قوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماءً بقدر } يعلمه الله . قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة ، { فأسكناه في الأرض } يريد ما يبقى في الغدران والمستنقعات ، ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر . وقيل : فأسكناه في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع ، فماء الأرض كله من السماء ، { وإنا على ذهاب به لقادرون } حتى تهلكوا عطشاً وتهلك مواشيكم وتخرب أراضيكم . وفي الخبر : " إن الله عز وجل أنزل أربعة أنهار من الجنة : سيحان ، وجيجان ، ودجلة ، والفرات " . وروى مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله عز وجل أنزل من الجنة خمسة أنهار : جيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات ، والنيل ، أنزلها الله عز وجل من عين واحدة من عيون الجنة ، من أسفل درجة من درجاتها ، على جناحي جبريل ، استودعها الله الجبال ، وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قوله عز وجل : { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن ، والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة ، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى : { وإنا على ذهاب به لقادرون } فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا " . وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن يوسف ، عن عثمان بن سعيد بالإجازة ، عن سعيد بن سابق الإسكندراني ، عن مسلمة بن علي ، عن مقاتل بن حيان .
{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } يكون رزقا لكم ولأنعامكم بقدر ما يكفيكم ، فلا ينقصه ، بحيث لا يكفي الأرض والأشجار ، فلا يحصل منه المقصود ، ولا يزيده زيادة لا تحتمل ، بحيث يتلف المساكن ، ولا تعيش معه النباتات والأشجار ، بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ثم صرفه عند التضرر من دوامه ، { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } أي : أنزلناه عليها ، فسكن واستقر ، وأخرج بقدرة منزله ، جميع الأزواج النباتية ، وأسكنه أيضا معدا في خزائن الأرض ، بحيث لم يذهب نازلا ، حتى لا يوصل إليه ، ولا يبلغ قعره ، { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } إما بأن لا ننزله ، أو ننزله ، فيذهب نازلا لا يوصل إليه ، أو لا يوجد منه المقصود منه ، وهذا تنبيه منه لعباده أن يشكروه على نعمته ، ويقدروا عدمها ، ماذا يحصل به من الضرر ، كقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }
ثم بين - سبحانه - بعض النعم التى تأتينا من جهة هذه الطرائق فقال : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض . . } .
أى : وأنزلنا لكم - أيها الناس - بقدرتنا ورحمتنا ، ماء بقدر . أى : أنزلناه بمقدار معين ، بحيث لا يكون طوفاناً فيغرقكم ، ولا يكون قليلاً فيحصل لكم الجدب والجوع والعطش . وإنما أنزلناه بتقدير مناسب لجلب المنافع ، ودفع المضار ، كما قال - سبحانه - فى آية أخرى : { . . . وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } وقوله : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } أى : هذا الماء النازل من السماء بتقدير معين منا تقتضيه حكمتنا ، جعلناه ساكناً مستقراً فى الأرض ، لتنعموا به عن طريق استخراجه من الآبار والعيون وغيرها .
وفى هذه الجملة الكريمة إشارة إلى أن المياه الجوفيى الموجودة فى باطن الأرض ، مستمدة من المياه النازلة من السحاب عن طريق المطر .
وهذا ما قررته النظريات العلمية الحديثة بعد مئات السنين من نزول القرآن الكريم . وبعد أن بقى العلماء دهوراص طويلة ، يظنون أن المياه التى فى جوف الأرض ، لا علاقة لها بالمياه النازلة على الأرض عن طريق المطر .
وقوله - سبحانه - : { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } بيان لمظهر من مظاهر قدرته ورأفته ورحمته - تعالى - بعباده .
أى : وإنا على إذهاب هذا الماء الذى أسكناه فى باطن الأرض لقادرون ، بأن نجعله يتسرب إلى أسفل طبقات الأرض لا تستطيعون الوصول إليه ، أو بأن نزيله من الأرض إزالة تامة ، لأن القادر على إنزاله قادر على إزالته وإذهابه ، ولكنا لم نفعل ذلك رحمة بكم ، وشفقة عليكم ، فاشكرونا على نعمنا وضعوها فى مواضعها الصحيحة .
