قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } . قيل نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي ، ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي ، ألك بينة ؟ قال : لا قال : فلك يمينه ، فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن حلف على ماله ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض ، فأنزل الله هذه الآية : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ، أي من غير الوجه الذي أباحه الله ، وأصل الباطل الشيء الذاهب ، والأكل بالباطل أنواع : قد يكون بطريق الغصب والنهب ، وقد يكون بطريق اللهو ، كاللهو والقمار وأجرة المغني وغيرهما ، وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة .
قوله تعالى : { وتدلوا بها إلى الحكام } . أي تلقوا أمور تلك الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام ، وأصل الإدلاء : إرسال الدلو وإلقاؤه في البئر ، يقال : أدلى دلوه إذا أرسله ، ودلاه يدلوه ، إذا أخرجه قال ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة ، فيجحد المال ويخاصم فيه إلى الحاكم ، وهو يعرف أن الحق عليه وأنه آثم بمنعه ، قال مجاهد في هذه الآية : لا تخاصم وأنت ظالم ، قال الكلبي : هو أن يقيم شهادة الزور وقوله : " وتدلوا " في محل الجزم بتكرير حرف النهي ، معناه : ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وقيل معناه : ولا تأكلوا بالباطل وتنسبونه إلى الحكام ، قال قتادة : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم ، فإن قضاءه لا يحل حراماً ، وكان شريح القاضي يقول : إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالماً ولكن لا يسعني ! إلا أن أقضي بما يحضرني من البينة ، وإن قضائي لا يحل لك حراماً .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك بن أنس ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " .
قوله تعالى : { لتأكلوا فريقاً } . طائفة .
قوله تعالى : { من أموال الناس بالإثم } . بالظلم ، وقال ابن عباس : باليمين الكاذبة يقطع بها مال أخيه .
{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
أي : ولا تأخذوا أموالكم أي : أموال غيركم ، أضافها إليهم ، لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ويحترم ماله كما يحترم ماله ، ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة .
ولما كان أكلها نوعين : نوعا بحق ، ونوعا بباطل ، وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل ، قيده تعالى بذلك ، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية ، أو نحو ذلك ، ويدخل فيه أيضا ، أخذها على وجه المعاوضة ، بمعاوضة محرمة ، كعقود الربا ، والقمار كلها ، فإنها من أكل المال بالباطل ، لأنه ليس في مقابلة عوض مباح ، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة ، ونحوها ، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم ، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه ، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى ، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات ، والأوقاف ، والوصايا ، لمن ليس له حق منها ، أو فوق حقه .
فكل هذا ونحوه ، من أكل المال بالباطل ، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه ، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع ، وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة ، غلبت حجة المحق ، وحكم له الحاكم بذلك ، فإن حكم الحاكم ، لا يبيح محرما ، ولا يحلل حراما ، إنما يحكم على نحو مما يسمع ، وإلا فحقائق الأمور باقية ، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ، ولا شبهة ، ولا استراحة .
فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة ، وحكم له بذلك ، فإنه لا يحل له ، ويكون آكلا لمال غيره ، بالباطل والإثم ، وهو عالم بذلك . فيكون أبلغ في عقوبته ، وأشد في نكاله .
وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه ، لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى : { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }
وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام ، وما يتعلق به من أحكام ، أردف ذلك بالنهي عن أكل الحرام ، لأنه يؤدي إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال - تعالى - : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام . . . }
الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة في كل زمان ومكان .
والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق ، وعبر عنه بالأكل ، لأن الأكل أهم وسائل الحياة ، وفيه تصرف الأموال غالباً .
والباطل في اللغة : الزائل الذاهب ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا . أي ذهب ضياًعا وخسراً . وجمع الباطل أباطيل . ويقال : بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو .
والمراد هنا : كل ما لم يبح الشرع أخذه من المال وإن طابت به النفس ، كالربا والميسر وثمن الخمر ، والرشوة ، وشهادة الزور ، والسرقة ، والغصب ، ونحو ذلك مما حرمه الله - تعالى - .
والباء للسببية ، والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله ، وكذلك قوله : { بَيْنَكُمْ } .
والمعنى : لا يأخذ بعضكم مال بعض ، ويستولي عليه بغير حق ، متذرعا بالأسباب الباطلة ، والحيل الزائفة ، وما إلى ذلك من وجوه التعدي والظلم .
وفي قوله - تعالى - : { أَمْوَالَكُمْ } - مع أن أكل المال يتناول مال الإِنسان ومال غيره - في هذا القول إشعار بوحدة الأمة وتكافلها ، وتنبيه إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك أنت ، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي ، وبيان لحكمة الحكم ، إذا استحلال الإِنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإِنسان المتعدي ، وإذا فشا هذا السلوك في أمة من الأمم أدى بها إلى الضعف والتعادي والتباغض .
فما أحكم هذا التعبير ، وما أجمل هذا التصوير .
وقوله : { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام } معطوف على { وَلاَ تأكلوا } .
والإِدلاء في الأصل : إرسال الدلو في البئر للاستقاء . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء ؛ ومنه أدلى فلان بحجته ، أي : أرسلها ليصل إلى مراده .
والمراد بالإِدلاء هنا : الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين .
والحكام : جمع حاكم ، وهو الذي يتصدى للفصل بين الناس في خصوماتهم وقضاياهم .
والفرق : الطقعة المعزولة من جملة الشيء ، ومنه قيل للقطعة من الغنم تشذ عن معظمها فريق .
والإِثم : الفعل الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب . وجمعه آثام .
والمعنى : لا يأخذ بعضكم أموال بعض - أيها المسلمون - ولا يستولي عليها بغير حق ، ولا تدلوا بها الى الحكام ، أي ولا تلقوا أمرها والتحاكم فيها إلى القضاة ، لا من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما من أجل أن تأخذوا عن طريق التحاكم قطعة من أموال غيركم متلبسين بالإِثم الذي يؤدي إلى عقابكم ، حال كونكم تعلمون أنكم على باطل ، ولا شك أن إتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به .
فعلى هذا الوجه يكون المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام طرحها أمامهم ليقضوا فيها ، وليتوسل بعض الخصوم عن طريق هذا القضاء إلى أكل الأموال بالباطل حين عجزوا عن أكلها بالمغالبة .
وهناك وجه آخر تحتمله الآية احتمالا قريباً ، وبه قال كثير من العلماء وهو أن المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام ، إلقاءؤها إليهم على سبيسل الرشوة ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يحكموا لصالحهم بالباطل ، وعليه يكون المعنى .
لا يأخذ بضعكم أموال بعض أيها المسلمون ، ولا تلقوا ببعضها إلى حكام السوء على سبيل الرشوة ، لتتوصلوا بأحكامهم الجائرة إلى أكل فريق من أموال الناس بغير حق . ولا غربة في أن يعني القرآن في سياسته الرشيدة بالتحذير من جريمة الرشوة ، فإنها المعول الذي يهدم صرح العدل من أساسه وبها تفقد مجالس القضاء حرمتها وكرامتها ، وتصير تلك المجالس موطنا للظلم لا للعدل .
وخص القرآن الكريم هذه الصورة بالنهي - وهي صورة الإِدلاء بالأموال إلى الحكام - مع أنه قد ذكر ما يشملها بقوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } لأنها على وجهي تفسيرها شديدة الشناعة ، جامعة لمنكرات كثيرة ، كالظلم ، والتباغض والرشوة ، والغصب وغير ذلك . والحق ، أن هذه الآية الكريمة أصل من الأصول التي يقوم عليها إصلاح المعاملات ، وقد أخذ العلماء منها حرمة أكل أموال الناس بالباطل ، وحرمة إرشاء الحكام ليقضي للراشي بمال غيره ، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الجميع في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي والمرتشي والرائش " وهو الواسطة الذي يمشي بينهما .
كما أخذوا منها أن حكم الحاكم على ما يقتضيه الظاهر من أمر القضية لا يحل في الواقع حراماً ، ولا يحرم حلالاً ، والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " إنما أنا بشر وإنه ليأتيني الخصم . فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه قد صدق ، فأقضى له بذلك . فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " .
قال الإِمام ابن كثير : فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يحل في نفس الأمر حراماً ولا يحرم حلالا ، وإنماهو ملزم في الظاهر فإن طبق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره . ولهذا قال - تعالى - في آخر الآية { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . أي تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم . وبذلك تكون الآية الكريمة قد رسمت طريق الحق لمن يريد أن يسير فيه { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
وفي ظل الصوم ، والامتناع عن المأكل والمشرب ، يرد تحذير من نوع آخر من الأكل : أكل أموال الناس بالباطل ، عن طريق التقاضي بشأنها أمام الحكام اعتمادا على المغالطة في القرائن والأسانيد ، واللحن بالقول والحجة . حيث يقضي الحاكم بما يظهر له ، وتكون الحقيقة غير ما بدا له . ويجيء هذا التحذير عقب ذكر حدود الله ، والدعوة إلى تقواه ، ليظللها جو الخوف الرادع عن حرمات الله :
( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) .
