قوله تعالى : { وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } . وذلك أن أشمويل سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكاً ، فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس ، وقيل : له إن صاحبكم الذي يكون طوله طول هذه العصا ، وانظر هذا القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل ، فادهن به رأسه وملكه عليهم ، وكان طالوت اسمه بالعبرانية ساول بن قيس ، من أولاد بنيامين بن يعقوب ، سمي طالوت لطوله ، وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبيه ، وكان رجلاً دباغاً يعمل الأديم ، قاله وهب ، وقال السدي : كان رجلاً سقاء يسقي على حمار له من النيل ، فضل حماره ، فخرج في طلبه ، وقيل كان خربندجا ، وقال وهب : بل ضلت حمر لأبي طالوت فأرسله وغلاماً له في طلبها ، فمرا ببيت أشمويل فقال الغلام لطالوت : لو دخلنا على هذا النبي فسألناه عن أمر الحمر ليرشدنا ويدعو لنا ، فدخلا عليه ، فبينما هما عنده يذكران له حاجتهما إذ نش الدهن الذي في القرن ، فقام أشمويل عليه السلام فقاس طالوت بالعصا فكانت طوله ، فقال لطالوت : قرب رأسك ! فقربه ، فدهنه بدهن القدس ، ثم قال له : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملكه عليهم فقال طالوت : أما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل ؟ وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل ؟ . قال : بلى ، قال فبأي آية ؟ قال : بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره فكان كذلك . ثم قال لبني إسرائيل : ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ) .
قوله تعالى : { قالوا أنى يكون له الملك علينا } . أي من أين يكون له الملك علينا .
قوله تعالى : { ونحن أحق } . أولى .
قوله تعالى : { بالملك منه } . وإنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة وسبط مملكة ، فكان سبط النبوة سبط لاوي بن يعقوب ، ومنه كان موسى وهارون ، وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ، ومنه كان داود وسليمان ، ولم يكن طالوت من أحدهما إنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب ، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً ، كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق نهاراً فغضب الله تعالى عليهم ، ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمونه سبط الإثم ، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا عليه لأنه لم يكن من سبط المملكة ، ومع ذلك قالوا هو فقير .
قوله تعالى : { ولم يؤت سعة من المال ، قال إن الله اصطفاه } . اختاره .
قوله تعالى : { عليكم وزاده بسطة } . فضيلة وسعة .
قوله تعالى : { في العلم والجسم } . وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل في وقته وقيل : إنه أتاه الوحي حين أوتي الملك ، وقال الكلبي : وزاده بسطة فضيلة وسعة في العلم بالحرب ، وفي الجسم بالطول وقيل : الجسم بالجمال وكان طالوت أجمل رجل في بني إسرائيل وأعلمهم .
قوله تعالى : { والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم } . قيل : الواسع ذو السعة ، وهو الذي يعطي عن غنى ، والعليم العالم ، وقيل : العالم بما كان ، والعليم بما يكون فقالوا له : فما آية ملكه ؟ فقال لهم نبيهم : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ، فذلك قوله : وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } .
{ وقال لهم نبيهم } مجيبا لطلبهم { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } فكان هذا تعيينا من الله الواجب عليهم فيه القبول والانقياد وترك الاعتراض ، ولكن أبوا إلا أن يعترضوا ، فقالوا : { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } أي : كيف يكون ملكا وهو دوننا في الشرف والنسب ونحن أحق بالملك منه . ومع هذا فهو فقير ليس عنده ما يقوم به الملك من الأموال ، وهذا بناء منهم على ظن فاسد ، وهو أن الملك ونحوه من الولايات مستلزم لشرف النسب وكثرة المال ، ولم يعلموا أن الصفات الحقيقية التي توجب التقديم مقدمة عليها ، فلهذا قال لهم نبيهم : { إن الله اصطفاه عليكم } فلزمكم الانقياد لذلك { وزاده بسطة في العلم والجسم } أي : فضله عليكم بالعلم والجسم ، أي : بقوة الرأي والجسم اللذين بهما تتم أمور الملك ، لأنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي المصيب ، حصل بذلك الكمال ، ومتى فاته واحد من الأمرين اختل عليه الأمر ، فلو كان قوي البدن مع ضعف الرأي ، حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة للمشروع ، قوة على غير حكمة ، ولو كان عالما بالأمور وليس له قوة على تنفيذها لم يفده الرأي الذي لا ينفذه شيئا { والله واسع } الفضل كثير الكرم ، لا يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد ، ولا شريفا عن وضيع ، ولكنه مع ذلك { عليم } بمن يستحق الفضل فيضعه فيه ، فأزال بهذا الكلام ما في قلوبهم من كل ريب وشك وشبهة لتبيينه أن أسباب الملك متوفرة فيه ، وأن فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ، ليس له راد ، ولا لإحسانه صاد .
