قوله تعالى : { تولج الليل في النهار } أي تدخل الليل في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات .
قوله تعالى : { و تولج النهار في الليل } حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة ، والنهار تسع ساعات ، فما نقص من أحدهما زاد في الآخر .
قوله تعالى : { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } . قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( الميت ) بتشديد الياء هاهنا ، وفي الأنعام ، ويونس ، والروم في الأعراف ( لبلد ميت ) وفي فاطر ( إلى بلد ميت ) زاد نافع أو من كان ميتاً فأحييناه . ولحم أخيه ميتا ، والأرض الميتة أحييناها ، فشددها ، والآخرون يخففونها ، وشدد يعقوب ( يخرج الحي من الميت ) ( ولحم أخيه ميتاً ) ، قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة : معنى الآية : يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة ، ويخرج النطفة من الحيوان . وقال عكرمة والكلبي : يخرج الحي من الميت ، أي الفرخ من البيضة ، وتخرج البيض من الطير ، وقال الحسن وعطاء : يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن ، والمؤمن حي الفؤاد والكافر ميت الفؤاد .
قال الله تعالى ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . وقال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي .
قوله تعالى : { وترزق من تشاء بغير حساب } من غير تضييق ولا تقتير .
أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي ، أنا أبو بكر احمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي ، أنا محمد ابن علي بن زيد الصائغ ، أنا محمد بن أبي أزهر ، أنا الحارث بن عمير ، أنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، والآيتين من آل عمران ، شهد الله إلى قوله إن الدين عند الله الإسلام ، وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب ، مشفعات معلقات بالعرش ، ما بينهن وبين الله عز وجل حجاب . قلن : يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك ؟ قال الله عز وجل : بي حلفت ، لا يقرأكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان فيه ، وأسكنته في حظيرة القدس ، ونظرت إليه بعيني المكنونة ، وقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وأعذته من كل عدو وحاسد ، ونصرته عليهم " . رواه الحارث بن عمير وهو ضعيف .
{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } أي : تدخل هذا على هذا ، وهذا على هذا ، فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون والانتشار ، ما هو من أكبر الأدلة على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته { وتخرج الحي من الميت } كالفرخ من البيضة ، وكالشجر من النوى ، وكالزرع من بذره ، وكالمؤمن من الكافر { وتخرج الميت من الحي } كالبيضة من الطائر وكالنوى من الشجر ، وكالحب من الزرع ، وكالكافر من المؤمن ، وهذا أعظم دليل على قدرة الله ، وأن جميع الأشياء مسخرة مدبرة لا تملك من التدبير شيئا ، فخلقه تعالى الأضداد ، والضد من ضده بيان أنها مقهورة { وترزق من تشاء بغير حساب } أي : ترزق من تشاء رزقا واسعا من حيث لا يحتسب ولا يكتسب .
ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا من مظاهر قدرته الباهرة فقال : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } .
الولوج في الأصل : الدخول ، والإيلاج الإدخال . يقال : ولج فلان منزله إذا دخله ، فهو يلجه ولجا وولوجا .
وأولجته أنا إذا أدخلته ، ثم استعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب .
أي أنت يا الله يا مالك الملك . أنت الذى بقدرتك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل ويزيد النهار وتدخل طائفة من النهار في الليل فيقصر النهار ويزيد الليل ، وأنت وحدك الذى بقدرتك أن تجعلهما متعاقبين بأن تأتى بالليل رويداً رويداً في أعقاب النهار ، وتأتي بالنهار شيئاً فشيئاً فى أعقاب الليل ، وفى كل ذلك دليل على سعة قدرتك ، وواسع رحمتك . وتذكير واعتبار لأولى الألباب .
ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا آخر من مظاهر قدرته فقال : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } .
قال الفخر الرازي : ذكر المفسرون فيه وجوها .
أحدها : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر ، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح .
والثاني : يخرج الحيوان - وهو حي - من النطفة - وهي ميتة - ، والدجاجة - وهي حية - من البيضة أو العكس .
والثالث : يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس : ثم قال : والكلمة محتملة للكل : أما الكفر والإيمان فقال - تعالى - { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } يريد كان كافرا فهديناه ، فجعل الكفر موتاً والإيمان حياة ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل ما قبل ذلك ميتة فقال : { وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } وفى الحق : إن المتدبر فى هذا الكون وما يعترى سكانه من موت وحياة ليشهد ويذعن بأن لهذا الكون خالقا قادراً هو الله الواحد القهار .
