الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكٗاۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَيۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ يُؤۡتَ سَعَةٗ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةٗ فِي ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ يُؤۡتِي مُلۡكَهُۥ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (247)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقال لهم نبيهم إن الله} عز وجل {قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا}: وليس طالوت من سبط النبوة ولا من سبط الملوك، وكان طالوت فيهم حقير الشأن، {ونحن أحق بالملك منه}؛ منا الأنبياء والملوك، {ولم يؤت} طالوت {سعة من المال} أن ينفق علينا.

{قال لهم نبيهم إن الله} عز وجل {اصطفاه عليكم}: يعني اختاره... {وزاده بسطة في العلم والجسم}؛ وكان أعلم بني إسرائيل، وكان جسيما عالما. {والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع} يعطيه الملك. {عليم} بمن يعطيه الملك...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقال للملأ من بني إسرائيل نبيّهم: إن الله قد أعطاكم ما سألتم، وبعث لكم طالوت ملكا. فلما قال لهم نبيهم ذلك، قالوا: أنى يكون لطالوت الملك علينا، وهو من سبط بنيامين بن يعقوب، وسبط بنيامين سبط لا ملك فيهم ولا نبوّة، "ونحن أحقّ بالملك منه"، لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب، "وَلمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ "يعني: ولم يؤت طالوت كثيرا من المال.

وقد قيل: إن معنى الملك في هذا الموضع: الإمرة على الجيش. "قال إنّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ": قال نبيهم لهم: إن الله اختاره عليكم. "وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ": إن الله بسط له في العلم والجسم، وآتاه من العلم فضلاً على ما أتى غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب. وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي من الله، وأما في الجسم، فإنه أوتي من الزيادة في طوله عليهم ما لم يؤته غيره منهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الله اصطفاه عليكم وزاده مع اصطفائه إياه بسطة في العلم والجسم يعني بذلك: بسط له مع ذلك في العلم والجسم. "وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ": أن الملك لله وبيده دون غيره يؤتيه، يقول: يؤتي ذلك من يشار فيضعه عنده، ويخصه به، ويمنحه من أحبّ من خلقه. يقول: فلا تستنكروا يا معشر الملإ من بني إسرائيل أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم وإن لم يكن من أهل بيت المملكة، فإن الملك ليس بميراث عن الاَباء والأسلاف، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه، فلا تتخيروا على الله.

"وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ": والله واسع بفضله، فينعم به على من أحبّ، ويريد به من يشاء عَلِيمٌ بمن هو أهل لملكه الذي يؤتيه، وفضله الذي يعطيه، فيعطيه ذلك لعلمه به، وبأنه لما أعطاه أهل إما للإصلاح به وإما لأن ينتفع هو به.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} قيل: سمى طالوتا لطوله وقوته.

{قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال} يتوجه مثل هذا الكلام وجهين:

أحدهما: على الإنكار، فلا يحتمل على الإنكار لأنه كفر.

والثاني: على الاسترشاد وطلب العلم لهم منه في ذلك عن جهة جعله له ملكا لما قد عرفوا: لا يستوجب الملك، ولا يولي إلا أحد رجلين إما بالوراثة من الآباء أو بالسعة من المال، لذلك قالوا: {ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال} لأنهم كانوا أبناء الملوك وأرباب الأموال...

ثم بين لهم عز جلا له أن جهة الاختيار ليست إليهم وأن سبب الملك ليس ما ذكروه دون غيره، بل الله عز وجل يختار من يشاء لذلك بأسباب سوى ما ذكروا بفضل علم وبفضل قوة حين {قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء} [إذ] الملك يحتاج إلى فضل علم وفضل قوة.

ثم يحتمل قوله: {بسطة في العلم} علم الحرب والقتال، ويحتمل علم الأشياء الأخر على حفظ الرعية وغيره...

قال الشيخ، رحمه الله، في قوله: {أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه}؛ فهو، والله اعلم، لأي معنى جعل له الملك علينا؟ أو كيف يكون له الملك علينا، ونحن بظاهر الأسباب التي تحقق الملك أملك، فنكون بها أحق بالملك منه؟ فبين أن المعنى الذي له صار أحق بالملك منهم في ذلك الأمر، والله أعلم. والحرف [{أنى}] وإن كان بما يتعارف في الإنكار، فليس هو كذلك، في الحقيقة؛ إذ قد أخبرهم من هو نبي عندهم، ومن تقرر عنده نبوة أحد لا يحتمل تكذيبه إياه في هذا، والله أعلم، ويحتمل كون أهل النفاق فيهم، فيكون منهم الإنكار أيضا كما كان أمثال ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد سؤالهم الآية حتى قال: {إن آية ملكه} [البقرة: 248] كذا، والله تعالى أعلم، ويؤيد ذلك كثرة مخالفتهم إياه لما امتحنوا بالنهر، والله الموفق...