ثم بين القرآن ما أخبرهم به نبيهم ليحملهم على الطاعة والامتثال فقال- تعالى - : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } .
أي وقال لهم بعد أو أوحى إليه بما يوحى : إن الله - تعالى - وهو العليم الخبير بأحوال عباده قد بعث لكم ومن أجل مصلحتكم طالوت ليكون ملكاً عليكم ، وقائدا لكم في قتالكم لأعدائكم ، فأطيعوه واتبعوا ما يأمركم به .
و { طَالُوتَ } اسم أعجمي قيل هو المسمى في التوراة باسم " شاول " وقيل إن هذا الاسم لقب له من الطول كملكوت من الملك ، لأن طالوت كان طويلا جسيما .
ولقد كان الذي يقتضيه العقل أن يطيعوا أمر نبيهم ، ولكنهم لجوا في جدالهم وطغيانهم وقالوا لنبيهم معترضين على من اختراه الله قائدا لهم . { أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال } .
{ أنى } أداة استفهام بمعنى كيف ، والاستفهام هنا للتعجب من جعل طالوت ملكاً عليهم . أي قالوا لنبيهم منكرين ومتعجبين من اختيار طالوت ملكاً عليهم : كيف يكون له الملك علينا والحال أننا أحق بالملك منه لأننا أشرف منه نسباً ، إذ منا من هو نسل الملوك أما طالوت فليس من نسلهم ، وفضلا عن ذلك فهو لا يملك من المال ما يملكه بعضنا فكيف يكون هذا الشخص ملكاً علينا ؟
فأنت تراهم لانعدام المقاييس الصحيحة عندهم ظنوا أن المؤهلات الحقيقية لاستحقاق الملك والقيادة إنما تكون بالنسب وكثرة المال أما الكفاءة العقلية ، والقوة البدنية ، والقدرة الشخصية فلا قيمة لها عندهم لانطماس بصيرتهم ، وسوء تفكيرهم .
قال بعضهم : " وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل وهو سبط لاوى بن يعقوب . وسبط المملكة . بسبط يهوذا ، ولم يكن طالوت من أحد هذين السبطين بل من ولد بنيامين . والواو في قوله : { وَنَحْنُ أَحَقُّ } للحال ، والواو الثانية في قوله : { وَلَمْ يُؤْتَ } عاطفة جامعة للجملتين في الحكم .
ثم حكى القرآن ما رد به نبيهم عليهم فقال : { قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
أي قال لهم نبيهم مدللا على أحقية طالوت بالقيادة : إن الله - تعالى - { اصطفاه عَلَيْكُمْ } أي اختاره وفضله عليكم واختياره يجب أن يقابل بالإِذعان والتسليم . وثانيا : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم } أي أن الله - تعالى - منحه سعة في العلم والمعرفة والعقل والإِحكام في التفكير المستقيم لم يمنحها لكم ، وثالثاً : في { والجسم } بأن أعطاه جسماً قوياً ضخماً مهيباً . وهذه الصفات ما وجدت في شخص إلا وكان أهلا للقيادة والريادة وفضلا عن كل ذلك فمالك الملك هو الذي اختاره فكيف تعترضون يا من تدعون أنكم تريدون القتال في سبيل الله ؟ لذا نراه - سبحانه - يضيف الملك الحقيقي إليه فيقول : { والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } أي : يعطي ملكه لمن يشاء من عباده لحكمة يعلمها . فلا يجوز لأحد أن يعترض على اختياره ، والله واسع الفضل والعطاء " عليم " .
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيّهُمْ إِنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنّىَ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ الْمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وقال للملأ من بني إسرائيل نبيّهم شمويل : إن الله قد أعطاكم ما سألتم ، وبعث لكم طالوت ملكا . فلما قال لهم نبيهم شمويل ذلك ، قالوا : أنى يكون لطالوت الملك علينا ، وهو من سبط بنيامين بن يعقوب ، وسبط بنيامين سبط لا ملك فيهم ولا نبوّة ، ونحن أحقّ بالملك منه ، لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب ، وَلمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ يعني : ولم يؤت طالوت كثيرا من المال ، لأنه سَقّاء ، وقيل كان دباغا .
