الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (27)

قوله تعالى : { تُولِجُ } : كقولِهِ : " تُؤْتِي " وقد تقدَّم ما فيه ، ويقال : وَلَجَ يَلِجُ وُلوجاً ولِجَةً كَعِدَةً ووَلْجاً كَوَعْدٍ ، واتَّلَجَ يَتَّلِجُ اتِّلاجاً ، والأصل : اوْتَلَجَ يَوْتَلِجُ اوْتِلاَجاً ، فَقُلِبَتْ الواوُ تاءً قبلَ تاءِ الافتعالِ نحو : اتَّعَدَ يَتَّعِدُ اتِّعاداً قال الشاعر :

فإنَّ القوافِي تَتَّلِجْنَ مَوالِجاً *** تضايَقُ عنها أَنْ تَوَلَّجَها الإِبَرْ

والوُلوجُ : الدخولُ ، والإِيلاجُ : الإِدْخال ، ومعنى الآية على ذلك . وقول مَنْ قال معناه : النقص فإنما أراد أنه من باب اللازم ، لأنه تبارك وتعالى إذا أَدْخَلَ مِنْ هذا في هذا فقد نَقَصَ من المأخوذِ منه المُدْخَلُ في ذلك الآخرِ ، وزعم بعضُهم أن " تُولِج " بمعنى ترفع ، وأن " في " بمعنى " على " وليس بشيء .

قوله : { مِنَ الْمَيِّتِ } اختلف القُرَّاء في هذه اللفظة على مراتب : فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكرٍ عن عاصم لفظ " المَيْت " من غير تاء تأنيث مخففاً في جميع القرآن ، وسواءً وُصِفَ به الحيوانُ نحو : { تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } أو الجمادُ نحو قوله تعالى : { إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ }

[ فاطر : 9 ] { لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [ الأعراف : 57 ] منكَّراً أو معرَّفاً كما تقدَّم ذكره إلا قولَه تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، وقولَه :

{ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ الآية : 17 ] في إبراهيم ، مما لم يَمُتْ بعدُ فإن الكلَّ ثَقَّلوه ، وكذلك لفظُ " الميتة " في قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ }

[ يس : 33 ] دونَ الميتةِ المذكورةِ مع الدمِ فإنَّ تَيْكَ لم يشددها إلا بعضُ قُرَّاء الشواد ، وقد تقدَّم ذكرُها في البقرة ، وكذلك قولُهُ : { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } [ الأنعام : 139 ] و { بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الزخرف : 11 ] و { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } [ الأنعام : 145 ] فإنها مخففات عند الجميع . وثَقَّل نافع جميعَ ذلك ، والأخوان وحفص عن عاصم وافقوا ابن كثير ومَنْ معه في الأنعام في قوله :

{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الآية : 122 ] وفي الحجرات : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } [ الآية : 12 ] ، و { الأَرْضُ الْمَيْتَةُ } في يس ، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك ، فجَمعوا بين اللغتين إيذاناً بأن كُلاًّ من القراءتين صحيحٌ ، وهما بمعنًى ، لأنَّ فَيْعِل يجوزُ تخفيفُه في المعتل بحذف إحدى يائيه فيقال : هَيْن وهيِّن ولَيْن وليِّن ومَيْت ومَيِّت ، ومنه قولُ الشاعر فَجَمَعَ بين اللغتين :

ليسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بميْتٍ *** إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

إنما المَيْتُ مَنْ يعيشُ كئيباً *** كاسِفاً بالُهُ قليلُ الرَّجاءِ

وزعم بعضهم أن " مَيْتاً " بالتخفيف لمَنْ وقع به الموت ، وأنَّ المشدَّد يُستعمل فيمَنْ ماتَ ومَنْ لم يَمُتْ كقوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ }

[ الزمر : 30 ] وهذا مردودٌ بما تقدَّم من قراءةِ الأخَوين وحفص ، حيث خَفَّفوا في موضعٍ لا يمكِنُ أن يرادَ به الموتُ وهو قولُهُ : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً } [ الأنعام : 122 ] إذا المرادُ به الكفرُ مجازاً .