وقوله: {والله واسع عليم}؛ {واسع} أي غنى يغني من يشاء، ويعطيه {عليم} بمن يصلح للملك...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قوله تعالى: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنَّى يكون له الملك علينا} الآية، يدلّ على أن الإمامة ليست وراثة، لإنكار الله تعالى عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم مَنْ ليس مِنْ أهل النبوة ولا المُلْك، وبيّن أن ذلك مُسْتَحَقٌّ بالعلم والقوة لا بالنسب. ودلّ ذلك أيضاً على أنه لا حظَ للنسب مع العلم وفضائل النفس وأنها مقدمة عليه، لأن الله أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته وإن كانوا أشرفَ منه نَسَباً. وذِكْرُه للجسم ههُنا عبارة عن فضل قوته، لأن في العادة من كان أعظم جسماً فهو أكثر قوة؛ ولم يُرِدْ بذلك عِظَمَ الجسم بلا قوة، لأن ذلك لا حظَّ له في القتال، بل هو وَبَالٌ على صاحبه إذا لم يكن ذا قوة فاضلة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

نسوا حق الاختيار، فنظروا إلى الحال بعين الظاهر، فاستبعدوا أن يكون طالوت ملكاً لأنه كان فقيراً لا مال له، فبيَّن لهم أن الفضيلة باختيار الحق، وأنه وإن عَدِمَ المالَ فقد زاده الله علماً فَفَضَلَكم بعلمه وجسمه، وقيل أراد أنه محمود خصال النفس ولم يُرِدْ عظيم البِنْيَة فإن في المثل:"فلان اسم بلا جسم" أي ذكر بلا معنى.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} يريد أنّ الله هو الذي اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكم الله. ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة. والظاهر أنّ المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب. ويجوز أن يكون عالماً بالديانات وبغيرها...

وذلك أنّ الملك لا بدّ أن يكون من أهل العلم، فإنّ الجاهل مزدرى غير منتفع به، وأن يكون جسيماً يملأ العين جهارة لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب. والبسطة: السعة والامتداد...

{و الله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ} أي الملك له غير منازع فيه، فهو يؤتيه من يشاء: من يستصلحه للملك {والله واسع} الفضل والعطاء، يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر {عَلِيمٌ} بمن يصطفيه للملك...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

"وزاده بسطة في العلم والجسم"

[و] قدم البسطة في العلم، على البسطة في الجسم، وهذا منه تعالى تنبيه على أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف وأكمل من الفضائل الجسمانية...

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

"وقال لهم نبيهم" إن قلت: لِمَ أضافه هنا إليهم ولم يضفه في {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ}؟ قلنا: إنّما أضافه هنا لأنه في مقام التبليغ لهم بخلاف الأول فإنه حكاية عن (مقالتهم) التي لم يوفّوا بها وعصوا وقدم المجرور لأنهم المقصودون بالذكر.