ذكر ابن كثير في تفسير الآية : " قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام . وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير ، وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم . وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله [ ص ] قال : " إنما أنا بشر ، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار . فليحملها أو ليذرها " . .
وهكذا يتركهم لما يعلمونه من حقيقة دعواهم . فحكم الحاكم لا يحل حراما ، ولا يحرم حلالا . إنما هو ملزم في الظاهر . وإثمه على المحتال فيه .
وهكذا يربط الأمر في التقاضي وفي المال بتقوى الله . كما ربط في القصاص ، وفي الوصية وفي الصيام . فكلها قطاعات متناسقة في جسم المنهج الإلهي المتكامل . وكلها مشدودة إلى تلك العروة التي تربط قطاعات المنهج كله . . ومن ثم يصبح المنهج الإلهي وحدة واحدة . لا تتجزأ ولا تتفرق . ويصبح ترك جانب منه وإعمال جانب ، إيمانا ببعض الكتاب وكفرا ببعض . . فهو الكفر في النهاية . والعياذ بالله . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مّنْ أَمْوَالِ النّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل . فجعل تعالى ذكره بذلك أكل مال أخيه بالباطل كالاَكل مال نفسه بالباطل ، ونظير ذلك قوله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ }وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } بمعنى : لا يلمز بعضكم بعضا ، ولا يقتل بعضكم بعضا لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة ، فقاتل أخيه كقاتل نفسه ، ولامزه كلامز نفسه ، وكذلك تفعل العرب تكني عن أنفسها بأخواتها ، وعن أخواتها بأنفسها ، فتقول : أخي وأخوك أينا أبطش ، تعني أنا وأنت نصطرع فننظر أينا أشد ، فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه ، لأن أخا الرجل عندها كنفسه ومن ذلك قول الشاعر :
أخي وأخُوكَ بِبَطْن النّسَيْر ِلَيْسَ لنَا مِنْ مَعَدّ عَرِيْب
فتأويل الكلام : ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل ، وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه .
وأما قوله : { وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّام } فإنه يعني : وتخاصموا بها ، يعني بأموالكم إلى الحكام لتأكلوا فريقا ، طائفة من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون .
ويعني بقوله : بالإثْم بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم ، وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي وأنتم تتعمدون أكل ذلك بالإثم على قصد منكم إلى ما حرم الله عليكم منه ، ومعرفة بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ ، } فهذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال فيخاصمهم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل حراما .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ قال : لا تخاصم وأنت ظالم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ }وكان يقال : من مشى مع خصمه وهو له ظالم فهو آثم حتى يرجع إلى الحقّ . واعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحلّ لك حراما ولا يحقّ لك باطلاً ، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود ، والقاضي بشر يخطىء ويصيب . واعلموا أنه من قد قضي له بالباطل ، فإن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للمحق ، ويأخذ مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ } قال : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم ، فإن قضاءه لا يحل لك شيئا كان حراما عليك .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ لتِأكُلُوا فَريقا مِنْ أمْوَالِ النّاسِ بالإثْمِ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ }أما الباطل ، يقول : يظلم الرجل منكم صاحبه ، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم ، فذلك قوله : وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني خالد الواسطي ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة قوله : وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ قال : هو الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها دراهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ يقول : يكون أجدل منه وأعرف بالحجة ، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل . وقرأ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا َلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } قال : هذا القمار الذي كان يعمل به أهل الجاهلية .
وأصل الإدلاء : إرسال الرجل الدلو في سبب متعلقا به في البئر ، فقيل للمحتجّ بدعواه أدلى بحجة كيت وكيت إذا كان حجته التي يحتجّ بها سببا له هو به متعلق في خصومته ، كتعلق المستقي من بئر بدلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة ، يقال فيها جميعا ، أعني من الاحتجاج ، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب : أدلى فلان بحجته فهو يدلي بها إدلاء ، وأدلى دلوه في البئر فهو يدليها إدلاء .
فأما قوله : { وَتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ } فإن فيه وجهين من الإعراب ، أحدهما : أن يكون قوله : وَتُدْلُوا جزما عطفا على قوله : { وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ } أي ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبيّ بتكرير حرف النهي ، ولا تدلوا بها إلى الحكام . والاَخر منهما النصب على الظرف ، فيكون معناه حينئذ : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام ، كما قال الشاعر :
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتِيَ مِثْلَهُ *** عارٌ عَلَيْكُ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
يعني : لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله ، وهو أن يكون في موضع جزم على ما ذكر في قراءة أبيّ أحسن منه أن يكون نصبا .
{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي ولا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى . وبين نصب على الظرف ، أو الحال من الأموال . { وتدلوا بها إلى الحكام } عطف على المنهي ، أو نصب بإضمار أن ، والإدلاء الإلقاء ، أي ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام . { لتأكلوا } بالتحاكم . { فريقا } طائفة . { من أموال الناس بالإثم } بما يوجب إثما ، كشهادة الزور واليمين الكاذبة ، أو ملتبسين بالإثم . { وأنتم تعلمون } أنكم مبطلون ، فإن ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح . روي أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة من أرض ولم يكن له بينة ، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس ، فهم به فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الآية . فارتدع عن اليمين ، وسلم الأرض إلى عبدان ، فنزلت . وفيه دليل على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي . ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار " .
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 188 )
الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض ، فأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهياً عنه( {[1756]} ) ، وكما قال { تقتلون أنفسكم }( {[1757]} ) [ البقرة : 85 ] ، ويدخل في هذه الآية القمار والخداع والغصوب وجحد الحقائق وغير ذلك ، ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع لأن الغبن كأنه وهبه( {[1758]} ) .
وقال قوم : المراد بالآية { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي في الملاهي والقيان والشراب والبطالة ، فتجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين .
وقوله تعالى : { وتدلوا بها } الآية ، يقال أدلى الرجل بالحجة أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيهاً بالذي يرسل الدلو في البئر يرجو بها الماء .
قال قوم : معنى الآية( {[1759]} ) : تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم ، إما بأن لا تكون على الجاحد بينة ، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله ، فالباء في { بها } باء السبب ، وقيل : معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر منها ، فالباء إلزاق مجرد( {[1760]} ) ، وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا إلا من عصم وهو الأقل ، وأيضاً فإن اللفظين متناسبتان ، { تدلوا } من أرسل الدلو والرشوة من الرشا ، كأنها يمد بها لتقضي الحاجة ، و { تدلوا } في موضع جزم عطفاً على { تأكلوا } ، وفي مصحف أبيّ «ولا تدلوا » بتكرار حرف النهي ، وهذه القراءة تؤيد جزم { تدلوا } في قراءة الجماعة ، وقيل : { تدلوا } في موضع نصب على الظرف ، وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب( {[1761]} ) ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه «أن » مضمرة( {[1762]} ) ، والفريق : القطعة والجزء ، و { بالإثم } معناه بالظلم والتعدي ، وسمي ذلك إثماً لما كان الإثم معنى يتعلق بفاعله ، و { أنتم تعلمون } أي إنكم مبطلون آثمون ، وهذه مبالغة في المعصية والجرأة .
عطف جملة على جملة ، والمناسبة أن قوله : { تلك حدود الله فلا تقربوها } [ البقرة : 187 ] تحذير من الجُرأَة على مخالفة حكم الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب من الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل ، والمشاكلة زادت المناسبةَ قوة ، وهذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية ، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام .
كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن الميسِر ، ومن غصب القوي مال الضعيف ، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى ، ومن الغرر والمقامرة ، ومن المراباة ونحو ذلك ، وكل ذلك من الباطل الذي ليس عن طيب نفس .
والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا استعارة للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع ؛ لأن ذلك الأخذ يشبه الأَكل من جميع جهاته ، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل ، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية ؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل كما لا يخفى .
والأموال جمع مال ونُعرِّفه بأنه « ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيَّات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلاً بكدح » ، فلا يعد الهواء مالاً ، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالاً ، ولا التراب مالاً ، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالاً ، ويعد الماء المحتفر بالآبار مالاً ، وتراب المقاطع مالاً ، والحشيش والحطب مالاً ، وما ينحته المرء لنفسه في جبلٍ مالاً .
