قوله عز وجل :{ ولو ترى إذ المجرمون } المشركون ، { ناكسو رؤوسهم } مطأطئو رؤوسهم ، { عند ربهم } حياءً وندماً ، { ربنا } أي : يقولون ربنا ، { أبصرنا } ما كنا مكذبين ، { وسمعنا } منك تصديق ما أتتنا به رسلك . وقيل : أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا ، { فارجعنا } فارددنا إلى الدنيا ، { نعمل صالحاً إنا موقنون } وجواب لو مضمر مجازه لرأيت العجب .
{ 12 - 14 } { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
لما ذكر تعالى رجوعهم إليه يوم القيامة ، ذكر حالهم في مقامهم بين [ يديه ]{[681]} فقال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ } الذين أصروا على الذنوب العظيمة ، { نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } خاشعين خاضعين أذلاء ، مقرين بجرمهم ، سائلين الرجعة قائلين : { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي : بأن لنا الأمر ، ورأيناه عيانًا ، فصار عين يقين .
{ فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } أي : صار عندنا الآن ، يقين بما [ كنا ]{[682]} نكذب به ، أي : لرأيت أمرا فظيعًا ، وحالاً مزعجة ، وأقوامًا خاسرين ، وسؤلًا غير مجاب ، لأنه قد مضى وقت الإمهال .
ثم صور - سبحانه - أحوال هؤلاء الكافرين ، عندما يقفون للحساب ، تصويراً مرعباً مخيفاً فقال : { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } .
وجواب " لو " محذوف ، والتقدير : لرأيت شيئاً تقشعر من هوله الأبدان .
وقوله : { نَاكِسُواْ } من النكس ، وهو قلب الشئ على راسه كالتنكيس . . وفعله من باب نصر - والخطاب يصح أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح له .
أى : ولو ترى - أيها الرسول الكريم - حال أولئك المجرمين الذين أنكروا البعث والجزاء ، وهم يقفون أمام خالقهم بذلة وخزى ، لحسابهم على أعمالهم . . لو ترى ذلك لرأيت شيئاً ترتعد له الفرائص ، وتهتز منه القلوب .
وقوله : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } حكاية لما يقولونه فى هذا الموقف العصيب . أى : يقولونه بذلة وندم : يا ربنا نحن الآن نبصر مصيرنا ، ونسمع قولك ونندم على ما كنا فيه من كفر وضلال ، { فارجعنا } إلى الدنيا ، لكى { نَعْمَلْ } عملاً { صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } الآن بأن ما جاءنا به رسولك هو الحق ، وأن البعث حق . وان الجزاء حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق .
وبمناسبة البعث الذي يعترضون عليه والرجعة التي يشكون فيها ، يقفهم وجها لوجه أمام مشهد من مشاهد القيامة ؛ مشهد حي شاخص حافل بالتأثرات والحركات والحوار كأنه واقع مشهود :
ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم . ربنا أبصرنا وسمعنا ، فارجعنا نعمل صالحا ، إنا موقنون - ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ، ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين - فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ، إنا نسيناكم ، وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون . .
إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة ، والإقرار بالحق الذي جحدوه ، وإعلان اليقين بما شكوا فيه ، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى . . وهم ناكسو رؤوسهم خجلا وخزيا . . ( عند ربهم ) . . الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا . . ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لو ترى يا محمد هؤلاء القائلين أئِذَا ضَلَلْنا فِي الأرْضِ أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إذ هم ناكسوا رؤوسهم عند ربهم حياء من ربهم ، للذي سلف منهم من معاصيه في الدنيا ، يقولون : يا رَبّنَا أبْصَرْنَا ما كنا نكذّب به من عقابك أهل معاصيك وَسَمِعْنَا منك تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا ، فارجعنا يقول : فارددنا إلى الدنيا نعمل فيها بطاعتك ، وذلك العمل الصالح إنّا مُوقِنُونَ يقول : إنا قد أيقنا الاَن ما كنا به في الدنيا جهالاً من وحدانيتك ، وأنه لا يصلح أن يُعبد سواك ، ولا ينبغي أن يكون ربّ سواك ، وأنك تحيي وتميت ، وتبعث من في القبور بعد الممات والفناء وتفعل ما تشاء .