وكان سبب تمليك الله طالوت على بني إسرائيل وقولهم ما قالوا لنبيهم شمويل : أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا ونَحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بالي ما قالوا له ، سأل الله نبيهم شمويل أن يبعث لهم ملكا ، فقال الله له : انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك ، فإذا دخل عليك رجل فنشّ الدهن الذي في القرن ، فهو ملك بني إسرائيل ، فادهن رأسه منه ، وملّكه عليهم وأخبره بالذي جاءه . فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلاً عليه . وكان طالوت رجلاً دباغا يعمل الأدم ، وكان من سبط بنيامين بن يعقوب ، وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيه نبوّة ولا ملك . فخرج طالوت في طلب دابة له أضلته ومعه غلام له ، فمرّا ببيت النبيّ عليه السلام ، فقال غلام طالوت لطالوت : لو دخلت بنا على هذا النبيّ فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير ؟ فقال طالوت : ما بما قلت من بأس فدخلا عليه ، فبينما هما عنده يذكران له شأن دابتهما ، ويسألانه أن يدعو لهما فيها ، إذ نش الدهن الذي في القرن ، فقام إليه النبيّ عليه السلام فأخذه ، ثم قال لطالوت : قرّب رأسك فقرّبه ، فدهنه منه ثم قال : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم . وكان اسم طالوت بالسريانية : شاؤل بن قيس بن أبيال بن صرار بن يحرب بن أفِيّح بن آيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم . فجلس عنده وقال الناس : ملك طالوت . فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم وقالوا له : ما شأن طالوت يملك علينا وليس في بيت النبوّة ولا المملكة ؟ قد عرفت أن النبوّة والملك في آل لاوي وآل يهوذا فقال لهم : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن عبد الكريم ، عن عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه ، قال : قالت بنو إسرائيل لشمويل : ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال : قد كفاكم الله القتال قالوا : إنا نتخّوف من حولنا فيكون لنا ملك نفزع إليه فأوحى الله إلى شمويل أن ابعث لهم طالوت ملكا ، وادهنه بدهن القدس . وضلت حُمُرٌ لأبي طالوت ، فأرسله وغلاما له يطلبانها ، فجاءوا إلى شمويل يسألونه عنها ، فقال : إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل قال : أنا ؟ قال : نعم . قال : وما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل ؟ قال : بلى . قال : أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي ؟ قال : بلى . قال : أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي ؟ قال : بلى . قال : فبأية آية ؟ قال : بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره ، وإذا كنت بمكان كذا وكذا نزل عليك الوحي . فدهنه بدهن القدس ، فقال لبني إسرائيل : إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا ونحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قالَ إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما كذبت بنو إسرائيل شمعون ، وقالوا له : إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوّتك قال لهم شمعون : عسى أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا . قالُوا وَما لَنا إلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ . . . الآية . دعا الله فأتى بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا ، فقال : إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا . فقاسوا أنفسهم بها ، فلم يكونوا مثلها . وكان طالوت رجلاً سقاءً يسقي على حمار له ، فضلّ حماره ، فانطلق يطلبه في الطريق ، فلما رأوه دعوه فقاسوه بها ، فكان مثلها ، فقال لهم نبيهم : إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا قال القوم : ما كنت قط أكذب منك الساعة ، ونحن من سبط المملكة وليس هو من سبط المملكة ، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك فقال النبيّ : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، قال : كان طالوت سقاء يبيع الماء .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قال : بعث الله طالوت ملكا ، وكان من سبط بنيامين سبط لم يكن فيهم مملكة ولا نبوة . وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة ، وسبط مملكة ، وكان سبط النبوة لاوي إليه موسى وسبط المملكة يهوذا إليه داود وسليمان . فلما بعث من غير سبط النبوة والمملكة أنكروا ذلك وعجبوا منه وقالوا : أنّى يَكونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا ونحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ قالوا : وكيف يكون له الملك علينا ، وليس من سبط النبوة ، ولا من سبط المملكة فقال الله تعالى ذكره : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ابْعَثْ لَنا مَلِكا قال لهم نبيهم : إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا قال : وكان من سبط لم يكن فيهم ملك ولا نبوة ، فقال : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : وَقالَ لَهُمْ نَبِيّهُمْ إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوّة ، وسبط خلافة . فلذلك قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا يقولون : ومن أين يكون له الملك علينا ، وليس من سبط النبوّة ، ولا سبط الخلافة قالَ إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا فذكر نحوه .