البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (231)

بلغ : يبلغ بلوغاً ، وصل إلى الشيء ، قال الشاعر :

ومجر كغلاّن الأنيعم بالغ***

دياراً لعدو ذي زهاء وأركان

والبلغة منه ، والبلاغ الأصل ، يقع على المدة كلها وعلى آخرها .

يقال لعمر الانسان : أجل : وللموت الذي ينتهي : أجل ، وكذلك الغاية والأمد .

{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ } نزلت في ثابت بن بشار ، ويقال أسنان الأنصاري ، طلق امرأته حتى إذا بقي من عدّتها يومان أو ثلاثة ، وكادت أن تبين راجعها ، ثم طلقها ثم راجعها ، ثم طلقها حتى مضت سبعة أشهر مضارّة لها ، ولم يكن الطلاق يومئذ محصوراً .

والخطاب في : طلقتم ظاهره أنه للأزواج ، وقيل : لثابت بن يسار ، خوطب الواحد بلفظ الجمع للاشتراك في الحكم وأبعد من قال : إن الخطاب للأولياء لقوله : { فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف } ونسبة الطلاق والإمساك والتسريح للأولياء بعيد جداً .

فبلغن أي : قاربن انقضاء العدة والأجل ، هو الذي ضربه الله للمعتدّات من الأقراء ، والأشهر ، ووضع الحمل .

وأضاف الأجل إليهن لأنه أمس بهنّ ، ولهذا قيل : الطلاق للرجال والعدة للنساء ، ولا يحمل : بلغن أجلهنّ على الحقيقة ، لأن الإمساك إذ ذاك ليس له ، لأنها ليست بزوجة ، إذ قد تقضت عدتها فلا سبيل له عليها .

{ فأمسكوهنّ بمعروف } أي راجعوهنّ قبل انقضاء العدّة ، وفسر المعروف بالإشهاد على الرجعة ، وقيل : بما يجب لها من حق عليه ، قاله بعض العلماء ، وهو قول عمر ، وعلي ، وأبي هريرة ، وابن المسيب ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، واسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ويحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، قالوا : الإمساك بمعروف هو أن ينفق عليها ، فإن لم يجد طلقها ، فإذا لم يفعل خرج عن حدّ المعروف ، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر الذي يلحقها بإقامتها عند من لا يقدر على نفقتها ، حتى قال ابن المسيب : إن ذلك سنة .

وفي ( صحيح ) البخاري : تقول المرأة إما أن تطعمني ، وإما أن تطلقني ! وقال عطاء ، والزهري ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا يفرق بينهما ، ويلزمها الصبر عليه ، وتتعلق النفقة بذمته لحكم الحاكم .

والقائلون بالفرقة اختلفوا ، فقال مالك : هي طلقة رجعية لأنها فرقة بعد البناء لم يستكمل بها العدد ، ولا كانت بعوض ، ولا لضرر بالزوج ، فكانت رجعية كضرر المولي .

وقال الشافعي : هي طلقة بائنة ، وقيل : بالمعروف من غير طلب ضرار بالمراجعة .

{ أو سرّحوهنّ بمعروف } أي : خلوهنّ حتى تنقضي عدتها ، وتبين من غير ضرار ، وعبر بالتسريح عن التخلية لأن مآلها إليه ، إذ بانقضاء العدّة حصلت البينونة .

{ ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا } هذا كالتوكيد لقوله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف } نهاهم أن لا يكون الإمساك ضراراً ، وحكمة هذا النهي أن الأمر في قوله : { فأمسكوهن بمعروف } يحصل بإمساكها مرة بمعروف ، هذا مدلول الأمر ، ولا يتناول سائر الأوقات وجاء النهي ليتناول سائر الأوقات وعمها ، ولينبه على ما كانوا يفعلونه من الرجعة ، ثم الطلاق ، ثم الرجعة ، ثم الطلاق على سبيل الضرار ، فنهى عن هذه الفعلة القبيحة بخصوصها ، تعظيماً لهذا المرتكب السيء الذي هو أعظم إيذاء النساء ، حتى تبقى عدتها في ذوات الأشهر تسعة أشهر .