والمالُ ثلاثة أنواع : النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب ، والثمار ، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده ولركوبه قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين } [ النحل : 80 ] وقال : { لتركبوا منها ومنها تأكلون } [ غافر : 79 ] وقد سمت العرب الإبل مالاً قال زهير :
* صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بمَخْرَم *
وقال عمر : " لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حَمَيْتُ عليهم من بلادهم شبراً " وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها ، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين ، فصاحبه ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه ، وفي الحديث « يقول ابن آدَمَ مَالِي مَالِي وإنما مالك ما أكلت فأَمريت أو أَعطيتَ فأغنيت » فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي .
النوع الثاني : ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها ، والنار للطبخ والإذابة ، والماء لسقي الأشجار ، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك ، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق .
النوع الثالث : ما تحصل الإقامةُ بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضاً لما يراد تحصيله من الأشياء ، وهذا هو المعبَّر عنه بالنَّقد أو بالعُمْلة ، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والوَدَع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه ، وهذا لا يتم اعتباره إلاّ في أزمنة السلم والأَمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد ، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات .
وقولي في التعريف : حاصلاً بكدح ، أردت به أن شأنه أن يكون حاصلاً بسعي فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسباً والاكتساب له ثلاثة طرق :
الطريق الأول : طريق التناول من الأرض قال تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] وقال : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } [ الملك : 15 ] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل ، وهذا قدْ يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجبال والتقاط الكمأة .
الطريق الثاني : الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب ، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح .
الطريق الثالث : التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما بتعامل بأن يعطيَ المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذَ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو ، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قُدِّر بمقداره كدينار ودرهم في شيء مقوَّم بهما ، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه .
والباطل اسم فاعل من بطل إذا ذهب ضياعاً وخسراً أي بدون وجه ، ولا شك أن الوجه هو ما يرضي صاحب المال أعني العِوض في البيوعات وحب المحمدة في التبرعات .
والضمائر في مثل : { ولا تأكلوا أموالكم } إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين ، وفعل : { ولا تأكلوا } وقع في حَيز النهي فهو عام ، فأفاد ذلك نهياً لِجميع المسلمين عن كُل أَكل وفي جميع الأَمْوال ، قلنا هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة ، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فردٍ من أفراد الجمع بكل فردٍ من أفراد الجمع الآخَر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى : { وخذوا حذركم } [ النساء : 102 ] { قوا أنفسكم } [ التحريم : 6 ] ، واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله : { ولا تلمزوا أنفسكم } [ الحجرات : 11 ] وقوله { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] ، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله : { وقِهم السيئات } [ غافر : 9 ] ، والتعويل في ذلك على القرائن .
وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل ؛ بقرينة قوله : { بينكم } ؛ لأن بين تقتضي توسطاً خلال طرفين ، فعُلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما ، فلزم أن يكون الآكل غيرَ المأكول وإلاّ لما كانت فائدة لقوله : { بينكم } .
ومعنى أكلها بالباطل أكلُها بدون وجه ، وهذا الأكل مراتب :
المرتبة الأولى : ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلاً كالغصب والسرقة والحيلة .
المرتبة الثانية : ما ألحقه الشرع بالباطل فبيَّن أنه من الباطل وقد كان خفياً عنهم وهذا مثل الربا ؛ فإنهم قالوا : { إنَّما البيع مثل الربا } [ البقرة : 275 ] ، ومثل رشوة الحكام ، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ؛ ففي الحديث : " أرَأَيْتَ إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه " والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي : هي خمسون حديثاً .
المرتبة الثالثة : ما استنبطه العلماء من ذلك ، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل ، والعلماءُ فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب مِن المالكية وتفصيله في الفقه .
وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في قضية عبدان الحضرمي وامرىء القيس الكِنْدي اختصما لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فنزلت هذه الآية والقصة مذكورة في « صحيح مسلم » ولم يذكر فيها أن هذه الآية نزلت فيهما وإنما ذكر ذلك ابن أبي حاتم .
وقوله تعالى : { وتدلوا بها إلى الحكام } عطف على { تأكلوا } أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل . وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أَكل الأموال بالباطل ؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة ، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل مالاً بل آكلَ غيره ، وجُوز أن تكون الواو للمعية و { تدلوا } منصوباً بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مُدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي عن هذا النوع من أكل الأموال بالباطل .
والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع .
فالمعنى على الاحتمال الأول ، لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بها فريقاً من أموال الناس بالإثم ؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاء الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره فهي تحريم للرشوة وللقضاء بغير الحق ، ولأَكل المقضي له مالاً بالباطل بسبب القضاء بالباطل .
والمعنى على الاحتمال الثاني لا تأكلوا أموالكم بالباطل في حال انتشاب الخصومات بالأموال لدى الحكام لتتوسلوا بقضاء الحكام ، إلى أكل الأموال بالباطل حين لا تستطيعون أكلها بالغَلب ، وكأنَّ الذي دعاهم إلى فرض هذا الاحتمال هو مراعاة القصة التي ذكرت في سبب النزول ، ولا يخفى أن التقيد بتلك القصة لا وجه له في تفسير الآية ، لأنه لو صح سندها لكان حمل الآية على تحريم الرشوة لأجل أكل المال دليلاً على تحريم أكل المال بدون رشوة بدلالة تنقيح المناط .
وعلى ما اخترناه فالآية دلت على تحريم أكل الأموال بالباطل ، وعلى تحريم إرشاء الحكام لأكل الأموال بالباطل ، وعلى أن قضاء القاضي لاَ يغير صفة أكل المال بالباطل ، وعلى تحريم الجور في الحكم بالباطل ولو بدون إرشاء ، لأن تحريم الرشوة إنما كان لما فيه من تغيير الحق ، ولا جَرم أن هاته الأشياء من أهم ما تصدَّى الإسلام لتأسيسه تغييراً لما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يستحلون أموال الذين لم يستطيعوا منع أموالهم من الأكل فكانوا يأكلون أموال الضعفاء قال صَنَّان اليَشْكُري :
لَوْ كَانَ حَوْضَ حِمَارٍ ما شَرِبْتَ به *** إِلاَّ بإذن حِمارٍ آخِـــرَ الأَبَدِ
لكِنَّه حَوْضُ مَنْ أوْدَى بإخوتـــه *** ريبُ المَنُونِ فأمسى بَيْضَةَ البَلَدِ
وأما إرشاء الحكام فقد كان أهل الجاهلية يبذلون الرُّشا للحكام ، ولمَّا تنافر عامر بن الطفيل وعَلْقَمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري بذل كل واحد منهما مائة من الإبل إن حكم له بالتفضيل على الآخر فلم يقض لواحد منهما بل قضى بينهما بأنهما كركبتي البعير الأَدْرَم الفَحْل تستويان في الوقوع على الأرض فقال الأعشى في ذلك من أبيات :
حَكَّمتُموه فقضى بينَكُــم *** أَزْهَرُ مثلُ القَمر البَاهِرِ
لاَ يَقْبَل الرَّشْوَةَ في حُكمه *** ولاَ يُبالِي غَبن الخاسر
ويقال إن أول من ارتشى من حكام الجاهلية هو ضَمرة بن ضمرة النَهْشلي بمائة من الإبل دفعها إليه عباد بن أنف الكلب في منافرة بينه وبين معبد بن نضلة الفقعسي لينفِّره عليه ففعل ، ويقال إن أول من ارتشى في الإسلام يَرَفَأُ غلامُ عمر بن الخطاب رشاه المغيرة بن شعبة ليقدمه في الإذن بالدخول إلى عمر ؛ لأن يرفأ لما كان هو الواسطة في الإذن للناس وكان الحق في التقديم في الإذن للأسبق ، إذ لم يكن مضطراً غيرُه إلى التقديم كان تقديم غير الأسبق اعتداء على حق الأسبق فكان جوراً وكان بذل المال لأجل تحصيله إرشاءً ولا أحسب هذا إلاّ من أكاذيب أصحاب الأهواء للغض من عدالة بعض الصحابة فإنْ صح ولا إِخاله : فالمغيرة لم ير في ذلك بأساً ؛ لأن الضر اللاحق بالغير غير معتد به ، أو لعله رآه إحساناً ولم يقصد التقديم ففعله يرفأ إكراماً له لأجل نواله ، أمَّا يرفأ فلعله لم يهتد إلى دقيق هذا الحكم .