قال ابن عرفة: واستدلّوا على مرجوحية ملكه بالأصل، لأنه ليس في آبائه ملك ولا نبي أحق منه بالعادة لأن الأمير باعتبار العادة لا بد أن يكون غنيا عن غيره ولا يكون فقيرا أصلا. وغالطوا في احتجاجهم فأتوا بدليل ظاهره صواب يمكن قبوله فقالوا: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال}. وعدلوا عن أن يقولوا: ولم يؤت شيئا من المال، لئلا يرمى دليلهم في وجوههم فيقال لهم: قد أوتي بعض المال وإنْ قل مع أن طالوت لم يكن لديه مال البتة. فأجيبوا عن الدليل الأول بقول الله تعالى: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} فلا مزية لكم عليه بآبائكم، وعن الثاني بأن الزيادة في العلم والجسم أرجح من الزيادة في المال، فإنّ المال سريع الذّهاب والعلم إذا حصل ثابت لا يزول وكذلك الجسم الطويل لا يعود قصيرا بوجه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أرشد العطف على غير مذكور إلى أن التقدير: فقال لهم نبيّهم: ألم أقل لكم: لا تسألوا البلاء ولا تدانوا أمر القضاء، فإن أكثر قول النفس كذب وجل أمانيها زور وأما أمر الله فمتى برز يجب، عطف عليه قوله: {وقال لهم} أي خاصة لم يكن معهم أحد غيرهم يحال عليهم جوابهم الذي لا يليق وصرح بالمقصود لئلا يظن أن القائل الله وأنهم واجهوه بالاعتراض فقال: {نبيهم} أي الذي تقدم أنهم سألوه ذلك مؤكداً معظماً محققاً بأداة التوقع لأن سؤالهم على لسان نبي يقتضي توقع الإجابة {إن الله} أي بجلاله وعزّ كماله {قد}. ولما كان إلباس الشخص عزّ الملك مثل إعزاز الجماد بنفخ الروح كان التعبير عن ذلك بالبعث أليق فقال: {بعث لكم} أي خاصة لأجل سؤالكم {طالوت} اسم ملك من بني إسرائيل من سبط لم يكن الملك فيهم {ملكاً} تنتهون في تدبير الحرب إلى أمره.

قال الحرالي: فكان أول ما ابتلوا به أن ملك عليهم من لم يكن من أهل بيت الملك عندهم فكان أول فتنتهم بما طلبوا ملكاً فأجيبوا فلم يرضوا بما بعث لهم...

ولما أجابهم إلى ما سألوا كان من أول جلافتهم اعتراضهم على أمر الملك الديان الذي أورده لهم باسمه الأعظم الدال على جميع الكمال من الجلال والجمال ليكون أجدر لهم بقبول أمره والوقوف عند زجره وأورد اعتراضهم في جواب من كأنه قال: ما فعلوا إذ أجابهم إلى ما سألوا؟ فقال: {قالوا} أي هم لا غيرهم {أنى} أي من أين وكيف {يكون له} أي خاصة {الملك علينا ونحن} أي والحال أنا نحن {أحق بالملك منه} لأن فينا من هو من سبط الملوك دونه.

قال الحرالي: فثنوا اعتراضهم بما هو أشد وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم فكان فيه حظ من فخر إبليس حيث قال حين أمر بالسجود لآدم: {أنا خير منه} [ص: 76]...

{ولم} أي والحال أنه لم {يؤت سعة من المال} أي فصار له مانعان: أحدهما أنه ليس من بيت المملكة، والثاني أنه مملق والملك لا بد له من مال يعتضد به.

قال الحرالي: فكان في هذه الثالثة فتنة استصنام المال وأنه مما يقام به ملك وإنما الملك بإيتاء الله فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم...

ولما كان الخلق كلهم متساوين في أصل الجسمية وإنما جاء تفضيل بعضهم على بعض من الله فكان هو المدار علق الأمر به في قوله: {قال} أي النبي لا غيره مؤكداً لأجل إنكارهم معظماً عليهم الحق بإعادة الاسم الأعظم {إن الله} أي الذي له جميع الأمر فلا اعتراض عليه وهو أعلم بالمصالح {اصطفاه} قال الحرالي: والاصطفاء أخذ الصفوة...

ولما كان ذلك مضمناً معنى ملكه قال في تعديته {عليكم} ثم أتبع ذلك ما أودعه سبحانه مما اقتضى ذلك فقال: {وزاده} أي عليكم {بسطة في العلم} الذي به تحصل المكنة في التدبير والنفاذ في كل أمر، وهو يدل على اشتراط العلم في الملك، وفي تقديمه أن الفضائل النفسانية أشرف من الجسمانية وغيرها، وأن الملك ليس بالإرث {والجسم} الذي به يتمكن من الظفر بمن بارزه من الشجعان وقصده من سائر الأقران.