ومعنى : ضراراً ، مضارة وهو مصدر ضار ضراراً ومضارّة ، وفسر بتطويل العدّة ، وسوء العشرة ، وبتضييق النفقة ، وهو أعم من هذا كله ، فكل إمساك لأجل الضرر والعدوان فهو منهي عنه .

وانتصب : ضراراً ، على أنه مفعول من أجله ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال ، أي : مضارين لتعتدوا ، أي : لتظلموهن ، وقيل : لتلجئوهن إلى الافتداء .

واللام : لام كي ، فإن كان ضراراً حالاً تعلقت اللام به ، أو : بلا تمسكوهن ، وإن كان مفعولاً من أجله تعلقت اللام به ، وكان علة للعلة ، تقول : ضربت ابني تأديباً لينتفع ، ولا يجوز أن يتعلق : بلا تمسكوهن ، لأن الفعل لا يقضي من المفعول من أجله اثنين إلاَّ بالعطف ، أو على البدل ، ولا يمكن هنا البدل لاجل اختلاف الإعراب ، ومن جعل اللام للعاقبة جوّز أن يتعلق : بلا تمسكوهن ، فيكون الفعل قد تعدى إلى علة وإلى عاقبة ، وهما مختلفان .

قوله تعالى { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } ذلك إشارة إلى الإمساك على سبيل الضرار والعدوان ، وظلم النفس بتعويضها العذاب ، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن العشرة ، ومنافع الدنيا من عدم رغبة التزويج به لاشتهاره بهذا الفعل القبيح .

{ ولا تتخذوا آيات الله هزوا } قال أبو الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول : طلقت وأنا لاعب ، ويعتق وينكح ويقول مثل ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال :

« من طلق أو حرّر أو نكح فزعم أنه لاعب فهو جدّ » وقال الزمخشري : أي جدّوا في الأخذ بها ، والعمل بما فيها ، وارعوها حق رعايتها وإلاَّ فقد اتخذتموها هزواً ولعباً ، ويقال لمن لم يجدّ في الأمر إنما أنت لاعب وهازئ .

انتهى كلامه .

وقاله معناه جماعة من المفسرين ، وقال ابن عطية ، المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي ، وخصها الكلبي بقوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } { ولا تمسكوهنّ } .

وقال الحسن : نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعباً أو هازلاً ، أو راجع كذلك ، والذي يظهر أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي في النكاح ، وأمر الحيض والإيلاء ، والطلاق والعدة ، والرجعة والخلع ، وترك المعاهدة ، وكانت هذه أحكامها جارية بين الرجل وزوجته ، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج ، وله عليها ، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن ، وكنّ عندهم أقل من أن يكون لهنّ أمر أو حق على الزوج ، فأنزل الله فيهنّ ما أنزل من الاحكام ، وحدّ حدوداً لا تتعدى ، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعدٍّ ، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله ، التي منها هذه الآيات النازله في شأن النساء ، هزؤاً ، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد ، لأنها من أحكام الله ، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف التي بين العبد وربه ، وبين العبد والناس .

وانتصب : هزؤاً ، على أنه مفعول ثانٍ : لتتخذوا ، وتقول : هزأ به هزؤاً استخف .

وقرأ حمزة : هزأ ، بإسكان الزاي ، وإذا وقف سهل الهمزة على مذهبه في تسهيل الهمز ، وذكروا في كيفية تسهيله عنده فيه وجوهاً تذكر في علم القراآت ، وهو من تخفيف فعل : كعنق ، وقد تقدم الكلام في ذلك .

قال عيسى بن عمر : كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وثانيه ففيه لغتان : التخفيف والتثقيل .