فالرشوة حرمها الله تعالى بنص هاته الآية ؛ لأنها إن كانت للقضاء بالجور فهي لأَكل مال بالباطل وليست هي أكل مال بالباطل فلذلك عطف على النهي الأول ؛ لأن الحاكم موكِّلٌ المال لا آكل ، وإن كانت للقضاء بالحق فهي أكل مال بالباطل ؛ لأن القضاء بالحق واجب ، ومثلها كل مال يأخذه الحاكم على القضاء من الخصوم إلاّ إذا لم يجعل له شيء من بيت المال ولم يكن له مال فقد أباحوا له أخذ شيء معيَّن على القضاء سواء فيه كلا الخصمين .
ودلالة هذه الآية على أن قضاء القاضي لا يؤثرُ في تغيير حرمة أكل المال من قوله : { وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم } فجعل المال الذي يأكله أحد بواسطة الحكم إثماً وهو صريح في أن القضاء لا يُحل حراماً ولا ينفذُ إلاّ ظاهراً ، وهذا مما لا شبهة فيه لولا خلاف وقع في المسألة ، فإن أبا حنيفة خالف جمهور الفقهاء فقال بأن قضاء القاضي يُحِل الحرام وينفذ باطناً وظاهراً إذا كان بحل أو حِرمة وادَّعاه المحكوم له بسبب معين أي كان القضاء بعقد أو فسخ وكان مستنداً لشهادة شهود وكان المقضي به مما يصح أن يبتدأ ، هذا الذي حكاه عنه غالب فقهاء مذهبه وبعضهم يخصه بالنكاح .
واحتج على ذلك بما روي أن رجلاً خطب امرأة هُو دونها فأبت إجابته فادعى عليها ، عند عليّ أنه تزوجها وأقام شاهدين زوراً فقضى عليٌّ بشهادتهما فقالت المرأة لما قضى عليها ، إن كان ولا بد فزوجني منه فقال لها عليٌّ شاهداك زوجاك ، وهذا الدليل بعد تسليم صحة سنده لا يزيد على كونه مذهب صحابي وهو لا يعارض الأحوال الشرعية ولا الأحاديث المروية نحو حديث « فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخُذْه فإنما أقتطع له قِطعة من نار » على أن تأويله ظاهر وهو أن علياً اتهمها بأنها تريد بإحداث العقد بعد الحكم إظهار الوهن في الحكم والإعلانَ بتكذيب المحكوم له ولعلها إذا طلب منها العقد أن تمتنع فيصبح الحكم معلقاً .
والظاهر أن مراد أبي حنيفة أن القضاء فيما يقع صحيحاً وفاسداً شرعاً من كل ما ليس فيه حق العبد أن قضاء القاضي بصحته يتنزل منزلة استكمال شروطه توسعة على الناس ، فلا يخفى ضعف هذا ولذلك لم يتابعه عليه أحد من أصحابه .
وقوله : { وأنتم تعلمون } حال مؤكدة لأن المدلي بالأموال للحكام ليأكل أموال الناس عالم لا محالة بصنعه ، فالمراد من هذه الحال تشنيع الأمر وتفظيعه إعلاناً بأن أكل المال بهذه الكيفية هو من الذين أكلوا أموال الناس عن عِلم وعمد فجرمه أشد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل تعالى ذكره بذلك أكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ}، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ} بمعنى: لا يلمز بعضكم بعضا، ولا يقتل بعضكم بعضا؛ لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه، ولامزه كلامز نفسه، وكذلك تفعل العرب تكني عن أنفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها.
فتأويل الكلام: ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل، وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.
وأما قوله: {وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّام} فإنه يعني: وتخاصموا بها، يعني بأموالكم إلى الحكام لتأكلوا فريقا، طائفة من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون.
"بالإثْم": بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم.
"وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ": وأنتم تتعمدون أكل ذلك بالإثم على قصد منكم إلى ما حرم الله عليكم منه، ومعرفة بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم... واعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحلّ لك حراما ولا يحقّ لك باطلاً، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب. واعلموا أنه من قد قضي له بالباطل، فإن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للمحق، ويأخذ مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا... عن السدي: {وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ لتِأكُلُوا فَريقا مِنْ أمْوَالِ النّاسِ بالإثْمِ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أما الباطل، يقول: يظلم الرجل منكم صاحبه، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم، فذلك قوله: وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ... قال ابن زيد في قوله: "وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحُكّامِ": يكون أجدل منه وأعرف بالحجة، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل. وقرأ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا َلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} قال: هذا القمار الذي كان يعمل به أهل الجاهلية.
وأصل الإدلاء: إرسال الرجل الدلو في سبب متعلقا به في البئر، فقيل للمحتجّ بدعواه أدلى بحجة كيت وكيت إذا كان حجته التي يحتجّ بها سببا له هو به متعلق في خصومته، كتعلق المستقي من بئر بدلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة، يقال فيها جميعا، أعني من الاحتجاج، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب: أدلى فلان بحجته فهو يدلي بها إدلاء، وأدلى دلوه في البئر فهو يدليها إدلاء.
أحدهما: أخْذُه على وجه الظلم والسرقة والخيانة والغصب وما جرى مجراه.
والآخر: أخْذُهُ من جهة محظورة، نحو القمار وأجرة الغناء والقيان والملاهي والنائحة وثمن الخمر والخنزير...، وما لا يجوز أن يتملكه وإن كان بطيبة نفس من مالكه.
وقد انتظمت الآية حَظْرَ أكلها من هذه الوجوه كلها.
ثم قوله: {و تدلوا بها إلى الحكام} فيما يرفع إلى الحاكم فيحكم به في الظاهر ليحلّها، مع علم المحكوم له أنه غير مستحق له في الظاهر؛ فأبان تعالى أن حكم الحاكم به لا يُبِيحُ أخْذَه، فزجر عن أكْلِ بعضنا لمال بعض بالباطل. ثم أخبر أن ما كان منه بحكم الحاكم فهو في حَيِّز الباطل الذي هو محظور عليه أخْذُهُ، وقال في آية أخرى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} [النساء: 29] فاستثنى من الجملة ما وقع من التجارة بتراض منهم به ولم يجعله من الباطل، وهذا هو في التجارة الجائزة دون المحظورة.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وأصل الباطل: الشيء الذاهب الزائل يقال: بطل يبطل بطولاً وبطلاناً إذا ذهب...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وتدلوا بها إلى الحكام}: ولا تصانعوا أ ي لا ترشوا بأموالكم الحكام لتقتطعوا حقا لغيركم...
{وأنتم تعلمون}: أنكم مبطلون وأنه لا يحل لكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وتدلوا بها} الآية، يقال أدلى الرجل بالحجة أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيهاً بالذي يرسل الدلو في البئر يرجو بها الماء. قال قوم: معنى الآية: تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم، إما بأن لا تكون على الجاحد بينة، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله، فالباء في {بها} باء السبب، وقيل: معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر منها، فالباء إلزاق مجرد، وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا إلا من عصم وهو الأقل، وأيضاً فإن اللفظين متناسبتان، {تدلوا} من أرسل الدلو والرشوة من الرشا، كأنها يمد بها لتقضي الحاجة...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ، مِنْ قَوَاعِدِ الْمُعَامَلَاتِ، وَأَسَاسُ الْمُعَاوَضَاتِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وَأَحَادِيثُ الْغَرَرِ، وَاعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالْمَصَالِحِ...
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمُوا -عَلَّمَكُمْ اللَّهُ- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلَّقُ كُلِّ مُؤَالِفٍ وَمُخَالِفٍ فِي كُلِّ حُكْمٍ يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ حَتَّى تُبَيِّنَهُ بِالدَّلِيلِ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومُ؛ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعْيِينُ الْبَاطِلِ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا}. مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْخُذُوا وَلَا تَتَعَاطَوْا. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ التَّمَتُّعَ بِهِ فِي شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا}، فَخَصَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ؛ لِأَنَّهَا الْأُولَى الْمُثِيرَةُ لِشَهْوَةِ الْفَرْجِ...
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِالْبَاطِلِ}. يَعْنِي بِمَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يُفِيدُ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ، وَمَنَعَ مِنْهُ، وَحَرَّمَ تَعَاطِيَهُ، كَالرِّبَا وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهِمَا. وَالْبَاطِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَفِي الْمَعْقُولِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْدُومِ، وَفِي الْمَشْرُوعِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُفِيدُ مَقْصُودًا...
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ}. أَيْ تُورِدُونَ كَلَامَكُمْ فِيهَا، ضَرَبَ لِلْكَلَامِ الْمَوْرُودِ عَلَى السَّامِعِ مَثَلًا بِالدَّلْوِ الْمَوْرُودَةِ عَلَى الْمَاءِ، لِيَأْخُذَ الْمَاءَ. وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ: وَتُدْلُوا كَلَامَكُمْ. أَوْ يَكُونُ الْكَلَامِ مُمَثَّلًا بِالْحَبْلِ، وَالْمَالُ الْمَذْكُورُ مُمَثَّلًا بِالدَّلْوِ؛ لِتَقْطَعُوا قِطْعَةً مِنْ أَمْوَالِ غَيْرِكُمْ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُخَاصِمُ...