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما قالت بنو إسرائيل لنبيهم : سل ربك أن يكتب علينا القتال فقال لهم ذلك النبيّ : هَلْ عَسَيْتُمْ إنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ . . . الآية . قال : فبعث الله طالوت ملكا . قال : وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبّوة ، وسبط مملكة ، ولم يكن طالوت من سبط النبوّة ولا من سبط المملكة . فلما بعث لهم ملكا أنكروا ذلك ، وعجبوا وقالوا : أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ ولَمْ يُؤتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قالوا : وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوّة ولا من سبط المملكة فقال : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ . . . الآية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أما ذكر طالوت إذ قالوا : أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ وَلْم يُؤتَ سَعَةً مِنَ المَالِ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا أنه كان في بني إسرائيل سبطان ، كان في أحدهما النبوّة ، وكان في الاَخر الملك ، فلا يبعث إلا من كان من سبط النبوّة ، ولا يملك على الأرض أحد إلا من كان من سبط الملك . وإنه ابتعث طالوت حين ابتعثه وليس من أحد السبطين ، واختاره عليهم وزاده بسطة في العلم والجسم ومن أجل ذلك قالوا : أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ وليس من واحد من السبطين ، قال : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ إلى : وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس قوله : ألَمْ تَرَ إلى المَلإِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ موسَى . . . الآية . هذا حين رفعت التوراة واسْتخرِج أهل الإيمان ، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم فلما كتب عليهم القتال وذلك حين أتاهم التابوت قال : وكان من بني إسرائيل سبطان : سبط نبوّة وسبط خلافة ، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة ، ولا تكون النبوّة إلا في سبط النبوّة ، فقال لهم نبيهم : إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ وليس من أحد السبطين ، لا من سبط النبوّة ولا سبط الخلافة . قال إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ . . . الآية .
وقد قيل : إن معنى الملك في هذا الموضع : الإمرة على الجيش . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد قوله : إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا قال : كان أمير الجيش .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله ، إلا أنه قال : كان أميرا على الجيش .
وقد بينا معنى «أنّى » ، ومعنى الملك فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : قال : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ .
يعني تعالى ذكره بقوله : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ قال نبيهم شمويل لهم : إن الله اصطفاه عليكم يعني اختاره عليكم . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ اختاره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ قال : اختاره عليكم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ اختاره .
وأما قوله : وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ فإنه يعني بذلك : إن الله بسط له في العلم والجسم ، وآتاه من العلم فضلاً على ما أتى غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب . وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي من الله وأما في الجسم ، فإنه أوتي من الزيادة في طوله عليهم ما لم يؤته غيره منهم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه ، قال : لما قالت بنو إسرائيل : أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنحْنُ أحَقّ بالمُلْكِ مِنْهُ ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ قالَ إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ قال : واجتمع بنو إسرائيل ، فكان طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا .
وقال السدي : أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا فقال : إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا . فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها ، فقاسوا طالوت بها فكان مثلها .
حدثني بذلك موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن الله اصطفاه عليكم وزاده مع اصطفائه إياه بسطة في العلم والجسم يعني بذلك : بسط له مع ذلك في العلم والجسم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ بعد هذا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
يعني تعالى ذكره بذلك : أن الملك لله وبيده دون غيره يؤتيه . يقول : يؤتي ذلك من يشار فيضعه عنده ، ويخصه به ، ويمنحه من أحبّ من خلقه . يقول : فلا تستنكروا يا معشر الملإ من بني إسرائيل أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم وإن لم يكن من أهل بيت المملكة ، فإن الملك ليس بميراث عن الاَباء والأسلاف ، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه ، فلا تتخيروا على الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ الملك بيد الله يضعه حيث شاء ، ليس لكم أن تختاروا فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : ملكه : سلطانه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ سلطانه .