قال صاحب الكشاف : " قوله : { على ذَهَابٍ بِهِ } من أوقع النكرات وأحزها للمفصل .
والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به ، وطريق من طرقه ، وفيه إيذان باقتدرا المذهب ، وأنه لا يتعايى عليه شىء إذا أراده ، وهو أبلغ فى الإبعاد ، من قوله :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } فعلى العباد أن يستعظموا النعمة فى الماء . ويقيدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ . . }
( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ؛ وإنا على ذهاب به لقادرون ) . .
وهنا تتصل تلك الطرائق السبع بالأرض . فالماء نازل من السماء ؛ وله علاقة بتلك الأفلاك . فتكوين الكون على نظامه هذا ، هو الذي يسمح بنزول الماء من السماء ، ويسمح كذلك بإسكانه في الأرض .
ونظرية أن المياه الجوفية ناشئة من المياه السطحية الآتية من المطر ؛ وأنها تتسرب إلى باطن الأرض فتحفظ هناك . . نظرية حديثة . فقد كان المظنون إلى وقت قريب أنه لا علاقة بين المياه الجوفية والمياه السطحية . ولكن ها هو ذا القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قبل ألف وثلاث مائة عام .
( وأنزلنا من السماء ماء بقدر ) . . بحكمة وتدبير ، لا أكثر فيغرق ويفسد ؛ ولا أقل فيكون الجدب والمحل ؛ ولا في غير أوانه فيذهب بددا بلا فائدة . .
( فأسكناه في الأرض ) . . وما أشبهه وهو مستكن في الأرض بماء النطفة وهو مستقر في الرحم .
( في قرار مكين ) . . كلاهما مستقر هنالك بتدبير الله لتنشأ عنه الحياة . . وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة القرآن في التصوير . .
( وإنا على ذهاب به لقادرون ) . . فيغور في طبقات الأرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي استقر عليها فحفظته . أو بغير هذا من الأسباب . فالذي أمسكه بقدرته قادر على تبديده وإضاعته . إنما هو فضل الله على الناس ونعمته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنّا عَلَىَ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأنزلنا من السماء ما في الأرض من ماء ، فأسكناه فيها . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وأنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فأسْكَنّاهُ فِي الأرْضِ ماء هو من السماء .
وقوله : وَإنّا على ذهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ يقول جلّ ثناؤه : وإنا على الماء الذي أسكناه في الأرض لقادرون أن نذهب به فتهلكوا أيها الناس عطشا وتخرب أرضوكم ، فلا تنبت زرعا ولا غرسا ، وتهلك مواشيكم ، يقول : فمن نعمتي عليكم تركي ذلك لكم في الأرض جاريا .
{ وأنزلنا من السماء ماء بقدر } بتقدير يكثر نفعه ويقل ضرره ، أو بمقدار ما علمنا من صلاحهم . { فأسكناه } فجعلناه ثابتا مستقرا . { في الأرض وإنا على ذهاب به } على إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التعميق بحيث يتعذر استنباطه . { لقادرون } كما كنا قادرين على إنزاله ، وفي تنكير { ذهاب } إيماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإيعاد به ولذلك جعل أبلغ من قوله تعالى : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين } .
وقوله تعالى : { ماء بقدر } ، قال بعض العلماء أراد المطر ، وقال بعضهم إنما أراد الأنهار الأربعة سيحان وجيحان والفرات والنيل ، والصواب أن هذا كله داخل تحت الماء الذي أنزله الله تعالى ، وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء ويمكن أَن يقيد هذا بالعذب وإلا فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط ، وأيضاً فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السماوات والأرض ، ولا محالة أَن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء ماء ، وقوله ، { بقدر } ، أي على مقدار مصلح لأَنه لو كثر أهلك .
مناسبة عطف إنزال ماء المطر على جملة { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرايق } [ المؤمنون : 17 ] أن ماء المطر ينزل من صوب السماء ، أي من جهة السماء .
وفي إنزال ماء المطر دلالة على سعة العلم ودقيق القدرة ، وفي ذلك أيضاً منة على الخلق فالكلام اعتبارٌ وامتنان من قوله : { فأنشأنا لكم به جنات } إلى آخره . ومعنى هذه الآية تقدّم في سورة الأنعام وسورة الرعد وسورة النحل .
