قوله تعالى : { طَالُوتَ مَلِكاً } : " مَلِكاً " حال من " طالوت " فالعامل في الحال " بَعَثَ " . و " طالوتُ " فيه قولان :
أظهرهما : أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصرف للعلتين ، أعني : العلمية والعجمة الشَّخصية .
والثاني : أنه مشتقٌّ من الطول ، ووزنه فعلوت كرهبوت ورحموت ، وأصله طولوت ، فقلبت الواو ألفاً ؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وكأن الحامل لهذا القائل بهذا القول ما روي في القصَّة أنه كان أطول رجلٍ في زمانه وبقوله " وزاده بسطة في العلم والجسم " إلا أنَّ هذا القول مردودٌ بأن لو كان مشتقاً من الطُّول ، لكان ينبغي أن ينصرف ، إذ ليس فيه إلاَّ العلمية . وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً لكنَّه شبيه بالأعجمي ، من حيث إنَّه ليس في أبنية العرب ما هو على هذه الصِّيغة ، وهذا كما قالوا في حمدون ، وسراويل ، ويعقوب ، وإسحاق عند من جعلهما من سحق وعقب وقد تقدم .
وأجاب آخرون : بأنه اسمٌ عبراني وافق عربيّاً مثل حطة وحنطة ، وعلى هذا يكون أحد سببيه العجمة ؛ لكونه عبرانياً .
قوله : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } في " أَنَّى " وجهان :
أحدهما : أنَّها بمعنى كيف ، وهذا هو الصَّحيح .
والثاني : أنها بمعنى من أين ، اختاره أبو البقاء{[4076]} ، وليس المعنى عليه . ومحلُّها النّصب على الحال ، وسيأتي الكلام في عاملها ما هو . و " يَكُونُ " فيها وجهان :
أحدهما : أنها تامَّةٌ ، و " المُلْكُ " فاعلٌ بها و " له " متعلّقٌ [ بها ، و " عَلَيْنَا " متعلقٌ ] بالملك ، تقول : " فلان مَلَك على بني فلان أمرهم " ، فتتعدى هذه المادة ب " على " ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " المُلْك " ، و " يَكُونُ " هي العاملة في " أنَّى " ، ولا يجوز أن يعمل فيها أحد الظَّرفين ، أعني " له " ، و " علينا " ؛ لأنه عاملٌ معنوي والعامل المعنويُّ لا تتقدَّم عليه الحال على المشهور .
والثاني : أنها ناقصةٌ ، و " له " الخبر ، و " علينا " متعلِّقٌ : إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبر ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " المُلك " كما تقدَّم ، والعامل في هذه الحال " يكون " عند من يجيز في " كَانَ " الناقصة أن تعمل في الظرف وشبهه ، وإمَّا بنفس الملك كما تقدَّم تقريره ، والعامل في " أنَّى " ما تعلَّق به الخبر أيضاً ، ويجوز أن يكون " عَلَيْنَا " هو الخبر ، و " لَهُ " نصبٌ على الحال ، والعامل فيه الاستقرار المتعلِّق به الخبر ، كما تقدَّم تقريره ، أو " يَكُونُ " عند من يجيز ذلك في الناقصة ، ولم أر من جوَّز أن تكون " أنى " في محلِّ نصب خبراً ل " يَكُونُ " بمعنى " كَيْفَ يَكُونُ المُلْكُ عَلَيْنَا لَهُ " ولو قيل به لم يمتنع معنًى ولا صناعةً .
قوله : { وَنَحْنُ أَحَقُّ } : جملةٌ حاليَّةٌ ، و " بالمُلْكُ " و " مِنْهُ " كلاهما متعلّقٌ ب " أَحَقُّ " . " ولم يُؤْتَ سَعَةً " هذه الجملة الفعلية عطفٌ على الاسميَّة قبلها ، فهي في محلِّ نصب على الحال ، ودخلت الواو على المضارع ؛ لكونه منفياً و " سعةً " مفعول ثانٍ ليؤت ، والأول قام مقام الفاعل .
