فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (231)

( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ) البلوغ إلى الشئ معناه الحقيقي الوصول إليه ، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا مجازا لعلاقة مع قرينة كما هنا ، فانه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأن المراة إذا بلغت آخر جزء من مدة العدة وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للانقضاء فقد خرجت من العدة ولم يبق للزوج عليها سبيل .

قال القرطبي في تفسيره : إن معنى بلغن هنا قاربن بإجماع العلماء ، قال : ولأن المعنى يضطر إلى ذلك لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك ، يعني فالبلوغ هنا بلوغ مقاربة .

والمعنى قاربن انقضاء عدتهن وشارفن منتهاها ، ولم يرد انقضاء العدة كما يقال بلغ فلان البلد إذا قاربه وشارفه ، فهذا من باب المجاز الذي يطلق اسم الكل فيه على الأكثر ، وقيل : إن الأجل اسم للزمان فيحمل على الزمان الذي هو آخر زمان يكمن إيقاع الرجعة فيه بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة إلى الرجعة ، وعلى هذا التأويل فلا حاجة الى المجاز .

( فأمسكوهن ) أي راجعوهن ( بمعروف ) وهو أن يشهد على رجعتها وأن يراجعها بالقول لا بالوطء ، وقيل : الإمساك بمعروف هو القيام بحقوق الزوجية وهو الظاهر ، قيل : أعاده اعتناء بشأنه ومبالغة في إيجاب المحافظة عليه .

( أو سرحوهن بمعروف ) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن ، والمعنى إذا طلقتم النساء فقاربن آخر العدة فلا تضاروهن بالمراجعة من غير قصد لاستمرار الزوجية واستدامتها ، بل اختاروا أحد أمرين إما الإمساك بمعروف من غير قصد لضرار أو التسريح بإحسان أي تركها حتى تنقضي عدتها من غير مراجعة ضرارا .

( ولا تمسكوهن ضرارا ) كما كانت تفعل الجاهلية من طلاق المرأة حتى يقرب انقضاء عدتها ثم مراجعتها لا عن حاجة ولا لمحبة ولكن لقصد تطويل العدة وتوسيع مدة الانتظار ضرارا ( لتعتدوا ) أي لقصد الاعتداء منكم عليهن والظلم بهن ( ومن يفعل ذلك ) أي الإمساك المؤدي للضرار ( فقد ظلم نفسه ) لأنه عرضها لعقاب الله وسخطه في ضمن ظلمه لهن ، قال الزجاج : يعني عرض نفسه للعذاب لأن اتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله .

( ولا تتخذوا آيات الله هزوا ) أي بالإعراض عنها والتهاون بالعمل بما فيها من قولهم لمن لم يجد في الأمر : إنما أنت هاز كأنه نهى عن الهزو ، وأراد به الأمر بضده ، والمعنى لا تأخذوا أحكام الله على طريقة الهزو ، فإنها جد كلها فمن هزل فيها فقد لزمته .

نهاهم سبحانه أن يفعلوا كما كانت الجاهلية تفعل ، فإنه كان يطلق الرجل منهم أو يعتق أو يتزوج ويقول كنت لاعبا ، قال القرطبي : ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه .

أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد ، النكاح والطلاق والرجعة{[228]} " .

( واذكروا نعمة الله عليكم ) أي النعمة التي صرتم فيها بالإسلام وشرائعه بعد أن كنتم في جاهلية جهلاء ، وظلمات بعضها فوق بعض ( وما أنزل عليكم من الكتاب ) وهو القرآن ( والحكمة ) قال المفسرون هي السنة التي سنها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال الشافعي ( يعظكم به ) أي يخوفكم بما أنزل عليكم ، وأفرد الكتاب والحكمة بالذكر مع دخولهما في النعمة دخولا أوليا تنبيها على خطرهما ، وعظم شأنهما ( واتقوا الله ) يعني خافوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ( واعلموا أن الله بكل شئ عليم ) لا يخفى عليه شئ من ذلك فيؤاخذكم بأنواع العقاب .


[228]:المستدرك كتاب النكاح 2/198. حسن.أخرجه أبو داود(2194) والترمذي(1/223) وابن ماجه(2039) والطحاوي(2/58) وابن الجارود(712) والدارقطني(397) والحاكم(2/198) وكذا ابن خزيمة في "حديث علي بن حجر"(712) (ج4 رقم 54) والبغوي في "شرح السنة"(3/46/2) كلهم من طريق عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)قال: فذكره. وقال الترمذي: "حديث حسن غريب،وعبد الرحمن هو ابن حبيب بن أدرك المدني". وقد ذكر الزيلعي في "نصب الراية" (3/294) في معناه أحاديث أخرى.