مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (27)

أما قوله تعالى : { تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } فيه وجهان الأول : أن يجعل الليل قصيرا ويجعل ذلك القدر الزائد داخلا في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك والثاني : أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار ، فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار ، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر ، والأول أقرب إلى اللفظ ، لأنه إذا كان النهار طويلا فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلا في الليل .

وأما قوله { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ نافع وحمزة والكسائي { الميت } بالتشديد ، والباقون بالتخفيف ، وهما لغتان بمعنى واحد ، قال المبرد : أجمع البصريون على أنهما سواء وأنشدوا :

إنما الميت ميت الأحياء *** . . .

وهو مثل قوله : هين وهين ، ولين ولين ، وقد ذهب ذاهبون إلى أن الميت من قد مات ، والميت من لم يمت .

المسألة الثانية : ذكر المفسرون فيه وجوها أحدها : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر ، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام والثاني : يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس والثالث : يخرج الحيوان من النطفة ، والطير من البيضة وبالعكس والرابع : يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس ، والنخلة من النواة وبالعكس ، قال القفال رحمه الله : والكلمة محتملة للكل أما الكفر والإيمان فقال تعالى : { أو من كان ميتا فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] يريد كان كافرا فهديناه فجعل الموت كفرا والحياة إيمانا ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء ، وجعل قبل ذلك ميتة فقال { يحيي الأرض بعد موتها } [ الروم : 19 ] وقال : { فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها } [ فاطر : 9 ] وقال : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } [ البقرة : 28 ] .

أما قوله { وترزق من تشاء بغير حساب } ففيه وجوه الأول : أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد ، إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب والثاني : ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود ، بل تبسطه له وتوسعه عليه كما يقال : فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة ، ونظيره قولهم في تكثير مال الإنسان : عنده مال لا يحصى والثالث : ترزق من تشاء بغير حساب ، يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب ، وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى : إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم ، والله أعلم .