ولما كان من إليه شيء كان له الخيار في إسناده إلى غيره قال: (والله} أي اصطفاه والحال أن الملك الذي لا أمر لغيره {يؤتي ملكه} أي الذي هو له وليس لغيره فيه شيء {من يشاء} كما آتاكموه بعد أن كنتم مستعبدين عند آل فرعون {والله} الذي له الإحاطة الكاملة فلا يجوز الاعتراض عليه {واسع} أي في إحاطة قدرته وشمول عظمته وكثرة جنوده ورزقه {عليم *} أي بالغ العلم، فما اختاره فهو المختار وليس لأحد معه خيرة فهو يفعل بما له من السعة في القدرة والعلم ما قد لا تدركه العقول ولا تحتمل وصفه الألباب والفهوم ويؤتي من ليس له مال من خزائن رزقه ما يشاء.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

فسروا اصطفاء الله تعالى هنا بوحيه لذلك النبي أن يجعل طالوت ملكا عليهم، ولعله لو كان هذا هو المراد لقال اصطفاه لكم كما قال: {اصطفى لكم الدين} (البقرة: 122) والمتبادر عندي أن معناه: فضله واختاره عليكم بما أودع فيه من الاستعداد الفطري للملك، ولا ينافي هذا كون اختياره كان بوحي من الله، لأن هذه الأمور هي بيان لأسباب الاختيار وهي أربعة: 1 الاستعداد الفطري. 2 السعة في العلم الذي يكون به التدبير. 3 بسطة الجسم المعبر بها عن صحته وكمال قواه المستلزم ذلك لصحة الفكر، على قاعدة "العقل السليم في الجسم السليم"، وللشجاعة والقدرة على المدافعة، وللهيبة والوقار. 4 توفيق الله تعالى الأسباب له وهو ما عبر عنه بقوله: {والله يؤتي ملكه من يشاء}. والاستعداد هو الركن الأول في المرتبة فلذلك قدمه، والعلم بحال الأمة ومواضع قوتها وضعفها، وجودة الفكر في تدبير شؤونها، هو الركن الثاني في المرتبة، فكم من عالم بحال زمانه غير مستعد للسلطة اتخذه من هو مستعد لها سراجا يستضيء برأيه في تأسيس مملكة أو سياستها، ولم ينهض به رأيه إلى أن يكون هو السيد الزعيم فيها. وكمال الجسم في قواه وروائه هو الركن الثالث في المرتبة وهو في الناس أكثر من سابقيه. نعم إذا أراد الله إسعاد أمة جعل ملكها مقويا لما فيها من الاستعداد للخير حتى يغلب خيرها على شرها فتكون سعيدة، وإذا أراد إهلاك أمة جعل ملكها مقويا لدواعي الشر فيها حتى يغلب شرها على خيرها فتكون شقية ذليلة، فتعدو عليها أمة قوية، فلا تزال تنقصها من أطرافها، وتفتات عليها في أمورها، أو تناجزها الحرب، حتى تزيل سلطانها من الأرض، يريد الله تعالى ذلك فيكون بمقتضى سننه في نظام الاجتماع، فهو يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء بعدل وحكمة، لا بظلم ولا عبث، ولذلك قال: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} (الأنبياء: 105) وقال: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} (الأعراف: 128) فالمتقون في هذا المقام مقام استعمار الأرض والسيادة في الممالك هم الذين يتقون أسباب خراب البلاد وضعف الأمم، وهي الظلم في الحكام والجهل وفساد الأخلاق في الدولة والأمة، وما يتبع ذلك من التفرق والتنازع والتخاذل، والصالحون في هذا المقام هم الذين يصلحون لاستعمار الأرض وسياسة الأمم بحسب استعدادها الاجتماعي.

وكان الأستاذ الإمام أوجز في الدرس بتفسير قوله تعالى: {والله يؤتي ملكه من يشاء} إذ جاء في آخره. وقد كتبت في مذكرتي عنه "أي أن له سنة في تهيئة من يشاء للملك "ومثل هذا الإجمال لا يعقله إلا من جمع بين الآيات الكثيرة في إرث الأرض وفي هلاك الأمم وتكونها، والآيات الواردة في أن له تعالى في البشر سننا لا تتبدل ولا تتحول وقد ذكرنا بعضها، ومنها قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11) فحالة الأمم في صفات أنفسها وهي عقائدها ومعارفها وأخلاقها وعاداتها، هي الأصل في تغير ما بها من سيادة أو عبودية وثروة أو فقر وقوة أو ضعف، وهي هي التي تمكن الظالم من إهلاكها. والغرض من هذا البيان أن نعلم أنه لا يصح لنا الاعتذار بمشيئة الله عن التقصير في إصلاح شؤوننا اتكالا على ملوكنا، فإن مشيئته تعالى لا تتعلق بإبطال سننه تعالى وحكمته في نظام خلقه، ولا دليل في الكتاب والسنة ولا في العقل ولا في الوجود على أن تصرف الملوك في الأمم هو بقوة إلهية خارقة للعادة، بل شريعة الله تعالى وخليقته شاهدتان بضد ذلك {فاعتبروا يا أولي الأبصار} (الحشر: 2).