ثم ختم - سبحانه - مظاهر قدرته ورحمته بقوله { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } والرزق - كما يقول الراغب - يقال للعطاء الجارى تارة دنيوا كان أو أخرويا . وللنصيب تارة ، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة أخرى يقال : أعطى السلطان رزق الجند ، ورزقت علما ، قال - تعالى - : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت } أى : من المال والجاه والعلم " .
أي أنت يا الله يا مالك الملك ، أنت وحدك الذى ترزق من تشاء أن ترزقه بغير حساب ، أي رزقا واسعا عظيما لأنك أنت صاحب الجود والكرم ، ولأنك ليس معك شريك فيحاسبك ، بل أنت المعطى بدون محاسب ، وبدون محاسبة من تعطيه ، ولأن خزائن ملكك لا ينقصها العطاء مهما كثر .
ومن كانت هذه صفاته ، وتلك بعض مظاهر قدرته : من إيتاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء وإيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل ، وإخراج الحى من الميت والميت من الحي ، كان من حقه أن يفرد بالعبادة والخضوع { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين }
قال ابن كثير : روى الطبرانى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اسم الله الأعظم الذى إذا دُعي به أجاب في هذه الآية :
{ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } " .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد وصفتا الخالق - عز وجل - بما هو أهله ، من قدرة تامة وسلطان نافذ ، ورحمة واسعة ، وهذا الوصف من شانه أن يحمل كل عاقل على إخلاص العبادة له - سبحانه - وعلى الاستجابة لكل ما أمر به أو نهى عنه رغبة في ثوابه ، ورهبة من عقابه .
وهذه القوامة على شؤون البشر ، وهذا التدبير لأمرهم بالخير ، ليس إلا طرفا من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق :
( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ؛ وترزق من تشاء بغير حساب ) . .
والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة ، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس : هذه الحركة الخفية المتداخلة . حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي . . الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال ، متى القى القلب إليها انتباهه ، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق .
وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . . أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح . . سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة ، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء . . شيئا فشيئا يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار . وشيئا فشيئا يتنفس الصبح في غيابة الظلام . . شيئا فشيئا يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء . وشيئا فشيئا يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف . . وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة ؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير !
كذلك الحياة والموت ، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج . كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة ! خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل . وما ذهب منه ميتا يعود في دورة أخرى إلى الحياة . وما نشأ فيه حيا يعود في دورة أخرى إلى الموت . . هذا في كيان الحي الواحد . . ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله ، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة . . وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . . ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئا . ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير !
حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك . حركة خفية عميقة لطيفة هائلة . تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري ؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر . . فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر ؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير
ثم أنى يتخذ بعضهم بعضا عبيدا ، ويتخذ بعضهم بعضا أربابا ، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال :
( وترزق من تشاء بغير حساب ) . .
إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى . حقيقة الألوهية الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد . ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال .
{ تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { تُولِجُ } تدخل ، يقال منه : قد ولج فلان منزله : إذا دخله ، فهو يَلِجُهُ وَلْجا وَوُلُوجا ولِجَةً ، وأولجته أنا : إذا أدخلته . ويعني بقوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ } تدخل ما نقصت من ساعات الليل في ساعات النهار ، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا . { وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ } وتدخل ما نقصت من ساعات النهار في ساعات الليل ، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار . كما :
حدثني موسى ، قال حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَتُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ } حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة والنهار تسع ساعات ، وتدخل النهار في الليل ، حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ما نقص من النهار يجعله في الليل ، وما نقص من الليل يجعله في النهار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وتُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ } قال : ما ينقص من أحدهما يدخل في الاَخر متعاقبان أو يتعاقبان ، شكّ أبو عاصم ذلك من الساعات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { تُولِجُ اللّيْل فِي النّهارِ وَتُولِجُ النّهارَ فِي اللّيلِ } ما ينقص من أحدهما في الاَخر يتعاقبان في ذلك من الساعات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ } نقصان الليل في زيادة النهار ، ونقصان النهار في زيادة الليل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ } قال : هو نقصان أحدهما في الاَخر .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَتُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ } قال : يأخذ الليل من النهار ، ويأخذ النهار من الليل . يقول : نقصان الليل في زيادة النهار ، ونقصان النهار في زيادة الليل .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ } يعني أنه يأخذ أحدهما من الاَخر ، فيكون الليل أحيانا أطول من النهار ، والنهار أحيانا أطول من الليل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ } قال : هذا طويل ، وهذا قصير ، أخذ من هذا فأولجه في هذا حتى صار هذا طويلاً وهذا قصيرا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وتُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويل ذلك : أنه يخرج الشيء الحيّ من النطفة الميتة ، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة ، وهو حيّ ، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : الناس الأحياء من النطف والنطف ميتة ، ويخرجها من الناس الأحياء والأنعام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } فذكر نحوه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } فالنطفة ميتة تكون تخرج من إنسان حيّ ، ويخرج إنسان حيّ من نطفة ميتة .
