المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكٗاۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَيۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ يُؤۡتَ سَعَةٗ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةٗ فِي ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ يُؤۡتِي مُلۡكَهُۥ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (247)

قال وهب بن منبه : «إنه لما قال الملأ من بني إسرائيل لسمويل بن بالي ما قالوا ، سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكاً ويدله عليه ، فقال الله تعالى له : انظر إلى القرن الذي فيه الدهن في بيتك ، فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل( {[2377]} ) ، فادهن رأسه منه وملكه عليهم ، قال : وكان طالوت رجلاً دباغاً ، وكان من سبط بنيامين بن يعقوب( {[2378]} ) ، وكان سبطاً لا نبوة فيه ولا ملك ، فخرج طالوت في بغاء( {[2379]} ) دابة له أضلها ، فقصد سمويل عسى أن يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجاً ، فنش الدهن » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهو دهن القدس فيما يزعمون ، قال : فقام إليه سمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت ، وقال له : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله بتقديمه ، ثم قال لبني إسرائيل «إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً » ، و { طالوت } اسم أعجمي معرب ولذلك لم ينصرف ، وقال السدي : «إن الله أرسل إلى شمعون عصاً وقال له : من دخل عليك من بني إسرائيل فكان على طول هذه العصا فهو ملكهم ، فقيس بها بنو إسرائيل فكانت تطولهم حتى مر بهم طالوت في بغاء حماره الذي كان يسقي عليه ، وكان رجلاً سقاء ، فدعوه فقاسوه بالعصا فكان مثلها ، فقال لهم نبيهم ما قال ، ثم إن بني إسرائيل تعنتوا وحادوا عن أمر الله تعالى ، وجروا على سننهم فقالوا : { أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه } ، أي لأنه ليس في بيت ملك ولا سبقت له فيه سابقة . { ولم يؤت } مالاً واسعاً يجمع به نفوس الرجال حتى يغلب أهل الأنفة بماله .

قال القاضي أبو محمد : وترك القوم السبب الأقوى وهو قدر الله وقضاؤه السابق( {[2380]} ) ، وانه مالك الملك ، فاحتج عليهم نبيهم عليه السلام بالحجة القاطعة ، وبيّن لهم مع ذلك تعليل اصطفائه طالوت ، وأنه زاده بسطة في العلم وهو ملاك الإنسان ، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء( {[2381]} ) ، قال ابن عباس : » كان في بني إسرائيل سبطان أحدهما للنبوة والآخر للملك ، فلا يبعث نبي إلا من الواحد ولا ملك إلا من الآخر ، فلما بعث طالوت من غير ذلك قالوا مقالتهم « ، قال مجاهد : معنى الملك في هذه الآية الإمرة على الجيش .

قال القاضي أبو محمد : ولكنهم قلقوا لأن من عادة من تولى الحرب وغلب أن يستمر ملكاً ، و { اصطفى } افتعل ، مأخوذ من الصفوة ، وقرأ نافع «بصطة » بالصاد ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «بسطة » بالسين ، والجمهور على أن العلم في هذه الآية يراد به العموم في المعارف ، وقال بعض المتأولين : المراد علم الحرب ، وأما جسمه فقال وهب بن منبه : إن أطول رجل في بني إسرائيل كان يبلغ منكب طالوت .

قوله عز وجل :

{ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ }

لما علم نبيهم عليه السلام تعنتهم وجدالهم في الحجج تمم كلامه بالقطعي( {[2382]} ) الذي لا اعتراض عليه ، وهو قوله : { والله يؤتي ملكه من يشاء } ، وظاهر اللفظ أنه من قول النبي لهم ، وقد ذهب بعض المتأولين إلى أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والأول أظهر ، وأضيف ملك الدنيا إلى الله تعالى ، إضافة مملوك إلى مالك ، و { واسع } معناه وسعت قدرته وعلمه كل شيء ،


[2377]:- نشَّ: سُمع له صوت، يقال نشَّت القِدْر واللحم: صوت على المقلى، ونَشَّت الجرَّة الجديدة: صوتت كصوت الغليان عند صب الماء فيها، والقرن بتحريك الراء: جعبة من جلود مخروزة يجعل فيها الدهن وغيره.
[2378]:- أي كان من ذرية بنيامين بن يعقوب، ولم يكن في هذا السبط نبوة ولا ملك، بل كانا في سبط يهوذا بن يعقوب، وفي سبط لاوي بن يعقوب، وبنيامين كإسرافيل شقيق يوسف ابن يعقوب. قال في القاموس: ولا تقل: ابن يامين، والمعروف عند أهل الكتاب أن طالوت هو شاول.
[2379]:- كرُغاءٍ من بغاه يبغيه بغي وبغاء، أي: طلبه، ولكن أكثر ما يستعمل في معنى الطلب: ابْتغى، لا بَغَى.
[2380]:- يعني أنهم تعلقوا بالنسب الأضعف، ونسوا السبب الأقوى وهو إيتاء الله الملك لمن يشاء [قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير] فالملك ملك الله، والمال مال الله، يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء، [وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة].
[2381]:- وبذلك تكون صفة الإمامة قائمة على التوسع في العلم والقوة في الجسم باستجماع معاني الخير والشجاعة، وفضائل الإيمان والشهامة، روى الإمام مسلم، والإمام أحمد، والنسائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)، وفي كتاب الله عز وجل: [إن خير من استأجرت القويّ الأمين].
[2382]:- أي بالدليل القطعي، والحجة البالغة التي لا اعتراض عليها.