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ مُصِيبٌ فِي حُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ أَخْطَأَ الصَّوَابَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا} بِحُكْمِهِمْ {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بُطْلَانَ ذَلِكَ، وَالْحَاكِمُ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ، وَالظَّالِمُ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام فحبس نفسه عما تعوّده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله تعالى صائماً له ممنوعاً من اللذة الكبرى بالليل والنهار جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلاّ من الحلال الخالص الذي ينور القلب ويزيده بصيرة ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة فلذلك نهى عن أكل الحرام المفضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه وتخلل أيضاً بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي وسؤال العباد الله تعالى وقد جاء في الحديث (إن من كان مطعمه حراماً وملبسه حراماً ومشربه حراماً ثم سأل الله أنَّى يستجاب له فناسب أيضاً النهي عن أكل المال الحرام.
ويجوز أن تكون المناسبة أنه لما أوجب عليهم الصوم كما أوجبه على من كان من قبلهم ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا وما يستبيحونه من الأموال بالباطل كما قال تعالى {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا}، {لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ}، {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}، وأن يكونوا مخالفيهم قولاً وفعلاً وصوماً وفطراً وكسباً واعتقاداً ولذلك ورد لما ندب إلى السحور (خالفوا اليهود) وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض إذ نزل فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ لاعتزال اليهود بأن لا يؤاكلوهنّ ولا يناموا معهنّ في بيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم) (افعلوا كل شيء إلا النكاح) فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئاً إلاّ خالفنا فيه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي في مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما كان منزل القرآن لإقامة الأمور الثلاثة التي بها قيام المخاطبين به وهو صلاح دينهم وهو ما بين العبد وربه من عمل أو إلقاء بالسلم إليه و إصلاح دنياهم وهو ما فيه معاش المرء وإصلاح آخرتهم وهو ما إليه معاده كان لذلك منزل القرآن مفصلاً بأحكام تلك الأمور الثلاثة فكان شذرة للدين وشذرة للدنيا وشذرة للآخرة، فلما كان في صدر هذا الخطاب {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} [البقرة: 168] وهو خطاب للملوك ومن تبعهم من رؤساء القبائل ومن تبعهم انتظم به بعد ذلك حكم من أحكام أهل العلم ومن تبعهم في قوله تعالى: {إن الذين يكتمون} [البقرة: 159]، ثم انتظم به ذكر الوصية من أهل الجدة، ثم انتظم به ذكر أحوال الرشى من الراشي والمرتشي، ليقع نظم التنزيل ما بين أمر في الدين ونهي في الدنيا ليكون ذلك أجمع للقلب في قبول حكم الدنيا عقب حكم الدين ويفهم حال المعاد من عبرة أمر الدنيا، فلذلك تعتور الآيات هذه المعاني ويعتقب بعضها لبعض ويتفصل بعضها ببعض، كما هو حال المرء في يومه وفي مدة عمره حيث تعتور عليه أحوال دينه ودنياه ومعاده، يطابق الأمر الخلق في التنزيل والتطور...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
هذا يعم جميع الأمة، وجميع الأموال، لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه، فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل، ومأكول بالحل لا بالإثم، وإن كان صاحبه كارهاً كقضاء الدين إذا امتنع منه مَنْ هو عليه، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها، ونفقة من أوجب الشرع نفقته. والحاصل أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه، فهو مأكول بالباطل، وإن طابت به نفس مالكه: كمهر البغيّ، وحلوان الكاهن، وثمن الخمر...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
والمراد بالأكل الأخذ ولو بلا إتلاف، لأن حبس المال عن مالكه بلا حق حرام، فيدخل الإتلاف بالأكل في البطن وإعطائها وإفسادها بالأولى، وإذا أكل بعضهم مال الآخر ولم يأكل الآخر ماله فقد دخل في الآية، لأن كل واحد نهى عن أن يأكل مال الآخر، وهذا معنى الآية، وإن قلنا معناها جمع الأكلين أن تأكل ماله وأن يأكل مالك، فأكل أحدهما مال الآخر دون أن يأكل الآخر ماله مستفاد من النص...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الكلام كما تقدم في سرد الأحكام العملية. ولما فرغ من أحكام الصيام وفيها حكم أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت، مهَّدَ لحكم أكل مال غيره بذكر الحدود العامة والنهي عن قربها. ثم قال: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} الخطاب لعامة المكلفين،والمراد لا يأكل بعضكم مال بعض، واختار لفظ أموالكم وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه للإشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وللتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك، لأن استحلال التعدي وأخذ المال بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي، وبيان لحكمة الحكم، كأنه قال لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، لأن ذلك جناية على نفس الآكل، من حيث هو جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، لا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، فهو باستحلاله مال غيره يجرئ غيره على استحلال أكل ماله عند الاستطاعة، فما أبلغ هذا الإيجاز! وما أجدر هذه الكلمة بوصف الإعجاز...
وأما الباطل فهو ما لم يكن في مقابلة شيء حقيقي، وهو من الباطل والبطلان، أي الضياع والخسار، فقد حرمت الشريعة أخذ المال بدون مقابلة حقيقية يعتد بها، ورضاء من يؤخذ منه، وكذلك إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع.
قال الأستاذ الإمام: ومن ذلك تحريم الصدقة على القادر على كسب يكفيه وإن تركه حتى نزل به الفقر اعتمادا على السؤال، ونقول إنها كما حرمت إعطاءه حرمت عليه الأخذ إذا هو أعطاه معط، فلا يحل لمسلم أن يقبل صدقة وهو غير مضطر إليها، ولا للمضطر إلا إذا كان عاجزا عن إزالة اضطراره بسعيه وكسبه.
أقول: وأبلغ من هذا وذاك ما ذكره الفقهاء من أنه لا يجب على العاري الذي لا يجد ما يستر عورته في الصلاة أن يستعير ثوبا يصلي فيه أو يقبله صدقة ممن يبذله له لما في ذلك من المنة التي لا يكلف الإسلام احتمالها، وله أن يصلي عاريا...
قال الأستاذ: إن كل أجر يؤخذ على عبادة...إنما يكون [مع] النية وإرادة وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته بامتثال أمره، ومتى شاب هذه النية شائبة من حظ الدنيا خرج العمل عن كونه عبادة خالصة لله، والله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا من الحظوظ والشوائب... وجملة القول: إن أكل أموال الناس بالباطل يتحقق في كل أخذ للمال بغير رضى من المأخوذ منه لا شائبة للجهل أو الوهم أو الغش أو الضرر فيه، ومما تعرض فيه الشوائب كلها أو أكثرها قراءة القرآن بالأجرة لأجل الموتى أو دفع ضرر الجن أو غيره عن الأحياء، والذي يعطي الأجرة عليها يجهل ذلك، ويتوهم أنها تكون سببا لنفع الميت أو الحي أو رفع ضرر العذاب في الآخرة أو الجن في الدنيا (مثلا) والجاهل بالشرع في المسألة عرضة لقبول الإيهام والغش من الدجالين والمحتالين وليس كذلك إقراء القرآن في البيوت لأجل اتعاظ أهلها وتقوية شعور الإيمان بسماعه، بل هذا كتعليم العلم الذي بسطناه آنفا، وينبغي أن يكون إكرام القراء بغير صفة الأجرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظل الصوم، والامتناع عن المأكل والمشرب، يرد تحذير من نوع آخر من الأكل: أكل أموال الناس بالباطل، عن طريق التقاضي بشأنها أمام الحكام اعتمادا على المغالطة في القرائن والأسانيد، واللحن بالقول والحجة. حيث يقضي الحاكم بما يظهر له، وتكون الحقيقة غير ما بدا له. ويجيء هذا التحذير عقب ذكر حدود الله، والدعوة إلى تقواه، ليظللها جو الخوف الرادع عن حرمات الله:
(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون).
ذكر ابن كثير في تفسير الآية: "قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام. وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله [ص] قال: "إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار. فليحملها أو ليذرها"..
وهكذا يتركهم لما يعلمونه من حقيقة دعواهم. فحكم الحاكم لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا. إنما هو ملزم في الظاهر. وإثمه على المحتال فيه.