وإنزال الماء هو إسقاطه من السحب ماءً وثَلجاً وبَرَداً على السهول والجبال .
والقدَر هنا : التقدير والتعيين للمقدار في الكَمّ وفي النَّوبة ، فيصح أن يحمل على صريحه ، أي بمقدار معيَّن مُناسب للإنعام به لأنه إذا أنزل كذلك حصل به الري والتعاقب ، وكذلكَ ذَوَبان الثلوج النازلة . ويصح أن يقصد مع ذلك الكناية عن الضبط والإتقان . وليس المراد بالقَدَر هنا المعنى الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم " وتؤمن بالقَدر خيرِه وشره " .
والإسكان : جعل الشيء في مسكن ، والمسكن : محل القرار ، وهو مفعل اسم مكان مشتق من السكون .
وأطلق الإسكان على الإقرار في الأرض على طريق الاستعارة . وهذا الإقرار على نوعين : إقرار قصير مثل إقرار ماء المطر في القشرة الظاهرة من الأرض عقب نزول الأمطار على حسب ما تقتضيه غزارة المطر ورخاوة الأرض وشدةُ الحرارة أو شدةُ البرد ، وهو ما ينبت به النبات في الحرث والبقل في الربيع وتمتص منه الأشجار بعروقها فتثمر إثمارها وتخرج به عروق الأشجار وأصولها من البزور التي في الأرض .
ونوع آخر هو إقرار طويل وهو إقرار المياه التي تنزل من المطر وعن ذوب الثلوج النازلة فتتسرب إلى دواخل الأرض فتنشأ منها العيون التي تنبع بنفسها أو تُفَجَّر بالحفر آباراً .
وجملة { وإنا على ذهاب به لقادرون } معتَرضة بين الجملة وما تفرع عليها . وفي هذا تذكير بأن قدرة الله تعالى صالحة للإيجاد والإعدام
وتنكير { ذهاب } للتفخيممِ والتعظيم . ومعنى التعظيم هنا تعدد أحوال الذهاب به من تغويره إلى أعماق الأرض بانشقاق الأرض بزلزال ونحوه ، ومن تجفيفه بشدة الحرارة ، ومن إمساك إنزاله زمناً طويلاً .
وفي معناه قوله تعالى : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمَن يأتيكم بماء معين } [ الملك : 30 ] ، وفي « الكشاف » : « وهو ( أي ما في هاته الآية ) أبلغ في الإيعاد من قوله : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غَوراً فمن يأتيكم بماء معين } [ الملك : 30 ] اه . فبيَّن صاحب « التقريب »{[279]} للأبلغيَّة ثمانية عشر وجهاً :
الأول : أن ذلك على الفرض والتقدير وهذا على الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع .
الرابع : أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم .
الخامس : أن الغائر قد يكون باقياً بخلاف الذاهب .
السادس : ما في تنكير { ذهاب } من المبالغة .
السابع : إسناده ههنا إلى مُذهِب بخلافه ثَمَّت حيث قيل { غَوراً } [ الملك : 30 ] .
الثامن : ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة .
التاسع : ما في { قادرون } من الدلالة على القدرة عليه والفعلُ الواقع من القادر أبلغ .
الحادي عشر : ما في لفظ { به } من الدلالة على أن ما يُمسكه فلا مُرسل له .
الثاني عشر : إخلاؤه من التعقيب بإطماععٍ وهنالك ذكر الإتيان المطمع .
الثالث عشر : تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلّق له أو متعلقُهُ على المذهبين البصري والكوفي .
الرابع عشر : ما بين الجملتين الاسميَّة والفعليَّة من التفاوت ثباتاً وغيره .
الخامس عشر : ما في لفظ { أصبح } [ الملك : 30 ] من الدلالة على الانتقال والصيرورة .
السادس عشر : أن الإذهاب ههنا مصرح به وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام .
السابع عشر : أن هنالك نفي ماء خاص أعني المَعين بخلافه ههنا .
الثامن عشر : اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكداً .
وزاد الألوسي في « تفسيره » فقال :
التاسع عشر : إخباره تعالى نفسُه به من دون أمر للغير ههنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك .
العشرون : عدم تخصيص مخاطب ههنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك .
الحادي والعشرون : التشبيه المستفادُ من جعل الجملة حالاً فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمتَ .
الثاني والعشرون : إسناد القدرة إليه تعالى مرتين .
ونقل الألوسي عن عصريِّه المولى محمد الزهاوي وجوهاً وهي :
الثالث والعشرون : تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ( ذهب به ) يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول ، وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك .
الرابع والعشرون : أنه ليس الوقت للذهاب معيّناً هنا بخلافه في { إن أصبح } [ الملك : 30 ] فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي ( أصبح ) ناقصاً .
الخامس والعشرون : أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل ( أي ما دل عليه لفظ غوراً ) .
السادس والعشرون : أن الإيعاد هنا بما لم يبتَلوا به قط بخلافه بما هنالك .
السابع والعشرون : أن الموعدَ به هنا إن وقع فهم هالكون البتة .
الثامن والعشرون : أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفاً في تأميل امتناع الموعَد به وهناك حيث أسند الإصباح غوراً إلى الماء ، ومعلوم أن الماء لا يصبح غوراً بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم ، أيضاً احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنِعة المقدّم فيأمنوا وقوعه .
التاسع والعشرون : أن الموعَد به هنا يحتمل في بادىء النظر وقوعه حالاً بخلافه هناك فإن المستقبل متعيِّن لوقوعه لمكان ( إنْ ) . وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ، ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون .
الثلاثون : أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بُعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه : إن أصبح ماؤكم غوراً فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى .
وأنا أقول : عُنِي هؤلاء النحارير ببيان التفاوت بين الآيتين ولم يتعرّض أحدهم للكشف عن وجه توفير الخصائص في هذه الآية دون الآية الأخرى مما يوازنها ، وليس ذلك لِخلو الآية عن نكت الإعجاز ولا عجزِ الناظرين عن استخراج أمثالها ، ولكن ما يبيّن من الخصائص البلاغيَّة في القرآن ليس يُريد من يبينه أن ما لاح له ووُفق إليه هو قصارى ما أودعه الله في نظم القرآن من الخصائص والمعاني ولكنه مبلغ ما صادف لَوحُه للناظر المتدبر ، والعلماءُ متفاوتون في الكشف عنه على قدر القرائح والفهوم فقد يفاض على أحد من إدراك الخصائص البلاغيَّة في بعض الآيات ولا يفاض عليه مثله أو على مثله في غيرها . وإنما يقصد أهل المعاني بإفاضة القول في بعض الآيات أن تكون نموذجاً لاستخراج أمثال تلك الخصائص في آيات أخرى كما فعل السكاكي في بيان خصائص قوله تعالى : { وقيل يا أرض ابلعي ماءَك } [ هود : 44 ] الآية من مبحث الفصاحة والبلاغة من « المفتاح » ، وأنه قال في منتهى كلامه « ولا تظنَّنَّ الآية مقصورة على ما ذكرتُ فلعل ما تركتُ أكثرُ مما ذكرت لأن المقصود لم يكن إلاّ الإرشادَ لكيفيَّة اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان » .
وقد نقول : إن آية سورة المؤمنين قصد منها الإنذار والتهديد بسلب تلك النعمة العظيمة ، وأما آية سُورة المُلك فالقصد منها الاعتبار بقدرة الله تعالى على سلبها ، فاختلاف المقامين له أثر في اختلاف المقتضيَات فكانت آية سورة المؤمنين آثر بوفرة الخصائص المناسبة لمقام الإنذار والتهديد دون تعطيل لاستخراج خصائص فيها لعلنا نلم بها حين نَصل إليها .
على أن سورة الملك نزلت عقب نزول سورة المؤمنين وقد يتداخل نزول بعضها مع نزول بعض سورة المؤمنين ، فلما أشبعت آية سورة المؤمنين بالخصوصيات التي اقتضاها المقام اكتُفي عن مثلها في نظيرتها من سورة الملك فسَلك في الثانية مسلك الإيجاز لقرب العهد بنظيرها .