اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (27)

قوله : { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ } يقال : وَلَجَ ، يَلِجُ ، وُلُوجاً ، وَلِجَةً - كعِدَة - ووَلْجاً - ك " وَعْدًا " ، واتَّلَجَ ، يتَّلِجُ ، اتِّلاجاً ، والأصل : اوْتَلج ، يَوْتَلِجُ ، اوتِلاَجاً ، فقُلبت الواوُ تاءً قبل تاء الافتعال ، نحو : اتَّعَدَ يتَّعِد اتِّعاداً .

قال الشاعر : [ الطويل ]

فَإنَّ القَوَافِي يَتَّلِجْنَ مَوَالِجاً *** تَضَايَقَ عَنْهَا أنْ تَوَلَّجَهَا الإبَرْ{[21]}

الولوج : الدخول ، والإيلاج : الإدخالُ - ومعنى الآية على ذلك .

وقول من قال : معناه النقص فإنما أراد اللازم ؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا أدخل من هذا في هذا فقد نقص المأخوذ منه المُدْخَل في ذلك الآخر . وزعم بعضهم أن تولج بمعنى ترفع ، وأن " في " بمعنى " على " وليس بشيءٍ .

وقيل : المعنى : أنه - تعالى - يأتي بالليل عقيب النهار - ، فيُلْبس الدنيا ظُلْمَتَه - بعد أن كان فيها ضوءُ النهارِ - ثم يأتي بالنهار عقيب الليل ، فيُلْبس الدنيا ضَوْءَه ، فكأن المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر .

قال ابن الخطيب : " والقول بأن معناه النقص أقرب إلى اللفظ ؛ لأنه إذا كان النهار طويلاً ، فجعل ما نقص منه زيادةٍ في الليل ، كان ما نقص منه زيادة في الآخر " .

قوله : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } اختلف القراء في لفظة " الْمَيِّتِ " فقرأ ابنُ كثير وأبو عَمْرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم{[22]} لفظ " الْمَيْتِ " من غير تاء تأنيث - مُخَفَّفاً ، في جميع القرآن ، سواء وصف به الحيوان نحو : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } [ آل عمران : 27 ] أو الجماد نحو : { فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ } [ فاطر : 9 ] - مُنَكَّراً أو معرفاً كما تقدم ذكره - إلا قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، وقوله : { وَمَا هُوَ بِمَيِّت } [ إبراهيم : 17 ] - في إبراهيم - مما لم يمت بعد ، فإن الكل ثقلوه ، وكذلك لفظ " الميتة " في قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ }

[ يس : 33 ] دون الميتة المذكورة مع الدم - فإن تلك لم يشدِّدْها إلا بعضُ قُرَّاء الشواذ - وكذلك قوله : { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } [ الأنعام : 139 ] ، وقوله : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الزخرف : 11 ] ، وقوله : { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة } [ الأنعام : 145 ] فإنها مخَفَّفاتٌ عند الجميع ، وثَقّل نافعٌ جميعَ ذلك ، والأخوان وحفص - عن نافع - وافقوا ابن كثير ومن معه في الأنعام في قوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه } [ الأنعام : 122 ] ، وفي الحجرات :

{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا } [ الحجرات : 12 ] ، وفي يس : { الأَرْضُ الْمَيْتَةُ } [ يس : 33 ] ، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك ، فجمعوا بين اللغتين ؛ إيذاناً بأن كلاًّ من القراءتين صحيح ، وهما بمعنًى ؛ لأن " فَيْعِل " يجوز تخفيفه في المعتل بحَذْف إحْدى ياءَيْه ، فيقال : هَيْن وهيِّن ، لَيْن وليِّن ، ميْت وميِّت ، وقد جمع الشاعر بين اللغتين في قوله : [ الخفيف ]

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ *** إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ

إنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيباً *** كَاسِفاً بِالُهُ قَليلَ الرَّجَاءِ{[23]}

وزعم بعضهم أن " ميتاً " بالتخفيف - لمن وقع به الموت ، وأن المشدّد يُستعمَل فيمن مات ومن لم يَمُتْ ، كقولهً – تعالى- : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، وهذا مردودٌ بما تقدم من قراءة الأخوين ، وحفص ؛ حيث خففوا في موضع لا يمكن أن يُراد به الموت ، وهو قوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه } [ الأنعام : 122 ] ؛ إذ المراد الكفر - مجازاً - هذا بالنسبة إلى القراء ، وإن شئت ضَبَطته باعتبار لفظ " الميت " فقلت : هذا اللفظ بالنسبة إلى قراءة السبعة ثلاثة أقسام :

اسم لا خلاف في تثقيله - وهو ما لم يَمُتْ - نحو : { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] ، و{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] .

وقسم لا خلاف في تخفيفه - وهو ما تقدم في قوله : { الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ } . { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } [ الأنعام : 139 ] { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة } ، وقوله : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الزخرف : 11 ] .