و " سَعَةً " وزنها " عَلَة " بحذف الفاء ، وأصلها " وُسْعَة " ، وإنما حذفت الفاء في المصدر حملاً له على المضارع ، وإنما حذفت في المضارع لوقوعها بين ياء - وهي حرف المضارعة - وكسرة مقدَّرة ، وذلك أنَّ " وَسِع " مثل " وَثِق " فحقٌّ مضارع أن يجيء على يفعل بكسر العين ، وإنما منع ذلك في " يَسَع " كون لامه حرف حلقٍ ، ففتح عين مضارعه لذلك ، وإن كان أصلها الكسر ، فمن ثم قلنا : بين ياء وكسرة [ مقدرةٍ ، والدَّليل على ذلك أنَّهم قالوا : وَجِلَ يَوْجَل فلم يحذفوها لمَّا كانت الفتحة أصلية غير عارضةً ، بخلاف فتحة " يَسَع " و " يَهَب " وبابهما .
فإن قيل : قد رأيناهم يحذفون هذه الواو ، وإن لم تقع بين ياءٍ وكسرةٍ ] ، وذلك إذا كان حرف المضارعة همزة نحو : " أَعِدُ " ، أو تاءً نحو : " تَعِد " أو نوناً نحو : " نَعِد " ، وكذلك في الأمر والمصدر نحو : " عِدْ عِدَةَ حَسَنَةً " .
فالجواب أنَّ ذلك بالحمل على المضارع مع الياء طراً للباب ، كما تقدَّم لنا في حذف همزة أفعل ، إذا صار مضارعاً لأجل همزة المتكلِّم ، ثم حمل باقي الباب عليه . وفتحت سين " السَّعة " لمَّا فتحت في المضارع لأجل حرف الحلق ، كما كسرت عين " عِدة " لمَّا كسرت في " يَعِد " إلا أنَّه يشكل على هذا : وَهَبَ يَهَبُ هِبة ، فإنهم كسروا الهاء في المصدر ، وإن كانت مفتوحة في المضارع لأجل أنَّ العين حرف حلقٍ ، فلا فرق بين " يَهَبُ " ، و " يَسَع " في كون الفتحة عارضةً والكسرة مقدرةً ، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في " هِبة " ، وكان من حقِّها الفتح لفتحها في المضارع ك " سَعَة " .
والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسعة ، أي : سَعَةً كائنةً من المال .
اعلم أنَّه تعالى لما بيَّن في الآية أنَّه لمَّا أجابهم إلى سؤالهم تولَّوا ، بيَّن في هذه الآية أنَّ أوّل تولِّيهم إنكارهم إِمْرَة طالوت ، وذلك أنَّهم لمَّا طلبوا من نبيِّهم أن يطلب من الله أن يعيِّن لهم ملكاً ؛ فأجابهم بأنَّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ، أظهروا التَّولي عن طاعة الله ، وأعرضوا عن حكمه ، وقالوا : " أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا " ، واستبعدوا ذلك .
قال المفسِّرون{[4077]} : وسبب هذا الاستبعاد : أنَّ النبوَّة كانت مخصوصةً بسبط معيَّن من أسباط بني إسرائيل ، وهم سبط لاوي بن يعقوب ، ومنه " مُوسَى وهارون " وسبط المملكة سبط " يَهُوذا " ، ومنه " دَاوُدُ ، وسُلَيْمَانُ " و " طَالُوت " لم يكن من أحد هذين السِّبطين ، بل كان من ولد " بِنْيَامِين " فلهذا السَّبب ؛ أنكروا كونه ملكاً عليهم ، وزعموا أنَّهم أحقُّ بالملك منه ، ثمَّ أكدوا هذه الشُّبهة بشبهة أخرى وهي قولهم : " وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ " ، أي : فقير .
قال وهبٌ : كان دبَّاغاً{[4078]} .
وقال السدِّيُّ : مكارياً{[4079]} .
وقال آخرون : كان سقَّاء{[4080]} ، واسمه بالعبرانية ساول بن قيس ، وكان من سبط بنيامين ابن يعقوب ، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً ، كانوا ينكحون النِّساء على ظهر الطَّريق نهاراً ، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمون سبط الإثم ، ثمَّ إنَّ الله تعالى أجابهم عن شُبْهتهم بقوله : { إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } .
والاصطفاء : أخذ الملك من غيره صافياً ، واصطفاه واستصفاه ، بمعنى : الاستخلاص ، وهو أخذ الشَّيء خالصاً .
وقال الزَّجَّاج : مأخوذٌ من الصَّفوة ، فأصله اصتفى بالتاء ، فأبدل التَّاء بالطَّاء ليسهل النُّطق بها بعد الصَّاد .
