السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَسۡكَنَّـٰهُ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۭ بِهِۦ لَقَٰدِرُونَ} (18)

النوع الثالث من الدلائل : الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيرها في النبات ، وهو قوله تعالى : { وأنزلنا من السماء } أي : من جرمها وهو ظاهر اللفظ وعليه أكثر المفسرين أو من السحاب وسماه سماء لعلوه { ماء بقدر } أي : بقدر ما يكفيهم لمعاشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة ، ويسلمون معه من المضرة إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار ، ولو كان دون ذلك لأدّى إلى جفاف النبات والأشجار { فأسكناه } أي : فجعلناه ثابتاً مستقراً { في الأرض } كقوله تعالى : { فسلكه ينابيع في الأرض } [ الزمر ، 21 ] ، و«عن ابن عباس عن النبي : صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون نهر الهند ، وجيحون نهر بلخ ، ودجلة والفرات نهرا العراق ، والنيل نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس من أصناف معايشهم ، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء » وذلك قوله تعالى : { وإنا على ذهاب به لقادرون } قدرة هي في نهاية العظمة ، فإنّا كما قدرنا على إيجاده واختراعه نقدر على رفعه وإزالته وزواله ، فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا ؛ قال البغوي : وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد عن سابق الإسكندري عن سلمة بن علي عن مقاتل بن حبان .

تنبيه : في تنكير ذهاب إيماء إلى تكثير طرقه ، وفيه إيذان باقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء إذا أراده ، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله تعالى : { قل أرأيتم إنّ أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين } [ الملك ، 30 ] ، فعلى العباد أنّ يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفادها إذا لم تشكر .