ثم ختم الآية بقوله تعالى: {والله واسع عليم} على طريقة القرآن في التنبيه على الدليل بعد الحكم والتذكير بأسمائه الحسنى وآثارها، أي واسع التصرف والقدرة إذا شاء أمرا اقتضته حكمته في نظام الخليقة فإنه يقع لا محالة، عليم بوجود الحكمة فلا يضع سنته في استحقاق الملك عبثا، ولا يترك أمر العباد في اجتماعهم سدى، بل وضع لهم من السنن الحكيمة ما هو منتهى الإبداع والإتقان، وليس في الإمكان أبدع مما كان.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وفي هذه اللجاجة تتكشف سمة من سمات إسرائيل التي وردت الإشارات إليها كثيرة في هذه السورة.. لقد كان مطلبهم أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت لوائه. ولقد قالوا: إنهم يريدون أن يقاتلوا (في سبيل الله). فها هم أولاء ينغضون رؤوسهم، ويلوون اعناقهم، ويجادلون في اختيار الله لهم كما أخبرهم نبيهم؛ ويستنكرون أن يكون طالوت -الذي بعثه الله لهم- ملكا عليهم. لماذا؟ لأنهم أحق بالملك منه بالوراثة. فلم يكن من نسل الملوك فيهم! ولأنه لم يؤت سعة من المال تبرر التغاضي عن أحقية الوراثة!.. وكل هذا غبش في التصور، كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة.. ولقد كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية، وعن حكمة الله في اختياره: {قال: إن الله اصطفاه عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم. والله يؤتي ملكه من يشاء. والله واسع عليم}.. إنه رجل قد اختاره الله.. فهذه واحدة.. وزاده بسطة في العلم والجسم.. وهذه أخرى.. والله (يؤتي ملكه من يشاء).. فهو ملكه، وهو صاحب التصرف فيه، وهو يختار من عباده من يشاء.. (والله واسع عليم).. ليس لفضله خازن وليس لعطائه حد. وهو الذي يعلم الخير، ويعلم كيف توضع الأمور في مواضعها..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أعاد الفعل في قوله: {وقال لهم نبيهم} للدلالة على أن كلامه هذا ليس من بقية كلامه الأول، بل هو حديث آخر متأخر عنه وذلك أنه بعد أن حذرهم عواقب الحكومة الملكية وحذرهم التولي عن القتال، تكلم معهم كلاماً آخَرَ في وقت آخر. وتأكيدُ الخبر بإنَّ إيذان بأن من شأن هذا الخبر أن يُتلقى بالاستغراب والشك، كما أنبأ عنه قولهم: {أنى يكون له الملك علينا}. والسر في اختيار نبيئهم لهم هذا الملك أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان، فجعل مَلِكهم من عامتهم لا من سادتهم، لتكون قدمه في الملك غير راسخة، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتَهم لأمثالهم...

فقولهم: {ونحن أحق بالملك} جملة حالية، والضمير من المتكلمين، وهم قادة بني إسرائيل وجعلوا الجملة حالاً للدلالة على أنهم لما ذكروا أحقيتهم بالملك لم يحتاجوا إلى الاستدلال على ذلك؛ لأن هذا الأمر عندهم مسلم معروف، إذ هم قادة وعرفاء، وشاوول رجل من السوقة، فهذا تسجيل منهم بأرجحيتهم عليه،

وقوله: {ولم يؤت سعة من المال} معطوفة على جملة الحال فهي حال ثانية. وهذا إبداء مانع فيه من ولايته الملك في نظرهم، وهو أنه فقير، وشأن الملك أن يكون ذا مال ليكفي نوائب الأمة فينفق المال في العدد والعطاء وإغاثة الملهوف، فكيف يستطيع من ليس بذي مال أن يكون ملكاً، وإنما قالوا هذا لقصورهم في معرفة سياسة الأمم ونظام الملك؛ فإنهم رأوا الملوك المجاورين لهم في بذخة وسعة، فظنوا ذلك من شروط الملك.