وهكذا يربط الأمر في التقاضي وفي المال بتقوى الله. كما ربط في القصاص، وفي الوصية وفي الصيام. فكلها قطاعات متناسقة في جسم المنهج الإلهي المتكامل. وكلها مشدودة إلى تلك العروة التي تربط قطاعات المنهج كله.. ومن ثم يصبح المنهج الإلهي وحدة واحدة. لا تتجزأ ولا تتفرق. ويصبح ترك جانب منه وإعمال جانب، إيمانا ببعض الكتاب وكفرا ببعض.. فهو الكفر في النهاية. والعياذ بالله..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف جملة على جملة، والمناسبة أن قوله: {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة: 187] تحذير من الجُرأَة على مخالفة حكم الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب من الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل، والمشاكلة زادت المناسبةَ قوة، وهذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام.
[و] كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن الميسِر، ومن غصب القوي مال الضعيف، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى، ومن الغرر والمقامرة، ومن المراباة ونحو ذلك، وكل ذلك من الباطل الذي ليس عن طيب نفس.
والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا استعارة للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع؛ لأن ذلك الأخذ يشبه الأَكل من جميع جهاته، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل كما لا يخفى...
والأموال جمع مال ونُعرِّفه بأنه « ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيَّات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلاً بكدح، فلا يعد الهواء مالاً، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالاً، ولا التراب مالاً، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالاً، ويعد الماء المحتفر بالآبار مالاً، وتراب المقاطع مالاً، والحشيش والحطب مالاً، وما ينحته المرء لنفسه في جبلٍ مالاً.
والمالُ ثلاثة أنواع: النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب، والثمار، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده ولركوبه قال تعالى: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين}
[النحل: 80] وقال: {لتركبوا منها ومنها تأكلون} [غافر: 79] وقد سمت العرب الإبل مالاً قال زهير: * صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بمَخْرَم * وقال عمر:"لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حَمَيْتُ عليهم من بلادهم شبراً" وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين، فصاحبه ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه، وفي الحديث « يقول ابن آدَمَ مَالِي مَالِي وإنما مالك ما أكلت فأَمريت أو أَعطيتَ فأغنيت» فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي.
النوع الثاني: ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها، والنار للطبخ والإذابة، والماء لسقي الأشجار، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق.
النوع الثالث: ما تحصل الإقامةُ بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضاً لما يراد تحصيله من الأشياء، وهذا هو المعبَّر عنه بالنَّقد أو بالعُمْلة، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والوَدَع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه، وهذا لا يتم اعتباره إلاّ في أزمنة السلم والأَمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات.
وقولي في التعريف: حاصلاً بكدح، أردت به أن شأنه أن يكون حاصلاً بسعي فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسباً.
الطريق الأول: طريق التناول من الأرض قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] وقال: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [الملك: 15] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل، وهذا قدْ يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجبال والتقاط الكمأة.
الطريق الثاني: الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح.
الطريق الثالث: التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما بتعامل بأن يعطيَ المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذَ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قُدِّر بمقداره كدينار ودرهم في شيء مقوَّم بهما، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه...
والباطل اسم فاعل من بطل إذا ذهب ضياعاً وخسراً أي بدون وجه، ولا شك أن الوجه هو ما يرضي صاحب المال أعني العِوض في البيوعات وحب المحمدة في التبرعات.
والضمائر في مثل: {ولا تأكلوا أموالكم} إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين،
وفعل: {ولا تأكلوا} وقع في حَيز النهي فهو عام، فأفاد ذلك نهياً لِجميع المسلمين عن كُل أَكل وفي جميع الأَمْوال، قلنا هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فردٍ من أفراد الجمع بكل فردٍ من أفراد الجمع الآخَر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى: {وخذوا حذركم} [النساء: 102] {قوا أنفسكم} [التحريم: 6]، واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله:
{ولا تلمزوا أنفسكم} [الحجرات: 11] وقوله {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} [النور: 61]، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله: {وقِهم السيئات} [غافر: 9]، والتعويل في ذلك على القرائن. وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل؛ بقرينة قوله: {بينكم}؛ لأن بين تقتضي توسطاً خلال طرفين، فعُلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما، فلزم أن يكون الآكل غيرَ المأكول وإلاّ لما كانت فائدة لقوله: {بينكم}.
ومعنى أكلها بالباطل أكلُها بدون وجه، وهذا الأكل مراتب:
المرتبة الأولى: ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلاً كالغصب والسرقة والحيلة.
المرتبة الثانية: ما ألحقه الشرع بالباطل فبيَّن أنه من الباطل وقد كان خفياً عنهم وهذا مثل الربا؛ فإنهم قالوا: {إنَّما البيع مثل الربا} [البقرة: 275]، ومثل رشوة الحكام، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ ففي الحديث: "أرَأَيْتَ إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه "والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي: هي خمسون حديثاً.
المرتبة الثالثة: ما استنبطه العلماء من ذلك، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل، والعلماءُ فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب مِن المالكية وتفصيله في الفقه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد أن بين سبحانه وتعالى الصوم وما فيه من تهذيب النفس بين سبحانه وتعالى أن من التهذيب النفسي أو بث التقوى في روح الجماعة الإسلامية نزاهة المال عن الخبث كنزاهة النفس، ولذا عطف علة الأوامر والنواهي الخاصة بالصوم النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، فقال تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الأحكام}...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وهكذا وقفت توجيهات القرآن الكريم، وتعاليمه السامية، تؤيد الحق ضد الباطل، وتنصر العدل ضد الظلم، وتضع حدا للأنانية والطمع في جميع المجالات، ولاسيما مجال العلاقات الاجتماعية وما تقوم عليه من المعاملات...
وهكذا نجد أن الآكل من المال المتداول أمر شائع بين البشر. ويريد الله يضبطه بنظام فقال سبحانه: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون 188}.
ومادامت أموالي فلماذا لا آكلها؟ إن الأمر هنا للجميع، والأموال مضافة للجميع، فالمال ساعة يكون ملكا لي، فهو في الوقت نفسه يكون مالاً ينتفع به الغير.
إذن فهو أمر شائع عند الجميع، لكن ما الذي يحكم حركة تداوله؟ إن الذي يحكم حركة تداوله هو الحق الثابت الذي لا يتغير، ولا يحكمه الباطل. وما معنى الباطل، والحق؟ إن الباطل هو الزائل، وهو الذي لا يدوم، وهو الذاهب. والحق هو الثابت الذي لا يتغير فلا تأكل بالباطل، أي لا تأكل مما يملكه غيرك إلا بحق أثبته الله بحكم: فلا تسرق، ولا تغتصب، ولا تخطف، ولا ترتش، ولا تكن خائناً في الأمانة التي أنت موكل بها، فكل ذلك إن حدث تكن قد أكلت المال بالباطل.
وحين تأكل بالباطل فلن تستطيع أنت شخصياً أن تعفي غيرك مما أبحته لنفسك، وسيأكل غيرك بالباطل أيضاً. ومادمت تأكل بالباطل وغيرك يأكل بالباطل، هنا يصير الناس جميعا نهباً للناس جميعا. لكن حين يُحكم الإنسان بقضية الحق فأنت لا تأخذ إلا بالحق، ويجب على الغير ألا يعطيك إلا بالحق، وبذلك تخضع حركة الحياة كلها لقانون ينظم الحق الثابت الذي لا يتغير، لماذا؟ لأن الباطل قد يكون له علوّ، لكن ليس له استقرار...
إن الله يريد أن تكون حركة حياتنا نظيفة شريفة، حركة كريمة فلا يدخل في بطنك إلا ما عرقت من أجله، ويأخذ كل إنسان حقه. وقبل أن يفكر الإنسان في أن يأكل عليه أن يتحرك ليأكل، لا أن ينتظر ثمرة حركة الآخرين، لماذا؟ لأن هذا الكسل يشيع الفوضى في الحياة. وحين نرى إنساناً لا يعمل ويعيش في راحة ويأكل من عمل غيره فإن هذا الإنسان يصبح مثلاً يحتذي به الآخرون فيقنع الناس جميعاً بالسكون عن الحركة ويعيشون عالة على الآخرين. ويترتب على ذلك توقف حركة الحياة، وهذا باطل زائل، وبه تنتهي ثمار حركة المتحرك، وهنا يجوع الكل.
إن الحق يريد للإنسان أن يتحرك ليشبع حاجته من طعام وشراب ومأوى، وبذلك تستمر دورة الحياة. إنه سبحانه يريد أن يضمن لنا شرف الحركة في الحياة بمعنى أن تكون لك حركة في كل شيء تنتفع به؛ لأن حركتك لن يقتصر نفعها عليك، ولكنها سلسلة متدافعة من الحركات المختلفة، وحين تشيع أنت شرف الحركة فالكل سيتحرك نحو هذا الشرف، لكن الباطل يتحقق بعكس ذلك، فأنت حين تأكل من حركة الآخرين تشيع الفوضى في الكون.