وقرأ هزواً بضم الزاي وابدال من الهمزة واواً ، وذلك لأجل الضم .

وقرأ الجمهور : هزؤاً بضمتين والهمز ، قيل : وهو الأصل ، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى : { أتتخذنا هزؤاً }

{ واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } هذا أمر معطوف على أمر في المعنى ، وهو : ولا تتخذوا آيات الله هزواً ، والنعمة هنا ليست التاء فيها للوحدة ، ولكنها بني عليها المصدر ، ويريد : النعم الظاهرة والباطنة ، وأجلها ما أنعم به من الإسلام ونبوّة محمد علية الصلاة والسلام .

و : ما أنزل عليكم ، معطوف على نعمة ، وهو تخصيص بعد تعميم ، إذ ما أنزل هو من النعمة ، وهذا قد ذكرنا أنه يسمى التجريد ، كقوله : { وجبريل وميكال } بعد ذكر الملائكة ، وتقدم القول فيه ، وأتى : بعليكم ، تنبيهاً للمأمورين وتشريفاً لهم ، إذ في الحقيقة ما أنزل إلاَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لما كنا مخاطبين بأحكامه ، ومكلفين باتباعه ، صار كأنه نزل علينا .

و : الكتاب ، القرآن ، و : الحكمة ، هي السنة التي بها كمال الأحكام التي لم يتضمنها القرآن ، والمبينة ما فيه من الإجمال .

ودل هذا على أن السنة أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى }

وقيل : وفي ظاهره رد على من زعم أن له الحكم بالاجتهاد ، لأن ما يحكم به من السنة ينزل من الله عليه ، فلا اجتهاد ، وذكر : النعم ، لا يراد به سردها على اللسان ، وإنما المراد بالذكر الشكر عليها ، لأن ذكر المسلم النعمة سبب لشكرها ، فعبر بالسبب عن المسبب ، فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون : عليكم ، في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة عليكم ، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا ، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا ، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون : عليكم ، متعلقاً بلفظ النعمة ، ويكون إذ ذاك مصدراً من : أنعم ، على غير قياس ، كنبات من أنبت .

وعليكم ، الثانية متعلقة بأنزل ، و : من ، في موضع الحال ، أي : كائناً من الكتاب ، ويكون حالاً من ما أنزل أو من الضمير العائد على الموصول المحذوف ، إذ تقديره : وما أنزل عليكم .

ومن أثبت لمن معنى البيان للجنس جوز ذلك هنا ، كأنه قيل : وما أنزله عليكم الذي هو الكتاب والسنة .

{ يعظكم به } يذكركم به ، والضمير عائد على : ما ، من قوله : وما أنزل ، وهي جملة حالية من الفاعل المستكن في : أنزل ، والعامل فيها : أنزل ، وجوزوا في : ما ، من قوله : وما أنزل ، أن يكون مبتدأ .

و : يعظكم ، جملة في موضع الخبر ، كأنه قيل : والمنزله الله من الكتاب والحكمة يعظكم به ، وعطفه على النعمة أظهر .

{ واتقوا الله } لما كان تعالى قد ذكر أوامر ونواهي ، وذلك بسبب النساء اللاتي هنّ مظنة الإهمال وعدم الرعاية ، أمر الله تعالى بالتقوى ، وهي التي بحصولها يحصل الفلاح في الدنيا والآخرة ، ثم عطف عليها ما يؤكد طلبها وهي قوله : { واعلموا أن الله بكل شيء عليم } والمعنى : بطلب العلم الديمومة عليه ، إذ هم عالمون بذلك ، وفي ذلك تنبيه على أنه يعلم نياتكم في المضارة والاعتداء ، فلا تلبسوا على أنفسكم .

وكرر اسم الله في قوله تعالى : { واتقوا الله } { واعلموا أن الله } لكونه من جملتين ، فتكريره أفخم ، وترديده في النفوس أعظم .

/خ233