوجه تكرير الحكم المفاد بقوله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] فأجيب عن هذا بما قاله الفخر : إن الآية السابقة أفادت التخيير بين الإمساك والتسريح في مدة العدة ، وهذه أفادت ذلك التخيير في آخر أوقات العدة ، تذكيراً بالإمساك وتحريضاً على تحصيله ، ويستتبع هذا التذكير الإشارة إلى الترغيب في الإمساك ، من جهة إعادة التخيير بعد تقدم ذكره ، وذكر التسريح هنا مع الإمساك ، ليظهر معنى التخيير بين أمرين وليتوسل بذلك إلى الإشارة إلى رغبة الشريعة في الأمساك وذلك بتقديمه في الذكر ؛ إذ لو يذكر الأمران لما تأتى التقديم المؤذن بالترغيب وعندي أنه على هذا الوجه أعيد الحكم ، وليبني عليه ما قصد من النهي عن الضرار وما تلا ذلك من التحذير والموعظة وذلك كله مما أبعد عن تذكره الجمل السابقة التي اقتضى الحال الاعتراض بها .
وقوله : { أو سرحوهن بمعروف } قيد التسريح هنا بالمعروف ، وقيد في قوله السالف { أو تسريح بإحسان } ، بالإحسان للإشارة إلى أن الإحسان المذكور هنالك ، هو عين المعروف الذي يعرض للتسريح ، فلما تقدم ذكره لم يُحتج هنا إلى الفرق بين قيده وقيد الإمساك . أو لأن إعادة أحوال الإمساك والتسريح هنا ليبنى عليه النهي عن المضارة ، والذي تخاف مضارته بمنزلة بعيدة عن أن يطلب منه الإحسان ، فطلب منه الحق ، وهو المعروف الذي عدم المضارة من فروعه ، سواء في الإمساك أو في التسريح ، ومضارة كل بما يناسبه .
وقال ابن عرفة : « تقدم أن المعروف أخف من الإحسان فلما وقع الأمر في الآية الأخرى بتسريحهن مقارناً للإحسان ، خيف أن يتوهم أن الأمر بالإحسان عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيهاً على أن الأمر للندب لا للوجوب » .
وقوله : { ولا تمسكوهن ضراراً } تصريح بمفهوم { فأمسكوهن بمعروف } إذ الضرار ضد المعروف ، وكأن وجه عطفه مع استفادته من الأمر بضده التشويه بذكر هذا الضد لأنه أكثر أضداد المعروف يقصده الأزواج المخالفون لحكم الإمساك بالمعروف ، مع ما فيه من التأكيد ، ونكتته تقرير المعنى المراد في الذهن بطريقتين غايتهما واحدة وقال الفخر : نكتة عطف النهي على الأمر بالضد في الآية هي أن الأمر لا يقتضي التكرار بخلاف النهي ، وهذه التفرقة بين الأمر والنهي غير مسلمة ، وفيها نزاع في علم الأصول ، ولكنه بناها على أن الفرق بين الأمر والنهي هو مقتضى اللغة . على أن هذا العطف إن قلنا : إن المعروف في الإمساك حيثما تحقق انتفى الضرار ، وحيثما انتفى المعروف تحقق الضرار ، فيصير الضرار مساوياً لنقيض المعروف ، فلنا أن نجعل نكتة العطف حينئذٍ لتأكيد حكم الإمساك بالمعروف : بطريقي إثبات ونفي ، كأنه قيل : ( ولا تمسكوهن إلاّ بالمعروف ) ، كما في قول السموأل :
تسيل على حد الظُّباتِ نُفُوسنا *** وليستْ على غير الظُّبات تسيل
والضرار مصدر ضارَّ ، وأصل هذه الصيغة أن تدل على وقوع الفعل من الجانبين ، مثل خاصم ، وقد تستعمل في الدلالة على قوة الفعل مثل : عافاك الله ، والظاهر أنها هنا مستعملة للمبالغة في الضر ، تشنيعاً على من يقصده بأنه مفحش فيه .
ونصب { ضراراً } على الحال أو المفعولية لأجله .
وقوله : { لتعتدوا } جُرَّ باللام ولم يعطف بالفاء ؛ لأن الجر باللام هو أصل التعليل ، وحذف مفعول « تعتدوا » ليشمل الاعتداء عليهن وعلى أحكام الله تعالى ، فتكون اللام مستعملة في التعليل والعاقبة . والاعتداء على أحكام الله لا يكون علة للمسلمين ، فنزل منزلة العلة مجازاً في الحصول ، تشنيعاً على المخالفين ، فحرف اللام مستعمل في حقيقته ومجازه .