وعلى هذا فالحركة الحلال لا يكفي فيها أن تتحرك فقط، ولكن يجب أن تنظر إلى شرف الحركة بألا تكون في الباطل، لأن الذي يسرق إنما يتحرك في سرقته، ولكن حركته في غير شرف وهي حركة حرام. إذن كل مسروق في الوجود نتيجة حركة باطلة، وكذلك الغصب، والتدليس، والغش، وعدم الأمانة في العمل، والخيانة في الوديعة، وإنكار الأمانة، كل ذلك باطل، وكل حركة في غير ما شرّع الله باطل، حتى المعونة على حركة في غير ما شرّع الله، كل ذلك باطل.
ويقول لنا الحق سبحانه: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) أي إياكم أن تأكلوها بالباطل ثم تدلوا بها إلى الحكام ليبرّروا لكم أن هذا الباطل هو حق لكم. فهناك أناس كثيرون يرون في فعل الحاكم مبرراً لأن يفعلوا مثله، وهذا أمر خاطئ؛ لأن كل إنسان مسئول عن حركته..
لا تقل إن الحاكم قد شرع أعمالاً وتُلقي عليه تبعة أفعالك؛ ومثال ذلك تلك الأشياء التي نقول عليها إنها فنون جميلة من رقص وغناء وخلاعة، هل إباحة الحكومات لها وعدم منعها لها هل ذلك يجعلها حلالاً؟ لا؛ لأن هناك فرقاً بين الديانة المدنية والديانة الربانية. ولذلك تجد أن الفساد إنما ينشأ في الحياة من مثل هذا السلوك.
إن الذين يشتغلون بعمل لا يقرّه الله فهم يأكلون أموالهم بالباطل، ويدخلون في بطون أولادهم الأبرياء مالاً باطلاً، وعلى الذين يأكلون من مثل هذه الأشياء أن ينتبهوا جيداً إلى أن الذي يعولهم، إنما أدخل عليهم أشياء من هذا الحرام والباطل، وعليهم أن يذكروا ربهم وأن يقولوا: لا لن نأكل من هذا المصدر؛ لأنه مصدر حرام وباطل، ونحن قد خلقنا الله وهو سبحانه متكفل برزقنا.
وأنا أسمع كثيراً ممن يقولون: إن هذه الأعمال الباطلة أصبحت مسائل حياة، ترتبت الحياة عليها ولم نعد نستطيع الاستغناء عنها. وأقول لهم: لا، إن عليكم أن ترتبوا حياتكم من جديد على عمل حلال، وإذا أصر واحد على أن يعمل عملاً غير حلال ليعول من هو تحته، فعلى المعال أن يقف منه موقفا يردّه، ويصر على ألا يأكل من باطل.
وتصوروا ماذا يحدث عندما يرفض ابن أن يأكل من عمل أمه التي ترقص مثلا أو تغني، أو عمل والده إذا علم أنه يعمل بالباطل؟ المسألة ستكون قاسية على الأب أو الأم نفسيهما.
إن الذين يقولون: إن هذا رزقنا ولا رزق لنا سواه، أقول لهم: إن الله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب، ولا يظن إنسان أن عمله هو الذي سيرزقه، إنما يرزقه الله بسبب هذا العمل: فإن انتقل من عمل باطل إلى عمل آخر حلال فلن يضن الله عليه بعمل حق ورزق حلال ليقتات منه.
وقد عالج الحق سبحانه وتعالى هذه القضية حينما أراد أن يحرم بيت الله في مكة على المشركين، لقد كان هناك أناس يعيشون على ما يأتي به المشركون في موسم الحج، وكان أهل مكة يبيعون في هذا الموسم الاقتصادي كل شيء للمشركين الذين يأتون للبيت، وحين يحرّم الله على المشرك أن يذهب إلى البيت الحرام فماذا يكون موقف هؤلاء؟
إن أول ما يخطر على البال هو الظن القائل: (من أين يعيشون)؟ ولنتأمل القضية التي يريد الله أن ترسخ في نفس كل مؤمن. قال الحق:
{إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (من الآية 28 سورة التوبة).
ثم يأتي للقضية التي تشغل بال الناس فيقول: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء} (من الآية 28 سورة التوبة).
وهكذا نرى أن هذه القضية لم تخف على الله فلا يقولن أحد إن العمل الباطل الحرام هو مصدر رزقي، ولن أستطيع العيش لو تركته سواء كان تلحيناً أو عزفاً أو تأليفاً للأغاني الخليعة، أو الرقص، أو نحت التماثيل. نقول له: لا، لا تجعل هذا مصدراً لرزقك والله يقول لك: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله). وأنت عندما تتقي الله، فهو سبحانه يجعل لك مخرجا. (ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب)، وعليك أن تترك كل عمل فيه معصية لله وانظر إلى يد الله الممدودة لك بخيره.
إذن فقول الله: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) تنبيه للناس ألا يدخلوا في بطونهم وبطون من يعولون إلا مالاً من حق، ومالاً بحركة شريفة؛ نظيفة، وليكن سند المؤمن دائماً قول الحق: {ومن يتّق الله يجعل له مخرجا 2 ويرزقه من حيث لا يحتسب.. 3} (سورة الطلاق).
ولنا أن نعرف أن من أكل بباطل جاع بحق، أي أن الله يبتليه بمرض يجعله لا يأكل من الحلال الطيب، فتجد إنساناً يمتلك أموالاً ويستطيع أن يأكل من كل ما في الكون من مطعم ومشرب، ولكن الأطباء يحرمون عليه الأكل من أطعمة متعددة لأن أكلها وبال وخطر على صحته، وتكون النعمة أمامه وملك يديه، ولكنه لا يستطيع أن يأكل منها بحق. وفي الوقت نفسه يتمتع بالنعمة أولاده وخدمة وحاشيته وكل من يعولهم، مثل هذا الإنسان نقول له: لابد أنك أخذت شيئا بالباطل فحرمك الله من الحق. ومن هنا نقول: (من أكل بباطل جاع بحق). وكذلك نقول: (من استغل وسيلة في باطل أراه الله قبحها بحق)، فالذي ظلم الناس بقوته وبعضلاته المفتولة لابد أن يأتي عليه يوم يصبح ضعيفا...
إن كل من أكل بباطل سيجوع بحق، وكل من استغل وسيلة بباطل أراه الله قبحها بحق، واكتب قائمة أمامك لمن تعرفهم، واستعرض حياة كل من استغل شيئاً مما خلقه الله في إشاعة انحراف ما أو جعله وسيلة لباطل لابد أن يريه الله باطلا فيه.
وأنا أريد الناس أن يعملوا قائمة لكل المنحرفين عن منهج الله، ويتأملوا مسيرة حياتهم، وكل منا يعرف جيرانه وزملاءه من أين يأكلون؟ ومن أين يكتسبون؟ ليتأمل حياتهم ويعرف أعمال الحلال والحرام ويجعل حياتهم عبرة له ولأولاده، كيف كانوا؟ وإلي أي شيء أصبحوا؟ ثم ينظر خواتيم هؤلاء كيف وصلت. ومن حبنا لهؤلاء الناس نقول لهم: تداركوا أمر أنفسكم فلن تخدعوا الله في أنكم تجمعون المال الحرام، وبعد ذلك تخرجون منه الصدقات، إن الله لن يقبل منكم عملكم هذا؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب.
ونحن نسمع عن كثير من المنحرفين في الحياة يذهبون للحج، ويقيمون مساجد ويتصدقون، وكل ذلك بأموال مصدرها حرام، ولهؤلاء نقول: إن الله غني عن عبادتكم، وعن صدقاتكم الحرام، وننصحهم بأن الله لا ينتظر منكم بناء بيوت له من حرام أو التصدق على عباده من مال مكتسب بغير حلال، لكنه سبحانه يريد منكم استقامة على المنهج.
وحين نتأمل الآية نجد فيها عجباً، يقول الله عز وجل: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام) لقد ذكر الحق الحكّام في الآية؛ لأن الحاكم هو الذي يقنن ويعطي مشروعية للمال ولو كان باطلاً، وقوله سبحانه: (تدلوا) مأخوذة من (أدلى)، ونحن ندلي الدلو لرفع الماء من البئر و (دلاه): أي أخرج الدلو، أما (أدلى): فمعناها (أنزل الدلو). ولذلك في قصة الشيطان الذي يغوي الإنسان قال الحق:
{فدلاّهما بغرورٍ فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} (من الآية 22 سورة الأعراف).
(وتدلوا بها إلى الحكّام) أي ترشوا الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالباطل، ومن العجيب أن هذا النص بعينه هو نص الرشوة. والرشوة مأخوذة من الرّشاء، والرّشاء هو الحبل الذي يعلق فيه الدلو، فأدلى ودلا في الرشوة. ولماذا يدلون بها إلى الحكام؟ إنهم يفعلون ذلك حتى يعطيهم الحكام التشريع التقنيني لأكل أموال الناس بالباطل، وذلك عندما نكون محكومين بقوانين البشر، لكن حينما نكون محكومين بقوانين الله فالحاكم لا يبيح مثل هذا الفعل.