وأما قوله : وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فإنه يعني بذلك والله واسع بفضله ، فينعم به على من أحبّ ، ويريد به من يشاء عَلِيمٌ بمن هو أهل لملكه الذي يؤتيه ، وفضله الذي يعطيه ، فيعطيه ذلك لعلمه به ، وبأنه لما أعطاه أهل إما للإصلاح به وإما لأن ينتفع هو به .
أعاد الفعل في قوله : { وقال لهم نبيهم } للدلالة على أن كلامه هذا ليس من بقية كلامه الأول ، بل هو حديث آخر متأخر عنه وذلك أنه بعد أن حذرهم عواقب الحكومة الملكية وحذرهم التولي عن القتال ، تكلم معهم كلاماً آخَرَ في وقت آخر .
وتأكيدُ الخبر بإنَّ إيذان بأن من شأن هذا الخبر أن يُتلقى بالاستغراب والشك ، كما أنبأ عنه قولهم : { أنى يكون له الملك علينا } .
ووقع في سفر صمويل في الإصحاح التاسع أنه لما صمم بنو إسرائيل في سؤالهم أن يعين لهم مِلكاً ، صلى لله تعالى فأوحى الله إليه أنْ أجبْهم إلى كل ما طلبوه ، فأجابهم وقال لهم : اذهبوا إلى مدنكم ، ثم أوحى الله إليه صفة الملك الذي سيعينه لهم ، وأَنه لقيه رجل من بنيامين اسمه شَاول بن قيس ، فوجد فيه الصفة وهي أنه أطول القوم ، ومسَحَهُ صمويلُ ملكاً على إسرائيل ، إذْ صب على رأسه زيتاً ، وقبَّله وجمع بني إسرائيل بعد أيام في بلد المصفاة وأحضره وعينه لهم ملكاً ، وذلك سنة 1095 قبل المسيح .
وهذا الملك هو الذي سمي في الآية طالوت وهو شاول وطالوت لقبهُ ، وهو وزن اسم مصدر من الطول ، على وزن فعَلُوت مثل جَبَروت ومَلكوت ورَهَبوت ورغَبوت ورحموت ، ومنه طاغوت أصله طَغَيُوت فوقع فيه قلب مكاني ، وطالوت وصف به للمبالغة في طول قامته ، ولعله جعل لقباً له في القرآن للإِشارة إلى الصفة التي عرف بها لصمويل في الوحي الذي أوحى الله إليه كما تقدم ، ولمراعاة التنظير بينه وبين جالوت غريمه في الحرب ، أو كان ذلك لقباً له في قومه قبلَ أن يؤتى الملك ، وإنما يلقب بأمثال هذا اللقب من كان من العموم . ووزن فَعَلوت وزن نادر في العربية ولعله من بقايا العربية القديمة السامية ، وهذا هو الذي يؤذن به منعه من الصرف ، فإن منعه من الصرف لا علة له إلاّ العلمية والعجمة ، وجزم الراغب بأنه اسم عجمي ولم يُذكر في كتب اللغة لذلك ولعله عومل معاملة الاسم العجمي لمَّا جُعل علماً على هذا العَجمي في العربية ، فعُجمته عارضة وليس هو عجمياً بالأصالة ، لأنه لم يعرف هذا الاسم في لغة العبرانيين كداوود وشاوول ، ويجوز أن يكون منعه من الصرف لمصيره بالإبدال إلى شبه وزن فاعُول ، ووزنُ فاعول في الأعلام عجمي ، مثل هاروت وماروت وشاوول وداوود ، ولذلك منعوا قابوس من الصرف ، ولم يعتدوا باشتقاقه من القبس ، وكأنَّ عدول القرآن عن ذكره باسمه شاول لثقل هذا اللفظ وخفة طالوت .
وأَنَّى في قوله : { أنى يكون له الملك علينا } بمعنى كيف ، وهو استفهام مستعمل في التعجب ، تعجبوا من جعل مِثله ملكاً ، وكان رجلاً فلاحاً من بيت حقير ، إلاّ أنه كان شجاعاً ، وكان أطول القوم ، ولما اختاره صمويل لذلك ، فتح الله عليه بالحكمة ، وتنبأ نبوءات كثيرة ، ورضيت به بعض إسرائيل ، وأباه بعضهم ، ففي سفر صمويل أن الذين لم يرضَوا به هم بنو بليعال والقرآن ذكر أن بني إسرائيل قالوا : أنى يكون له الملك علينا وهو الحق ؛ لأنهم لا بد أن يكونوا قد ظنوا أن مَلكهم سيكون من كبرائهم وقوادهم .
