البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَسۡكَنَّـٰهُ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۭ بِهِۦ لَقَٰدِرُونَ} (18)

{ بقدر } بتقدير منا معلوم لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم { فأسكناه في الأرض } أي جعلنا مقره في الأرض .

وعن ابن عباس : أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل .

وفي قوله { فأسكناه في الأرض } دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض ، فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه .

قال الزمخشري : { على ذهاب به } من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه انتهى .

و { ذهاب } مصدر ذهب ، والباء في { به } للتعدية مرادفة للهمزة كقوله { لذهب بسمعهم } أي لأذهب سمعهم .

وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم ، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين } وقال مجاهد : ليس في الأرض ماء إلاّ وهو من السماء .

قال ابن عطية : ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلاّ فالأجاج نابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط ، وأيضاً فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض ، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء انتهى .

وقيل : ما نزل من السماء أصله من البحر ، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد ، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ولو كان باقياً على حاله ما انتفع به من ملوحته .