فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَسۡكَنَّـٰهُ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۭ بِهِۦ لَقَٰدِرُونَ} (18)

{ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( 18 ) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 19 ) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ( 20 ) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 21 ) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( 22 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( 23 ) } .

{ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء } هذا من جملة ما امتنّ الله سبحانه به على خلقه ، والمراد بالماء ماء المطر ، فإن به حياة الأرض وما فيها من الحيوان ، ومن جملة ذلك ماء الأنهار النازل من السماء ، والعيون والآبار المستخرجة من الأرض ، فإنّ أصلها من ماء السماء ، وقيل ماء أي عذبا ، وإلا فالأجاج ثابت في الأرض مع القحط ، والعذب يقل مع القحط ، وفي الأحاديث أن الماء كان موجودا قبل خلق السماوات والأرض ، ثم جعل الله منه في السماء ماء وفي الأرض ماء كذا في البحر .

و { من } ابتدائية وتقديمها على المفعول الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والعدول عن الإضمار لأن الإنزال لا يعتبر فيه عنوان كونها طرائق بل مجرد كونها بصفة العلو .

{ بِقَدَرٍ } أي : بتقدير منا لاستجلاب منافعهم ، ودفع مضارهم أو بمقدار ما يكون به صلاح الزرائع والثمار والشرب ، فإنه لو كثر لكان به هلاك ذلك ، ومثله قوله تعالى { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } .

{ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } أي جعلناه ساكنا مستقرا ثابتا فيها ، بعضه على ظهرها ، وبعضه في بطنها ، ينتفعون به وقت حاجتهم إليه كالماء الذي يبقى في المستنقعات والغدران ونحوها عند انقطاع المطر ، وأخرج ابن مردويه والخطيب قال السيوطي بسند ضعيف : عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق ، والنيل وهو نهر مصر ، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل ، فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم فذلك قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ } فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله :

{ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة ) .

قال البغوي ؛ رواه الحسن بن سفيان بالإجازة عن سعيد بن سابق السكندري عن مسلمة بن علي{[1258]} عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس ، والمعنى كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه ، إما بالإفساد وإما بالتصعيد وإما بالتعميق والتغوير في الأرض ، ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى ، وفي هذا تهديد شديد لما يدل عليه من قدرته سبحانه على إذهابه وتغويره حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم .

ومثله قوله : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين } ،


[1258]:مسلمة بن علي بضم العين وفتح اللام وتشديد الياء شامي واهي الحديث. قال البخاري منكر الحديث، وقال النسائي متروك، والحديث ساقه ابن عدي بإسناده في الضعفاء ونبه دحيم بأنه ليس بشيء، وقال أبو حاتم لا يشتغل به. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة، أما مقاتل بن حيان وهو من رجال مسلم وإن لم يرو له البخاري فقد قال وكيع: ينسب إلى الكذب، وكان أحمد بن حنبل لا يعبأ بمقاتل بن حيان ولا بمقاتل بن سليمان، وقال ابن خزيمة: لا أحتج بمقاتل بن حيان. قلت: ومن ثم لا يعتد بهذا الحديث. "المطيعي".