والسر في اختيار نبيئهم لهم هذا الملك أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان ، فجعل مَلِكهم من عامتهم لا من سادتهم ، لتكون قدمه في الملك غير راسخة ، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته ، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتَهم لأمثالهم ، وما يزالون يتوقعون الخلع ، ولهذا كانت الخلافة سُنَّةَ الإسلام ، وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام ، إذ عهد معاوية ابن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة بعده ، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذٍ إلاّ ذلك ؛ لأن شيعة بني أمية راغبون فيه ، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ ، وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم ، وقواد بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم ، وإنما نظروا إلى قلة جدته ، فتوهموا ذلك مانعاً من تمليكه عليهم ، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية ، وأن الغنى غنى النفس لا وفرة المال وماذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح ، وقد قال الراجز :
قدني من نصر الخُبَيْبين قَدِي *** ليسَ الإمامُ بالشحيح المُلحد
فقولهم : { ونحن أحق بالملك } جملة حالية ، والضمير من المتكلمين ، وهم قادة بني إسرائيل وجعلوا الجملة حالاً للدلالة على أنهم لما ذكروا أحقيتهم بالملك لم يحتاجوا إلى الاستدلال على ذلك ؛ لأن هذا الأمر عندهم مسلم معروف ، إذ هم قادة وعرفاء ، وشاوول رجل من السوقة ، فهذا تسجيل منهم بأرجحيتهم عليه ، وقوله : { ولم يؤت سعة من المال } معطوفة على جملة الحال فهي حال ثانية . وهذا إبداء مانع فيه من ولايته الملك في نظرهم ، وهو أنه فقير ، وشأن الملك أن يكون ذا مال ليكفي نوائب الأمة فينفق المال في العدد والعطاء وإغاثة الملهوف ، فكيف يستطيع من ليس بذي مال أن يكون ملكاً ، وإنما قالوا هذا لقصورهم في معرفة سياسة الأمم ونظام الملك ؛ فإنهم رأوا الملوك المجاورين لهم في بذخة وسعة ، فظنوا ذلك من شروط الملك . ولذا أجابهم نبيئهم بقوله : { إن الله اصطفاه عليكم } رادّاً على قولهم : { ونحن أحق بالملك منه } فإنهم استندوا إلى اصطفاء الجمهور إياهم فأجابهم بأنه أرجح منهم لأن الله اصطفاه ، وبقوله : { وزاده بسطة في العلم والجسم } راداً عليهم قولهم : { ولم يؤت سعة من المال } أي زاده عليكم بسطة في العلم والجسم ، فأعلمهم نبيئهم أن الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي وقوة البدن ؛ لأنه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة ، لا سيما في وقت المضائق ، وعند تعذر الاستشارة أو عند خلاف أهل الشورى وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش .
وقدم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم ، قال أبو الطيب :
الرأي قبلَ شجاعةِ الشجعان **** هو أَوَّلٌ وهي المحل الثاني
فالعلم المراد هنا ، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة ، وقيل : هو علم النبوءة ، ولا يصح ذلك لأن طالوت لم يكن معدوداً من أنبيائهم .
ولم يجبهم نبيئهم عن قوله : { ولم يؤت سعة من المال } اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله : { وزاده بسطة في العلم والجسم } فإنه ببسطة العلم وبالنصر يتوافر له المال ؛ لأن « المال تجلبه الرعية » كما قال أرسططاليس ، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة ، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة ، وقد ولي على الأمة أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار ، وغنى الأمة في بيت مالها ومنه تقوم مصالحها ، وأرزاق ولاة أمورها .
والبسطة اسم من البسط وهو السعة والانتشار ، فالبسطة الوفرة والقوة من الشيء ، وسيجيء كلام عليها عند قوله تعالى : { وزادكم في الخلق } في الأعراف ( 69 ) .
وقوله : { والله يؤتي ملكه من يشاء } يحتمل أن يكون من كلام النبي ، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله ، بعد أن بين لهم شيئاً من حكمة الله في ذلك . ويحتمل أن يكون تذييلاً للقصة من كلام الله تعالى ، وكذلك قوله : { والله واسع عليم } .