حدثني محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي ، قال : حدثنا أشعث السجستاني ، قال : حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال تخرج النطفة من الرجل ، والرجل من النطفة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : تخرج الحيّ من هذه النطفة الميتة ، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحيّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } . . . الاَية ، قال : الناس الأحياء من النطف ، والنطف ميتة من الناس الأحياء ، ومن الأنعام والنبت كذلك . قال ابن جريج ، وسمعت يزيد بن عويمر يخبّر عن سعيد بن جبير ، قال : إخراجه النطفة من الإنسان ، وإخراجه الإنسان من النطفة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : النطفة ميتة ، فتخرج منها أحياء . { وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } تخرج النطفة من هؤلاء الأحياء ، والحبّ ميتة تخرج منه حيا . { وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } تخرج من هذا الحيّ حبا ميتا .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه يخرج النخلة من النواة ، والنواة من النخلة ، والسنبل من الحبّ والحبّ من السنبل ، والبيض من الدجاج ، والدجاج من البيض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، قال : حدثنا عبد الله ، عن عكرمة قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ } قال : هي البيضة تخرج من الحيّ وهي ميتة ، ثم يخرج منها الحيّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : النخلة من النواة ، والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } يعني المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، والمؤمن عبد حيّ الفؤاد ، والكافر عبد ميت الفؤاد .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، عن سعيد بن عمرو ، عن الحسن قرأ : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : تخرج المؤمن من الكافر ، وتخرج الكافر من المؤمن .
حدثني حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، أو عن ابن مسعود وأكبر ظني أنه عن سلمان قال : إن الله عزّ وجلّ خمّر طينة آدم أربعين ليلة أو قال : أربعين يوما ثم قال بيده فيه ، فخرج كل طيب في يمينه ، وخرج كل خبيث في يده الأخرى ، ثم خلط بينهما ، ثم خلق منها آدم ، فمن ثم يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحيّ ، يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ، فإذا بامرأة حسنة النّعْمة ، فقال : «مَنْ هَذِهِ ؟ » قالت : إحدى خالاتك ، قال : «إنّ خالاتِي بِهَذِهِ البَلدةِ لغَرَائِبُ ! وأيّ خالاتِي هَذِهِ ؟ » قالت : خلْدة ابنة الأسود بن عبد يغوث ، قال : «سُبْحانَ الّذِي يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ » وكانت امرأة صالحة ، وكان أبوها كافرا .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنا ، وأن المؤمن يلد كافرا ؟ فقال : هو كذلك .
وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الاَية بالصواب تأويل من قال : يخرج الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياء من النطف الميتة ، وذلك إخراج الحيّ من الميت ، ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياء ، وذلك إخراج الميت من الحيّ ، وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده ، فذلك الذي فارقه منه ميت ، فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه ، ثم ينشىء الله منها إنسانا حيا وبهائم وأنعاما أحياء ، وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه ، فالذي زايله منه ميت ، وذلك هو نظير قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وكُنْتُمْ أمواتا فأحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إلَيْهِ تُرْجَعُون } .
وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة ، والبيضة من الدجاجة ، والدجاجة من البيضة ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، فإن ذلك وإن كان له وجه مفهوم ، فليس ذلك الأغلب الظاهر في استعمال الناس في الكلام ، وتوجيه معاني كتاب الله عزّ وجلّ إلى الظاهر المستعمل في الناس ، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة منهم : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } بالتشديد وتثقيل الياء من الميت ، بمعنى أنه يخرج الشيء الحيّ من الشيء الذي قد مات ، ومما لم يمت . وقرأت جماعة أخرى منهم : «تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيْتِ وَتُخْرِجُ الْمَيْتَ مِنَ الحَيّ » بتخفيف الياء من الميت . بمعنى أنه يخرج الشيء الحيّ من الشيء الذي قد مات دون الشيء الذي لم يمت ، وتخرج الشيء الميت دون الشيء الذي لم يمت من الشيء الحيّ ، وذلك أن الميت مثقل الياء عند العرب ما لم يمت وسيموت وما قد مات . وأما الميْت مخففا : فهو الذي قد مات ، فإذا أرادوا النعت قالوا : إنك مائت غدا وإنهم مائتون ، وكذلك كل ما لم يكن بعد ، فإنه يخرج على هذا المثال الاسم منه ، يقال : هو الجائد بنفسه والطائبة نفسه بذلك ، وإذا أريد معنى الاسم قيل : هو الجواد بنفسه والطيبة نفسه . فإذا كان ذلك كذلك ، فأولى القراءتين في هذه الاَية بالصواب قراءة من شّدد الياء من الميّت ، لأن الله جلّ ثناؤه يخرج الحيّ من النطفة التي قد فارقت الرجل ، فصارت ميتة ، وسيخرجه منها بعد أن تفارقه وهي في صلب الرجل ، ويخرج الميت من الحيّ ، النطفة التي تصير بخروجها من الرجل الحيّ ميتا ، وهي قبل خروجها منه حية ، فالتشديد أبلغ في المدح أكمل في الثناء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أنه يعطي من يشاء من خلقه ، فيجود عليه بغير محاسبة منه لمن أعطاه ، لأنه لا يخاف دخول انتقاص في خزائنه ، ولا الفناء على ما بيده . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ } قال : يخرج الرزق من عنده بغير حساب ، لا يخاف أن ينقص ما عنده تبارك وتعالى .
