اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَسۡكَنَّـٰهُ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۭ بِهِۦ لَقَٰدِرُونَ} (18)

قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ } الآية ، لما استدل أولاً على كمال القدرة بخلق الإنسان ، ثم استدل ثانياً بخلق السموات ، استدّل ثالثاً بنزول الأمطار ، وكيفية تأثيرها في النبات . واعلم أنّ الماء في نفسه نعمة ، وهو مع ذلك سبب لحصول{[32412]} النعم ، فلا جَرم ذكره الله أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً{[32413]} .

قال أكثر المفسرين{[32414]} : إنه تعالى يُنزل الماء في الحقيقة من السماء لظاهر الآية ، ولقوله : { وَفِي السماء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ }{[32415]} [ الذاريات : 22 ] . وقال بعضهم : المراد بالسماء السحاب ، وسماه سماء لعلوه ، والمعنى : أنّ الله صعد الأجزاء المائية من قعر الأرض ، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد ، ثم إن تلك الذرّات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله على قدر الحاجة إليه ، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في{[32416]} قعر الأرض ، ولا بماء البحر لملوحته ، ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض ، لأنّ البحار هي الغاية في العمق ، وهذه الوجوه التي{[32417]} يتحملها من ينكر الفاعل المختار ، فأمّا من أَقرَّ به فلا حاجة به إلى شيء منها{[32418]} .

وقوله : «بِقَدَرٍ » قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة{[32419]} من الزرع والغرس والشرب ، ويَسْلَمُون معه من المضرة .

وقوله : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } قيل : جعلناه ثابتاً في الأرض ، قال ابن عباس : أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سَيْحُونَ{[32420]} وجَيْحُونَ{[32421]} ودجلة والفرات{[32422]} والنيل{[32423]} أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل - عليه السلام{[32424]} - ، ثم استودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً بِقَدَرٍ{[32425]} فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } ، ثم يرفعها عند خروج{[32426]} يأجوج ومأجوج ، ويرفع أيضاً القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله : { وَإِنَّا على ذَهَاب بِهِ لَقَادِرُونَ } ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فَقَدَ أَهْلُها خير الدنيا والدين{[32427]} . وقيل : معنى : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } : ما تبقّى في الغدران والمستنقعات ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر .

وقيل : فأسكناهُ في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع ، فماء الأرض كله من السماء .

قوله : { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } «عَلَى ذَهَابٍ » متعلق ب «لقَادِرُونَ »{[32428]} واللام كما تقدم{[32429]} غير مانعة من ذلك ، و «بِهِ » متعلق ب «ذَهَابٍ »{[32430]} ، وهي مرادفة للهمزة{[32431]} كهي في «لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ »{[32432]} أي : على إذهابه{[32433]} والمعنى : كما قَدَرْنا على إنزاله كذلك{[32434]} نَقْدِر على رفعه وإزالته فتهلكوا عطشاً ، وتهلك مواشيكم وتخرب أرضكم{[32435]} .

قال الزمخشري : قوله : { على ذَهَابٍ بِهِ } من أوقع{[32436]} النكرات وأحزها للمفصل{[32437]} ، والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به ، وطريق من طرقه ، وفيه إيذان{[32438]} بكمال{[32439]} اقتدار المذهب وأنه{[32440]} لا يتعايا عليه شيء ، وهو أبلغ في{[32441]} الإيعاد من قوله :

{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ }{[32442]} {[32443]} [ الملك : 30 ]


[32412]:في ب: في حصول.
[32413]:انظر الفخر الرازي 23/89.
[32414]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/89.
[32415]:[الذاريات: 22].
[32416]:في الأصل: من. وهو تحريف.
[32417]:في ب: السماء. وهو تحريف.
[32418]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 23/89.
[32419]:البغوي 6/13.
[32420]:سيحون: نهر بالهند. اللسان (سيح).
[32421]:جيحون: نهر بلخ، وهو فيعول، قال ابن بري: يحتمل أن يكون وزن (جيحون) فعلون مثل زيتون وحمدون. اللسان (جحن).
[32422]:هما نهرا العراق.
[32423]:وهو نهر مصر.
[32424]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[32425]:بقدر: سقط من الأصل.
[32426]:في الأصل: نزول. وهو تحريف.
[32427]:انظر البغوي 6/13 – 14، الدر المنثور 5/8، وفيه قال السيوطي (أخرج ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم).
[32428]:انظر التبيان 2/951.
[32429]:تقدم قريبا.
[32430]:انظر التبيان 2/951.
[32431]:في كونها للتعدية.
[32432]:من قوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 20].
[32433]:انظر البحر المحيط 6/400.
[32434]:في ب: فكذلك.
[32435]:انظر الفخر الرازي 23/90.
[32436]:في ب: أرفع. وهو تحريف.
[32437]:في ب: للفصلى.
[32438]:في النسختين إنذار.
[32439]:في ب: لكمال.
[32440]:في الأصل: فإنه.
[32441]:في الأصل: من. وهو تحريف.
[32442]:[الملك: 30].
[32443]:الكشاف 3/45.