قوله تعالى : { أسباب السماوات } يعني : طرقها وأبوابها من سماء إلى سماء { فأطلع إلى إله موسى } قراءة العامة برفع العين نسقاً على قوله : ( أبلغ الأسباب ) وقرأ حفص عن عاصم بنصب العين وهي قراءة حميد الأعرج ، على جواب ( لعل ) بالفاء ، { وإني لأظنه } يعني موسى { كاذباً } فيما يقول : أن له رباً غيري ، { وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل } قرأ أهل الكوفة ويعقوب : { وصد } بضم الصاد نسقاً على قوله : { زين لفرعون } قال ابن عباس : صده الله عن سبيل الهدى . وقرأ الآخرون بالفتح أي : صد فرعون الناس عن السبيل . { وما كيد فرعون إلا في تباب } يعني : وما كيده في إبطال آيات الله وآيات موسى إلا في خسار وهلاك .
والقصد منه لعلي أطلع { إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبًا } في دعواه أن لنا ربًا ، وأنه فوق السماوات . ولكنه يريد أن يحتاط فرعون ، ويختبر الأمر بنفسه ، قال الله تعالى في بيان الذي حمله على هذا القول : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ } فزين له العمل السيئ ، فلم يزل الشيطان يزينه ، وهو يدعو إليه ويحسنه ، حتى رآه حسنًا ودعا إليه وناظر مناظرة المحقين ، وهو من أعظم المفسدين ، { وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } الحق ، بسبب الباطل الذي زين له . { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ } الذي أراد أن يكيد به الحق ، ويوهم به الناس أنه محق ، وأن موسى مبطل { إِلَّا فِي تَبَابٍ } أي : خسار وبوار ، لا يفيده إلا الشقاء في الدنيا والآخرة .
المراد بالصرح فى قوله - تعالى - : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً . . . } البناء العالى المكشوف للناس ، الذى يرى الناظر من فوقه ما يريد أن يراه ، مأخوذ من التصريح بمعنى الكشف والإيضاح .
والأسباب : جمع سبب ، وهو كل ما يتوصل به إلى الشئ ، والمراد بها هنا : أبواب السماء وطرقها ، التى يصل منها إلى ما بداخلها .
أى : وقال فرعون لوزيره هامان : يا هامان ابن لى بناء ظاهرا عاليا مكشوفا لا يخفى على الناظر وإن كان بعيدا عنه ، لعلى عن طريق الصعود على هذا البناء الشاهق أبلغ الأبواب الخاصة بالسموات ، فأدخل منها فأنظر إلى إله موسى .
والمراد بالظن فى قوله { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } اليقين لقوله - تعالى - فى آية أخرى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } فقوله - كما حكى القرآن عنه - : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } قرينة قوية على أن المراد بالظن فى الآيتين : اليقين والجزم ، بسبب غروره وطغيانه .
أى : ونى لأعتقد وأجزن بأن موسى كاذبا فى دعواه أن هناك إلها غيرى لكم ، وفى دعواه أنه رسول إلينا .
أى : وإنى لأعتقد وأجزم بأن موسى كاذبا فى دعواه أن هناك إلها غيرى لكم ، وفى دعواه أنه رسول إلينا .
وكرر لفظ الأسباب لأن اللفظ الثانى يدل على الأول ، والشئ إذا أبهم ثم أوضح ، كان تفخيما لشأنه ، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها .
وقوله : { فأطلع } قرأه الجمهور بالرفع عطفا على { أبلغ } فيكون فى حيز الترجى .
وقرأه بعض القراء السبعة بالنصب فيكون جوابا للأمر فى قوله : { ابن لِي صَرْحاً . . } .
ولا شك أن قول فرعون هذا بجانب دلالته على أنه بلغ الغاية فى الطغيان والفجور والاستخفاف بالعقول ، يدل - أيضا - على شدة خداعه ، إذ هو يريد أن يتواصل من وراء هذا القول إلى أنه ليس هناك إله سواه ولو كان هناك إلأه سواه لشاهده هو وغيره من الناس .
قال الإِمام ابن كثير : وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح ، الذى لم ير فى الدنيا بناء أعلى منه ، وإنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما قاله ، من أن هناك إلها غير فرعون . .
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : وقول فرعون هذا المقصود منه التلبيس والتمويه والتخليط على قومه توصلا لبقائهم على الكفر ، وإلا فهو يعرف حقيقة الإِله ، وأنه ليس فى جهة ، ولكنه أراد التلبيس ، فكأنه يقول لهم : لو كان إله موسى موجودا لكان له محل ، ومحله إما الأرض وإما السماء ، ولم نره فى الأرض ، فيبقى أن يكون فى السماء ، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم .
ثم بين - سبحانه - أن مكر فرعون هذا مصيره إلى الخسران فقال : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } .
والتباب : الهلاك والخسران ، يقال : تب الله - تعالى - فلانا ، أى : أهلكه ، وتبت يدا فلان ، أى : خسرنا ومنه قوله - سبحانه - { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . . } أى : ومثل ذلك التزيين القبيح ، زين لفرعون سوء عمله ، فرآه حسنا ، لفجوره وطغيانه ، وصد عن سبيل الهدى والرشاد ، لأنه استحب العمى على الهدى . وما كيد فرعون ومكره وتلبيسه واحتياله فى إبطال الحق ، إلا فى هلاك وخسران وانقطاع .
وعلى الرغم من هذه الجولة الضخمة التي أخذ الرجل المؤمن قلوبهم بها ؛ فقد ظل فرعون في ضلاله ، مصراً على التنكر للحق . ولكنه تظاهر بأنه آخذ في التحقق من دعوى موسى . ويبدو أن منطق الرجل المؤمن وحجته كانت من شدة الوقع بحيث لم يستطع فرعون ومن معه تجاهلها . فاتخذ فرعون لنفسه مهرباً جديداً :
( وقال فرعون : يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب . أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى . وإني لأظنه كاذباً . وكذلك زين لفرعون سوء عمله ، وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب ) . .
يا هامان ابن لي بناء عالياً لعلي أبلغ به أسباب السماوات ،
لأنظر وأبحث عن إله موسى هناك ( وإني لأظنه كاذباً ) . . هكذا يموه فرعون الطاغية ويحاور ويداور ، كي لا يواجه الحق جهرة ، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه ، وتهدد الأساطير التي قام عليها ملكه . وبعيد عن الاحتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه . وبعيد أن يكون جاداً في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج . وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حداً يبعد معه هذا التصور . إنما هو الاستهتار والسخرية من جهة . والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى . وربما كانت هذه خطة للتراجع أمام مطارق المنطق المؤمن في حديث الرجل المؤمن ! وكل هذه الفروض تدل على إصراره على ضلاله ، وتبجحه في جحوده : ( وكذلك زين لفرعون سوء عمله ، وصد عن السبيل ) . . وهو مستحق لأن يصد عن السبيل ، بهذا المراء الذي يميل عن الاستقامة وينحرف عن السبيل .
ويعقب السياق على هذا المكر والكيد بأنه صائر إلى الخيبة والدمار :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.