فتأويل الاَية إذا : اللهمّ يا مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إلَه ورب وعبدوه دونك ، أو اتخذوه شريكا معك ، أو أنه لك ولد وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء ، وتقدر بها على كل شيء ، تولج الليل في النهار ، وتولج النهار في الليل ، فتنقص من هذا وتزيد في هذا ، وتنقص من هذا وتزيد في هذا ، وتخرج من ميت حيا ، ومن حيّ ميتا ، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك ، لا يقدر على ذلك أحد سواك ، ولا يستطيعه غيرك . كما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { تُولِجُ اللّيْلِ فِي النّهَارِ وتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ وتُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتُ مِنَ الحَيّ } أي بتلك القدرة ، يعني بالقدرة التي تؤتي الملك بها من تشاء وتنزعه ممن تشاء ، وترزق من تشاء بغير حساب ، لا يقدر على ذلك غيرك ولا يصنعه إلا أنت . أي فإن كنت سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إلَه ، من إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام ، والخلق للطير من الطين ، والخبر عن الغيوب لتجعله آية للناس ، وتصديقا له في نبوّته التي بعثته بها إلى قومه ، فإنّ من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه ، كتمليك الملوك ، وأمر النبوّة ووضعها حيث شئت ، وإيلاج الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وإخراج الحيّ من الميت ، والميت من الحيّ ، ورزق من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب ، فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه ، ولم أملكه إياه ، فلم يكن لهم في ذلك عبرة وبينة ، إذ لو كان إلَها لكان ذلك كله إليه وهو في علمهم يهرب من الملوك ، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد .
{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب } عقب ذلك ببيان قدرته على معاقبة الليل والنهار والموت والحياة وسعة فضله ، دلالة على أن من قدر على ذلك قدر على معاقبة الذل والعز وإيتاء الملك ونزعه . والولوج : الدخول في مضيق . وإيلاج الليل والنهار : إدخال أحدهما في الآخر بالتعقيب أو الزيادة والنقص . وإخراج الحي من الميت وبالعكس . إنشاء الحيوانات من موادها وإماتتها ، أو إنشاء الحيوان من النطفة والنطفة منه . وقيل : إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر { الميْت } بالتخفيف .
وقال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن زيد في معنى قوله تعالى : { تولج الليل في النهار } الآية : أنه ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار دأباً كل فصل من السنة ، وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر .
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وتخرج الحي من الميت } الآية ، فقال الحسن : معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، وروي نحوه عن سلمان الفارسي ، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض أزواجه فإذا بامرأة حسنة النغمة فقال : من هذه ؟ قالت إحدى خالاتك فقال : إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب ، أي خالاتي هي ؟ قالت : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث{[3068]} فقال النبي عليه السلام : سبحان الذي يخرج الحي من الميت{[3069]} ، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافراً وهو أحد المستهزئين الذين كفيهم النبي عليه السلام .