ولذلك وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ فقال: (إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها) إن الذي يقول ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المعصوم، إنه يحذر من أن يحاول أحد أن يبالغ في قوة الحجة ليأخذ بها حقاً ليس له...
وإذا نظرنا إلى أي فساد في الكون، في أي مظهر من مظاهر الفساد فسنجد أن سببه هو أكل المال بالباطل، ولذلك لم يترك الحق سبحانه وتعالى تلك المسائل غائبة، وإنما جعلها من الأشياء المشاهدة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وربما كان التعبير ب {أَمْوَالَكُمْ} إشارة إلى أنَّ المال للجماعة، ولكنَّ اللّه جعل لكلّ فرد منه حصة خاصة يتصرّف فيه بما يريد مما لا يسيء إلى مصلحة الآخرين، الأمر الذي يؤكد الصفة العامة للمال من موقع تأكيده على الصفة الخاصة، على أساس أنَّ لكلّ منهما وظيفة ودوراً لا يتعدّاه ولا يسيء في حركته العملية للآخر...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
المبادئ الأوليّة للاقتصاد الإسلامي:
هذه الآية الكريمة تشير إلى أحد الأصول المهمّة والكليّة للاقتصاد الإسلامي الحاكمة على مجمل المسائل الاقتصادية، بل يمكن القول إنّ جميع أبواب الفقه الإسلامي في دائرة الاقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة، ولذا نلاحظ أنّ الفقهاء العظام تمسّكوا بهذه الآية في مواضع كثيرة في الفقه الإسلامي وهو قوله تعالى (ولا تأكلوا أَموالكم بينكم بالباطل).
أمّا المراد من «الباطل» في هذه الآية الشريفة فقد ذكر له عدّة تفاسير، ذهب أحدها إلى أنّ معناه الأموال الّتي يستولي عليها الإنسان من طريق الغصب والعدوان، وذهب آخرون أنّ المراد هو الأموال الّتي يحصل عليها الشّخص من القمار وأمثاله.
ويرى ثالث أنّها إشارة إلى الأموال الّتي يكتسبها الشخص بواسطة القَسَم الكاذب وأشكال الحيل في المعاملات والعقود التّجاريّة.
ولكنّ الظاهر أنّ مفهوم الآية عام يستوعب جميع ما ذكرنا من المعاني للباطل لأنّ الباطل يعني الزّائل، وهو شامل لما ذكر من المعاني...
فعلى هذا يكون كلّ تصرّف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع مشمولاً لهذا النهي الإلهي. وكذلك فهكذا أنّ جميع المعاملات الّتي لا تتضمّن هدفاً سليماً ولا ترتكز على أساس عقلائي فهي مشمولة لهذه الآية.
ونفس هذا المضمون ورد في سورة النساء الآية 29 مع توضيح أكثر حيث تخاطب المؤمنين (يا أيُّها الَّذينَ آمَنوُا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُم بَينكُمْ بِالبِاطِلِ إلاّ تكونَ تجارةً عَن تراض مِنْكُمْ).
إنّ استثناء التّجارة المقترنة مع التراضي هو في الواقع بيان لمصداق بارز للمعاملات المشروعة والمباحة، فلا تنفي الهبة والميراث والهديّة والوصيّة وأمثالها، لأنّها تحققّت عن طريق مشروع وعقلائي.
والملفت للنظر أنّ بعض المفسّرين قالوا: أنّ جعل هذه الآية مورد البحث بعد آيات الصوم (آيات 182 -187) علامة على وجود نوع من الارتباط بينهما، فهناك نهيٌ عن الأكل والشرب من أجل أداء عبادة إلهيّة، وهنا نهيٌ عن أكل أموال الناس بالباطل الّذي يعتبر أيضاً نوع من الصوم ورياضة النفوس، فهما في الواقع فرعان لأصل التقوى. ذلك التقوى الَّذي ورد في الآية بعنوان الهدف النّهائي للصوم 144.
ولابدّ من ذكر هذه الحقيقة وهي أنّ التعبير بالأكل يُعطي معناً واسعاً حيث يشمل كلّ أنواع التصرّفات، أي أنه تعبير كنائي عن أنواع التصرّفات، والأكل هو أحد المصاديق البارزة له.
ثمّ يشير في ذيل الآية إلى نموذج بارز لأكل المال بالباطل والّذي يتصوّر بعض الناس أنّه حقّ وصحيح لأنّهم أخذوه بحكم الحاكم فيقول: (وتُدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) 145.
(تدلوا) من مادّة (إدلاء)، وهي في الأصل بمعنى إنزال الدلو في البئر لإخراج الماء، وهو تعبير جميل للموارد الّتي يقوم الإنسان فيها بتسبيب الأسباب لنيل بعض الأهداف الخاصّة.
وهناك احتمالان في تفسير هذه الجملة:
الأول: هو أن يكون المراد أن يقوم الإنسان بإعطاء قسماً من ماله إلى القضاة على شكل هديّة أو رشوة وكليهما هنا بمعنىً واحد ليتملّك البقيّة، فالقرآن يقول: إنّكم بالرّغم من حصولكم على المال بحكم الحاكم أو القاضي ظاهراً، ولكنّ هذا العمل يعني أكلٌ للمال بالباطل، وهو حرام.
الثّاني: أن يكون المراد أنّكم لا ينبغي أن تتحاكموا إلى القضاة في المسائل الماليّة بهدف وغرض غير سليم، كأن يقوم أحد الأشخاص بإيداع أمانة أو مال ليتيم لدى شخص آخر من دون شاهد، وعندما يطالبه بالمال يقوم ذلك الشخص بشكايته لدى القاضي، وبما أنّ المودع يفتقد إلى الشاهد فسوف يحكم القاضي لصالح الطرف الآخر، فهذا العمل حرام أيضاً وأكلٌ للمال بالباطل.
ولا مانع من أن يكون لمفهوم الآية هذه معناً واسعاً يشمل كلا المعنيين في جملة (لا تدلوا)، بالرغم من أنّ كلّ واحد من المفسرين ارتضى أحد هذين الاحتمالين.
والملفت للنظر أنّه ورد حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إنّما أنا بشر وإنّما يأتيني الخصم فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له فإن قضيت له بحق مُسلّم فإنّما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها» أي لا تتصوروا أنه من أمواله ويحل له أكله، لأن رسول الله حكم له بهذا المال، بل هي قطعة من نار.
من الأوبئة الاجتماعية التي ابتلي بها البشر منذ أقدم العصور وباء الارتشاء، وكانت هذه الظاهرة المرضيّة دوماً من موانع إقامة العدالة الاجتماعية ومن عوامل جرّ القوانين لصالح الطبقات المقتدرة، بينما سُنّت القوانين لصيانة مصالح الفئات الضعيفة من تطاول الفئات القوية عليهم. الأقوياء قادرون بما يمتلكونه من قوّة أن يدافعوا عن مصالحهم، بينما لا يملك الضعفاء إلاَّ أن يلوذوا بالقانون ليحميهم، ولا تتحقّق هذه الحماية في جوّ الارتشاء، لأنّ القوانين ستصبح أُلعوبةً بيد القادرين على دفع الرشوة، وسيستمر الضعفاء يعانون من الظلم والاعتداء على حقوقهم.
ولهذا شدّد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبّحها واعتبرها من الكبائر، فهي تفتّت الكيان الاجتماعي، وتؤدي إلى تفشّي الظلم والفساد والتمييز بين الأفراد في المجتمع الإنساني، وتصادر العدالة من جميع مؤسّساته.
جدير بالذكر أنّ قبح الرشوة قد يدفع بالراشين إلى أن يغطّوا رشوتهم بقناع من الأسماء الأخرى كالهدية ونظائرها، ولكن هذه التغطية لا تغيّر من ماهيّة العمل شيئاً، والأموال المستحصلة عن هذا الطريق محرّمة غير مشروعة...
الإسلام أدان الرشوة بكلّ أشكالها...
ومن أجل أن يصون الإسلام القضاة من الرشوة بكلّ أشكالها الخفيّة وغير المباشرة، أمر أن لا يذهب القاضي بنفسه إلى السوق للشراء، كي لا يؤثّر فيه بائع من الباعة فيبيعه بضاعة بثمن أقل، ويكسب على أثرها تأييد القاضي في المرافعة.
أين المسلمون اليوم من هذه التعاليم الدقيقة الصارمة الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل حقيقيّ عمليّ في الحياة؟!