ولذا أجابهم نبيئهم بقوله: {إن الله اصطفاه عليكم} رادّاً على قولهم: {ونحن أحق بالملك منه} فإنهم استندوا إلى اصطفاء الجمهور إياهم فأجابهم بأنه أرجح منهم لأن الله اصطفاه، وبقوله: {وزاده بسطة في العلم والجسم} راداً عليهم قولهم: {ولم يؤت سعة من المال} أي زاده عليكم بسطة في العلم والجسم، فأعلمهم نبيئهم أن الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي وقوة البدن؛ لأنه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة، لا سيما في وقت المضائق، وعند تعذر الاستشارة أو عند خلاف أهل الشورى وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش. فالعلم المراد هنا، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة... والبسطة اسم من البسط وهو السعة والانتشار، فالبسطة الوفرة والقوة من الشيء...

{والله يؤتي ملكه من يشاء} يحتمل أن يكون من كلام النبي، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله، بعد أن بين لهم شيئاً من حكمة الله في ذلك. ويحتمل أن يكون تذييلاً للقصة من كلام الله تعالى، وكذلك قوله: {والله واسع عليم}.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} لقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم عند القتال عندما طلبوه، ليبين سبحانه الفارقة بين القول والعمل عند الذين غلبت عليهم الذلة، واستولت عليهم شهواتهم...

{وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} أي أن الله سبحانه قد أخرج من صفوفكم – وهو العليم الحكيم الخبير بأحوالكم – شخصا قد استوفى كل أسباب الرياسة وجعله ملكا عليكم. وفي التعبير إشارة إلى أنه أمثلهم وأقواهم على تحمل أعباء الحكم؛ لأن "بعث "تتضمن معنى الإثارة والفحص ثم الإخراج. و الملك المراد به هنا فيما يظهر مالك أمرهم، والمتولي ملكهم، وليس المراد منه المعنى المتعارف، وهو من يتولى بالسلالة، فإنه سيتبين أنه لم يختر لسلالته، بل اختير لعلمه وحكمته وقوته، ولم يستمر الملك في ذريته، بل آل من بعده لنبي الله داود كما تدل على ذلك أخبار داود التي ذكرها القرآن الكريم، فقد آتاه الله الملك والحكم، وإنه اختير باختيار الله تعالى بما أوحى به لنبيه، ولم يكن باختيارهم حتى لا يتنافسوا فيكون بأسهم بينهم شديدا بدل أن يكون على عدوهم. فليس في الآية دلالة على أن النظام الملكي الذي نعرفه في عصرنا مطلوب لا بالعبارة ولا بالإشارة؛ لأنها ليست ملكية الوراثة والسلالة، بل رياسة العلم والقدرة والحكمة، فما اختير طالوت لسلالته ونسبه بل اختير لمعان شخصية فيه.

لقد كان مقتضى ما طلبوه من نبيهم من أن يختار ملكا أن ينفذوا من غير تردد الأمر فيما اختاره بهداية الله ووحيه؛ لأنهم فوضوا الأمر إلى نبيهم؛ ولأن الله سبحانه وتعالى هو الذي اختاره، وما كان لهم الخيرة بعد اختيار الله سبحانه وتعالى؛ ولأن الله قد اختاره لأجلهم ومصلحتهم، ولذا عبر سبحانه وتعالى بقوله: {بعث لكم طالوت} فالتعبير ب "لكم "إشارة إلى أنه في مصلحتكم، وأنكم ستنتفعون بقوته، وستكون قوته لكم على أعداكم. و لكنهم بدل أن يطيعوا ويأخذوا الأهبة أثاروا اللجاجة التي تعودوها، ولذلك قال سبحانه حكاية عنهم: {قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}. تمردوا على نبيهم بذلك الاعتراض.