قال أبو محمد : فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن والحياة والموت مستعاران ، وذهب جمهور كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية إنما هو الحياة حقيقة والموت حقيقة لا باستعارة ، ثم اختلفوا في المثل التي فسروا بها فقال عكرمة : هو إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية ولفظ الإخراج في هذا المثال وما ناسبه لفظ متمكن على عرف استعماله ، وقال عبد الله بن مسعود في تفسير الآية : هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها وهي ميتة .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلاً إنما هو عبارة عن تغير الحال كما تقول في صبي جيد البنية : يخرج من هذا رجل قوي ، وهذا المعنى يسميه ابن جني : التجريد أي تجرد الشيء من حال إلى حال هو خروج ، وقد يحتمل قوله تعالى : { ويخرج الميت من الحي } أن يراد به أن الحيوان كله يميته فهذا هو معنى التجريد بعينه وأنشد ابن جني على ذلك :
أَفَاءَتْ بَنُوا مَرْوانَ ظُلْماً دِمَاءَناَ*** وفي اللَّهِ إنْ لَمْ يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ{[3070]}
وروى السدي عن أبي مالك{[3071]} قال في تفسير الآية : هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة ، والنواة تخرج من النخلة والنخلة تخرج من النواة والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه ، وقوله تعالى : { بغير حساب } قيل معناه بغير حساب منك لأنه تعالى لا يخاف أن تنتقص خزائنه ، هذا قول الربيع وغيره ، وقيل معنى { بغير حساب } أي من أحد لك ، لأنه تعالى لا معقب لأمره ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : الميْت «بسكون الياء في جميع القرآن ، وروى حفص عن عاصم » من الميّت «بتشديد الياء ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي » الميّت «بتشديد الياء في هذه الآية ، وفي قوله : { لبلد ميت }{[3072]} ، و { إلى بلد ميت } [ فاطر : 9 ] وخفف حمزة والكسائي غير هذه الحروف ، قال أبو علي : { الميت } هو الأصل والواو التي هي عين منه انقلبت ياء لإدغام الياء فيها وميت التخفيف محذوف منه عينه أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ، والحذف حسن والإتمام حسن وما مات وما لم يمت في هذا الباب يستويان في الاستعمال .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وذهب قوم إلى أن » الميْت «بالتخفيف إنما يستعمل فيما قد مات ، وأما » الميّت «بالتشديد فيستعمل فيما مات وفيما لم يمت بعد .
حقيقة « تُولج » تدخل وهو هنا استعارة لتعاقب ضوء النهار وظلمة الليل ، فكأنَّ أحدهما يدخل في الآخر ، ولازدياد مدة النهار على مدة الليل وعكسه في الأيام والفصول عدا أيام الاعتدال وهي في الحقيقة لحظات قليلة ثم يزيد أحدهما لكنّ الزيادة لا تدرك في أولها فلا يعرفها إلاّ العلماء ، وفي الظاهر هي يومان في كل نصف سنة شمسية قال ابن عرفة : « كان بعضهم يقول : القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوامّ وألفاظ يفهمها الخواصّ وما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية ؛ فإنّ الإيلاج يشمل الأيام التي لا يفهمها إلاّ الخواص والفصولَ التي يدركها سائر العوام » .
وفي هذا رمز إلى ما حدث في العالم من ظلمات الجهالة والإشراك ، بعد أن كان الناس على دين صحيح كدين موسى ، وإلى ما حدث بظهور الإسلام من إبطال الضلالات ، ولذلك ابتدىء بقوله : { تولج الليل في النهار } ، ليكون الانتهاء بقوله : { وتولج النهار في الليل } ، فهو نظير التعريض الذي بيّنته في قوله : { تؤتي الملك من تشاء } الآية . والذي دل على هذا الرمز افتتاح الكلام بقوله : { اللهم مالك الملك } إلخ .
وإخراج الحي من الميّت كخروج الحيوان من المضغة ، ومن مُح البيضة . وإخراج الميت من الحي في عكس ذلك كلّه ، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله : { ومن يخرج الحي من الميّت } في سورة يونس ( 31 ) . وهذا رمز إلى ظهور الهُدى والملك في أمّة أمية ، وظهور ضلال الكفر في أهل الكتابين ، وزوال الملك من خَلَفهم يعد أن كان شعار أسلافهم ، بقرينة افتتاح الكلام بقوله : اللهم مالك الملك } إلخ .
وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف : « الميّت » بتشديد التحتية . وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب : بسكون التحتية وهما وجهان في لفظ الميت .
وقوله : { وترزق من تشاء بغير حساب } هو كالتذييل لذلك كلّه .
والرزق ما يَنتفع به الإنسان فيطلق على الطعام والثمارَ كقوله : { وجد عندها رزقاً } [ آل عمران : 37 ] وقوله : { فليأتكم برِزق منه } [ الكهف : 19 ] ، ويطلق على أعمّ من ذلك ممّا ينتفع به كما في قوله تعالى : { يَدْعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطَّرف أتراب } ثم قال { إنّ هذا لَرِزْقُنا مَالَه من نَفَاد } [ ص : 51 54 ] وقوله : { قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله } ومن ثم سميت الدراهم والدنانير رزقاً : لأنّ بها يعوض ما هو رزق ، وفي هذا إيماء إلى بشارة للمسلمين بما أخبىء لهم من كنوز الممالك الفارسية والقيصرية وغيرها .