هذا بالنسبة إلى القُرَّاء ، وإن شئت ضَبَطْتَه باعتبار لفظ " الميت " فقلت : هذا اللفظُ بالنسبة إلى قراءة السبعة ثلاثةُ أقسام : قسمٌ لا خلاف في تثقيله وهو ما لم يَمُتْ نحو { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } و { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } ، وقسمٌ لا خلافَ في تخفيفه وهو ما تقدم في قوله : { الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ } و { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } وقوله : { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } وقوله { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } وقسمٌ فيه الخلافُ وهو ما عدا ذلك وقد تقدَّم تفصيلُهُ .

وقد تقدَّم أيضاً أن أصلَ ميِّت : مَيْوِت فأدغم ، وأن في وزنِهِ خلافاً : هل وزنه فَيْعِل وهو مذهب البصريين أو فَعِيل وهو مذهب الكوفيين ، وأصله : مَوِيت ، قالوا : لأنَّ فَيْعِلاً مفقودٌ في الصحيح فالمعتلُّ أَوْلى ألاَّ يوجَد فيه . وأجاب البصريون عن قولهم بأنه لا نظير له في الصحيح بأنَّ قضاة في جمع " قاض " لا نظير له في الصحيح . وتفسيرُ هذا الجواب أنَّا لا نُسَلِّم أنَّ المعتل يلزم أن يكون له نظيرٌ من الصحيح ، ويدل على عدمِ التلازم :

" قُضاة " جمع قاضٍ ، وفي " قضاة " خلافٌ طويل ليس هذا موضعَ ذكره . واعتراض البصريون عليهم بأنه لو كان وزنه فَعِيلاً لوجَبَ أن يَصِحَّ كما صَحَّتْ نظائره من ذواتِ الواو نحو : طَوِيل وعَوِيل وقَوِيم ، فحيثُ اعتلَّ بالقلبِ والإِدغامِ ، امتنَعَ أَنْ يُدَّعى أنَّ أصلَه فَعِيل لمخالَفَةِ نظائره . وهو ردٌّ حسنٌ .

قوله : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل أي : ترزقه وأنت لم تحاسِبْه ، أي : لم تُضَيِّقْ عليه ، أو من المفعول أي : غيرَ مُضَيِّقٍ عليه . وقد تقدَّمَ الكلامُ على مثل هذا مشبعاً في البقرة عند قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ البقرة : 212 ] فَأَغْنَى عن إعادته .

واشتملت هذه الآيةُ على أنواعٍ من البديع ، منها : التجنيس المماثل في قوله : " مالكَ المُلْك " تُؤتي المُلْكَ ، وتَنْزِعُ الملك " ومنها : الطباقُ وهو الجمعُ بن متضادَّيْن أو شِبْهِهِمَا ، وذلك في قوله : " تُؤْتي الملك وتَنْزِع " وفي " تُعِزُّ وتُذِلٌّ " ، وفي قوله : " بيدك الخيرُ " أي : والشرُّ عند بعضهم ، وفي قوله : " الليل والنهار " وفي قوله : " الحي والميت " . ومنها ردُّ الأعجازِ على الصدور ، والصدور على الأعجاز في قوله : { وَتُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ } وفي قولِهِ : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } ونحوُهُ : عاداتُ الساداتِ ساداتُ العاداتِ " . وتضمَّنَتِ من المعاني التوكيدَ : بإيقاعِ الظاهِرِ موقعَ المضمر في قوله : " تؤتى الملك إلخ " وفي تجوُّزِهِ بإيقاعِ الحرفِ مَكانَ ما هو بمعناه ، والحذفُ لفهمِ المعنى .