وقوله { فقد ظلم نفسه } جعل ظلمهم نساءهم ظلماً لأنفسهم ، لأنه يؤدي إلى اختلال المعاشرة واضطراب حال البيت وفوات المصالح بشغب الأذهان في المخاصمات . وظلم نفسه أيضاً بتعريضها لعقاب الله في الآخرة .
{ وَلاَ تتخذوا آيات الله هُزُؤًًا واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُم بِهِ واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } .
عطف هذا النهي على النهي في قوله : { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } لزيادة التحذير من صنيعهم في تطويل العدة ، لقصد المضارة ، بأن في ذلك استهزاء بأحكام الله التي شرع فيها حق المراجعة ، مريداً رحمة الناس ، فيجب الحذر من أن يجعلوها هزءاً .
وآيات الله هي ما في القرآن من شرائع المراجعة نحو قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] إلى قوله { وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } [ البقرة : 230 ] .
والهزء بضمتين مصدر هزأ به إذا سخر ولعب ، وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول ، أي لا تتخذوها مستهزأ به ، ولما كان المخاطب بهذا المؤمنين ، وقد علم أنهم لم يكونوا بالذين يستهزئون بالآيات ، تعين أن الهزء مراد به مجازه وهو الاستخفاف وعدم الرعاية ، لأن المستخف بالشيء المهم يعد لاستخفافه به ، مع العلم بأهميته ، كالساخر واللاعب . وهو تحذير للناس من التوصل بأحكام الشريعة إلى ما يخالف مراد الله ، ومقاصد شرعه ، ومن هذا التوصل المنهي عنه ، ما يسمى بالحيل الشرعية بمعنى أنها جارية على صور صحيحة الظاهر ، بمقتضى حكم الشرع ، كمن يهب ماله لزوجه ليلة الحول ليتخلص من وجوب زكاته ، ومن أبعد الأوصاف عنها الوصف بالشرعية .
فالمخاطبون بهذه الآيات محذرون أن يجعلوا حكم الله في العدة ، الذي قصد منه انتظار الندامة وتذكر حسن المعاشرة ، لعلهما يحملان المطلق على إمساك زوجته حرصاً على بقاء المودة والرحمة ، فيغيروا ذلك ويجعلوه وسيلة إلى زيادة النكاية ، وتفاقم الشر والعداوة . وفي « الموطأ » أن رجلاً قال لابن عباس : إني طلقت امرأتي مائة طلقة فقال له ابن عباس « بانت منك بثلاث ، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزءاً » يريد أنه عمد إلى ما شرعه الله من عدد الطلاق ، بحكمة توقع الندامة مرة أولى وثانية ، فجعله سبب نكاية وتغليظ ، حتى اعتقد أنه يضيق على نفسه المراجعة إذ جعله مائة .
ثم إن الله تعالى بعد أن حذرهم دعاهم بالرغبة فقال : { واذكروا نعمت الله عليكم } فذكرهم بما أنعم عليهم بعد الجاهلية بالإسلام ، الذي سماه نعمة كما سماه بذلك في قوله : { واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } [ آل عمران : 103 ] فكما أنعم عليكم بالإنسلاخ عن تلك الضلالة ، فلا ترجعوا إليها بالتعاهد بعد الإسلام .
وقوله : { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } معطوف على ( نعمة ) ، وجملة { يعظكم به } حال ويجوز جعله مبتدأ ؛ وجملة { يعظكم } خبراً ، والكتاب : القرآن . والحكمة : العلم المستفاد من الشريعة ، وهو العبرة بأحوال الأمم الماضية وإدراك مصالح الدين ، وأسرار الشريعة ، كما قال تعالى ، بعد أن بين حكم الخمر والميسر { كذلك يبين الله لكم الأَيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } [ البقرة : 219 ، 220 ] ومعنى إنزال الحكمة أنها كانت حاصلة من آيات القرآن كما ذكرنا ، ومن الإيماء إلى العلل ، ومما يحصل أثناء ممارسة الدين ، وكل ذلك منزل من الله تعالى بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومن فسر الحكمة بالسنة فقد فسرها ببعض دلائلها .
والموعظة والوعظ : النصح والتذكير بما يلين القلوب ، ويحذر الموعوظ .
وقوله : { واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم } تذكير بالتقوى وبمراعاة علمهم بأن الله عليم بكل شيء تنزيلاً لهم في حين مخالفتهم بأفعالهم لمقاصد الشريعة ، منزلة من يجهل أن الله عليم ، فإن العليم لا يخفى عليه شيء ، وهو إذا علم مخالفتهم لا يحول بين عقابه وبينهم شيء ، لأن هذا العليم قدير .