اعلم أنَّهم لمَّا طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين :
أحدهما : كونه ليس من بيت المملكة .
والثاني : كونه فقيراً ؛ ردَّ الله عليهم ذلك بأنهم قد حصل فيه وصفان :
والثاني : القدرة ، وهذان الوصفان أشدُّ مناسبة لاستحقاق الملك من الوصفين الأوَّلن لوجوه :
أحدها : أنَّ العلم ، والقدرة من باب الكمالات الحقيقيَّة ، والمال والجاه ليسا كذلك .
الثاني : أنَّ العلم ، والقدرة يمكن التَّوصُّل بهما إلى المال والجاه ، ولا ينعكس .
الثالث : أنَّ المال والجاه ، يمكن سلبهما عن الإنسان ، والعلم والقدرة ، لا يمكن سلبهما عنه .
الرابع : أنَّ العالم بأمر الحرب ، والقويّ الشَّديد على المحاربة ، ينتفع به في حفظ مصلحة الملك ، ودفع شرِّ الأعداء ، أكثر من الانتفاع بالرجل النَّسيب الغنيِّ الذي لا قدرة له على دفع الأعداء ، ولا يحفظ مصلحة الملك .
دلَّت هذه الآية على بطلان قول من يقول : إنَّ الإمامة موروثةٌ ، وذلك ؛ لأنَّ بني إسرائيل لمَّا أنكروا أن يكون الملك من غير بيت المملكة ؛ أسقط الله هذا الشَّرْط ، وبيَّن أنَّ المستحقَّ للملك من خصَّه الله به فقال : { وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ } ، وهذه الآية نظير قوله : { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ } [ آل عمران :26 ] .
والمراد بالبسطة في الجسم : الجمال ، وقيل : المراد : طول القامة . قيل : كان أطول من كل أحدٍ برأسه ، وبمنكبه . وقيل : المراد القوَّة .
قال ابن الخطيب{[4081]} : وهذا القول عندي أصحُّ ؛ لأنَّ المنتفع به في دفع الأعداء هو القوَّة ، والشِّدة ، لا الطُّول ، والجمال .
قوله : " فِي العِلْم " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلِّقٌ ب " بَسْطَة " كقولك : " بَسَطْتُ لَهُ في كَذَا " .
والثاني : أنه متعلّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه صفةٌ ل " بَسْطَة " ، أي : بَسْطَة مستقرةً أو كائنة .
قوله : { وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ } .
قال بعض المفسِّرين : هذا من كلام الله تعالى لمحمّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، والمشهور : أنَّه من قول أشمويل ، قال لهم ذلك ، لمَّا علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج ، فأراد أن يتمِّم كلامه بالقطعي ، الذي لا اعتراض عليه فقال : { وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ } ، وأضاف ملك الدُّنيا إلى الله إضافة مملوكٍ إلى ملكٍ .
قوله : { وَاللهُ وَاسِعٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على النسب ، أي : ذو سعة رحمة ، كقولهم : لابنٌ ، وتامرٌ ، أي : صاحب تمرٍ ولبنٍ .
والثاني : أنَّه جاء على حذف الزوائد من أوسع ، وأصله مُوسِعٌ . وهذه العبارة إنَّما يتداولها النَّحويون في المصادر فيقولون : مصدرٌ على حذف الزوائد .
والثالث : أنه اسمُ فاعلٍ من " وَسِع " ثلاثياً ؛ قال أبو البقاء{[4082]} : " فالتَّقدير على هذا : واسع الحِلم ؛ لأنَّك تقول وسع حلمه " .
فصل في تفسير قوله " وَاسِعٌ عَلِيمٌ "
في قوله : " وَاسِعٌ عَلِيمٌ " ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّه واسع الفضل ، والرِّزق ، والرَّحمة ، وسعت رحمته كلَّ شيءٍ ، والتَّقدير : أنتم طعنتم في طالوت ، لكونه فقيراً ، فالله تعالى واسع الفضل ، يفتح عليه أبواب الرِّزق ، والسَّعة ، كما في المال ؛ لأنه فوّض إليه الملك ، والملك لا يتمشَّى إلاَّ بالمال .
والثاني ، والثالث : ما تقدَّم في الإعراب آنفاً من كونه بمعنى : " مُوسِعٌ " وذو سعة ، والعليم العالم وقيل : العالم بما كان ، والعليم بما يكون .