وبنحو ما قلنا في قوله : نَاكِسُوا رُءُوسِهمْ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله وَلَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمونَ ناكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : قد حزنوا واستحيوا .
قوله تعالى : { لو ترى } تعجيب لمحمد وأمته من حال الكفرة وما حل بهم ، وجواب { لو } محذوف لأن حذفه أهول إذ يترك الإنسان فيه مع أقصى تخيله ، و { المجرمون } هم الكافرون بدليل التوعد بالنار وبدليل قولهم { إنا موقنون } أي أنهم كانوا في الدنيا غير موقنين ، وتنكيس الرؤوس هو من الذل واليأس والهم بحلول العذاب وتعلق نفوسهم بالرجعة إلى الدنيا ، وفي القول محذوف تقديره يقولون { ربنا } وقولهم { أبصرنا وسمعنا } أي ما كنا نخبر به في الدنيا فكنا مكذبين به ، ثم طلبوا الرجعة حين لا ينفع ذلك .
أردف ذكر إنكارهم البعث بتصوير حال المنكرين أثر البعث وذلك عند حشرهم إلى الحساب ، وجيء في تصوير حالهم بطريقة حذف جواب { لو } حذفاً يرادفه أن تذهب نفس السامع كل مذهب من تصوير فظاعة حالهم وهول موقفهم بين يدي ربهم ، وبتوجيه الخطاب إلى غير معيّن لإفادة تناهي حالهم في الظهور حتى لا يختصّ به مخاطب . t والمعنى : لو ترى أيها الرائي لرأيت أمراً عظيماً .
و { المجرمون هم الذين قالوا { أإذا ضللنا في الأرض إنّا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] ، فهو إظهار في مقام الإضمار لقصد التسجيل عليهم بأنهم في قولهم ذلك مُجرمون ، أي آتون بجُرم وهو جُرم تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتعطيل الدليل .
والناكس : الذي يجعل أعلى شيء إلى أسفل ، يقال : نكس رأسه ، إذا طأطأه لأنه كمن جعل أعلى الشيء إلى أسفل . ونكْس الرؤوس علامة الذلّ والندامة ، وذلك مما يُلاقون من التقريع والإهانة .
والعندية عندية السلطة ، أي وهم في حكم ربهم لا يستطيعون محيداً عنه ، فشبه ذلك بالكون في مكان مختص بربهم في أنهم لا يفلتون منه .
وجملة { ربنا أبصرنا وسمعنا } إلى آخرها مقول قول محذوف دلّ عليه السياق هو في موضع الحال ، أي ناكسو رؤوسهم يقولون أو قائلين : أبصرْنا وسمعنا ، وهم يقولون ذلك ندامة وإقراراً بأن ما توعدهم القرآن به حق .
وحذف مفعول { أبصرنا } ومفعول { سمعنا } لدلالة المقام ، أي أبصرنا من الدلائل المبصرَة ما يصدّق ما أُخبرنا به فقد رأوا البعث من القبور ورأوا ما يعامل به المكذبون ، وسمعنا من أقوال الملائكة ما فيه تصديق الوعيد الذي توعدنا به ، أي : فعلمنا أن ما دعانا إليه الرسول هو الحق الذي به النجاة من العذاب فأرجِعْنا إلى الدنيا نعمل صالحاً كما قالوا في موطن آخر { ربنا أخِّرْنا إلى أجل قريب نُجِبْ دعوتك ونتبع الرسل } [ إبراهيم : 44 ] .
وقوله { إنا موقنون } تعليل لتحقيق الوعد بالعمل الصالح بأنهم صاروا موقنين بحقية ما يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم إليه فكانت { إنَّ } مغنية غناء فاء التفريع المفيدة للتعليل ، أي ما يمنعنا من تحقيق ما وُعدنا به شك ولا تكذيب ، إنَّا أيقنا الآن أن ما دُعينا إليه حق . فاسم الفاعل في قوله { موقنون } واقع زمان الحال كما هو أصله .