وقسم فيه الخلاف - وهو ما عدا ذلك - وتقدم تفصيله وقد تقدم أيضاً أن أصل " ميِّت " مَيْوِت ، فأدغم ، وفي وزنه خلاف ، هل وزنه " فَيْعِل " - وهو مذهب البصريين - أو " فَعْيِل " - وهو مذهب الكوفيين - وأصله مَوْيِتٌ ، قالوا : لأن فَيْعِلاً مفقود في الصحيح ؛ فالمعتل أولى أن لا يوجد فيه ، وأجاب البصريون عن قولهم : لا نظير له في الصحيح بأن قُضَاة - في جميع قاضٍ - لا نظير له في الصحيح ، ويدل على عَدم التلازم " قُضاة " جمع قاضٍ وفي " قضاة " خلاف طويل ليس هذا موضعه .

واعترض عليهم البصريون بأنه لو كان وزنه " فَعْيِلاً " لوجب أن يصح ، كما صحت نظائره من ذوات الواو نحو : طويل ، وعويل ، وقويم ، فحيث اعتل بالقلب والإدغام امتنع أن يُدَّعى أن أصله " فَعْيِل " لمخالفة نظائره ، وهو ردٌّ حسنٌ .

فصل

قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة : يُخْرِجُ الحيوانَ من النطفة - وهي ميتة - والطير من البيضة ، وبالعكس {[24]} .

وقال الحسنُ وعطاء : يُخْرِج المؤمن من الكافر - كإبراهيم من آزر - والكافر من المؤمن - مثل كنعان من نوح {[25]} .

وقال الزَّجَّاج : يُخْرِج النبات الغضَّ الطريَّ من الحب اليابس ، ويخرج الحب اليابس من النبات ، قال القفّال : " والكلمة{[26]} محتملة للكل .

أما الحيوان والنطفة فقال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] .

وأما الكافر والمؤمن فقال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] ، أي : كافراً فهديناه " .

قال القرطبيُّ : روى معمر عن الزهريِّ " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه ، فإذا بامرأة حسنة النعمة ، قال : مَنْ هذه ؟ قلن : إحدى خالاتك ، قال : ومَنْ هِي ؟ قلن : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الذي يخرج الحي من الميت " {[27]} .

وكانت امرأة صالحة ، وكان أبوها كافراً .

وأما النبات والحب فقال تعالى : { فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ فاطر : 9 ] .

قوله : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل ، أي : ترزقه وأنت لم تحاسبه ، أي : لم تُضَيِّقْ عليه ، أو من المفعول ، أي : غير مُضَيِّقٍ عليه وقد تقدم الكلام على مثل هذا مشبعاً في قوله تعالى في البقرة : { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .

واشتملت هذه الآيةُ على أنواع من البديع :

منها : التجنيس المماثل في قوله تعالى : { مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ } .

ومنها : الطباق ، وهو الجمع بين متضادين أو شبههما - في قوله : " تُؤتي " و " تَنْزعُ " وتعزُّ وتُذِلُّ وفي قوله : { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } أي : والشَّرُّ - عند بعضهم - ، وفي قوله : " اللَّيْل " و " النَّهَار " و " الحيّ " و " الميّت " .

ومنها رَدُّ الأعجازِ على الصدورِ ، والصدورِ على الأعجاز في قوله : { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ } ، وفي قوله : { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } ونحوه عادات الشاذات شاذات العاداتِ .

وتضمنت من المعاني التوكيد بإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر في قوله : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } وفي تجوُّزه بإيقاع الحرف مكان ما هو بمعناه ، والحذف لفهم المعنى .

فصل

قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ :

الأول : بمعنى التعبِ ، قال تعالى : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَاب }

الثاني : بمعنى العدد ، كقوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] أي : بغير عَددٍ .

الثالث : بمعنى المطالبة ، قال تعالى : { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] [ أي : بغير مطالبة {[28]} .

فصل

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ فاتحةَ الكتابِ ، وآية الكرسي ، وآيتين من آل عمرانَ - وهما { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } ، { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } مُعلَّقاتٌ ، ما بينهُنَّ وبَيْنَ اللهِ حجابٌ ، قُلْنَ : يا ربِّ ، تُهْبِطُنا إلى أرْضك ، وإلى مَنْ يَعْصِيك ؟ قال الله - عز وجل - : إنِّي حَلَفْتُ لا يقرؤكُنَّ أحدٌ من عبادي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ إلا جَعَلْتُ الجنةَ مثواهُ - على ما كان منه - ولأسْكَنْتُه حَظيرةَ القدس ، ولنظرتُ إليه بعين مكنونة كلَّ يَوْم سَبْعِينَ مرةً ، ولقضيتُ له كلَّ يومٍ سبعين حاجةً أدناها المغفرة - ولأعذته من كلِّ عدوٍّ وحاسدٍ ، ونصرتُه منهم " {[29]} .


[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.