لقد أبدوا اعتراضهم بعد أن فوضوا الأمر فناقضوا أنفسهم، وبنوا الاعتراض على أسباب جعلوها مناط الملك، وليست هي السبب للرياسة الصالحة والملك القوي، ظنوا أن سبب الملك أحد الأمرين: إما سعة من المال وثروة طائلة، وإما سلالة ملكية توارثها، فقالوا: {أنى يكون له الملك علينا} من أي جهة استمد الملك، أي أنه ليس في عروقه دم ملكي يستحق به الملك، وليس هو ذا نسب رفيع، بل أي واحد منا أحق بالملك منه؛ لأنه ليس من الأشراف، ولئن تجاوزنا شرف النسب وكرم الولادة لنجدن أنه فقير ليس في سعة من المال، فقد سلب منه سببا السيادة، وهما النسب والمال. و كذلك يكون تفكير الجماعات التي سيطر عليها الأهواء، وغلبت على أمرها، تتجه إلى الماديات فتحكمها، وتفقد تقدير المعنويات، وبذلك تختل مقاييس التقدير، فأول ما تبتلى به الجماعات الضعيفة أن تختل مقاييس العظمة فيها، فإنه إذا اختل مقياس العظمة غمر العظماء، ولم يظهروا إلا بالمصادفات أو القوى الخارقة، والعظماء في الأمم هم القمم العالية التي تهدي إلى مواطن القوة، وتثير العزة من مكامنها. و إن أردت أن تعرف مقياسا ضابطا لرقي أمة من الأمم فخذه من مقياس العظمة فيها، وقد كان بنو إسرائيل في وقت هذه القصة في أشد الانهيار الخلقي كما يدل على ذلك مقياسهم للعظمة بالسلالة والمال.

و البسطة في العلم معناها الاتساع في الأفق والتجارب، وقوة العقل والتدبير والإحكام في التفكير، فالبسطة معناها الاتساع، وإذا أضيفت إلى العلم فمعناها الاتساع والإحاطة بكل ما يوجه العقل إلى التفكير المستقيم مع سلامة العقل نفسه. و يلاحظ أنه قدمت بسطة العلم على بسطة الجسم للإشارة إلى أنها في الرياسة أقوى تأثيرا، وأنها الأصل وغيرها التابع، وأنه ليست الحاجة إلى قوة الجسم بمقدار الحاجة إلى قوة الرأي والتدبير وسعة العلم وكثرة التجارب.

{والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم} ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية، للدلالة على أمرين:

أولهما: أن الأمور كلها بيده سبحانه وتعالى، وأنه فعال لما يريد، وأن ما يشاء في هذا الكون يقع، وما لا يشاء لا يقع، وأنه سبحانه يؤتي الملك في الدنيا لمن يشاء، وأنه إذ يعطيه هو المسيطر عليه، ولذلك أضيف الملك إليه إذ قال {ملكه} فهو إذ يعطيه لمن يعطيه هو الغالب على أمره يستطيع أن يسلبه في أي وقت شاء، فهو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وهو القاهر فوق عباده.

ثانيهما: أن كل شيء في الوجود تحت سلطان الله تعالى، وهذا معنى أن الله واسع، أي محيط بكل شيء، قد وسع كل شيء برحمته وقدرته، وأنه يدبر الأمور على مقتضى العلم الواسع الشامل، فهو يربط الأسباب والمسببات، وهو يعطي لحكمة يعلمها، ويمنع لحكمة يعلمها، يبتلي الأمم بالقوة والضعف، والعزة والذلة، والهزيمة والانتصار، والبأساء والضراء، ثم النعماء والسراء، كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة...35} (الأنبياء) وعلى الأمم المغلوبة أن تتخذ الأسباب بجمع الكلمة، وتأليف القلوب، وتحرير النفوس من ربقة الأهواء والشهوات، ولا تستسلم للضعف، ولا تستخذي للقوي، وتناضل وتكافح وتصابر، وتتوكل على الله، وإلى الله مصير الأمور.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

أمامنا قوله تعالى في بيان فضل طالوت المرشح للملك على غيره من بني إسرائيل {قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}، وهذه الآية تشير إلى جملة من الخصال الرئيسية المطلوبة في قائد الأمة ورئيسها الأعلى، وأنه يتأهل لرياسة الدولة إلا من آتاه الله حظا وافرا من الخصائص والمواهب الروحية والجسمية، وكان له شفوف على الباقين، ومكانة مرموقة بين الناس أجمعين... ومن هذه الآية وما شابهها استنبط علماء الشريعة في (الأحكام السلطانية) التي تقابل في الفقه الإسلامي (القانون والنظام الدستوري الحديث) جملة من الشروط المعتبرة في الإمامة العظمى، فذكروا في طليعتها العلم المؤدي إلى الاجتهاد وحسن النظر في النوازل والأحكام، والرأي المفضي إلى حسن سياسة الرعية وتدبير مصالحها العامة، والشجاعة المؤدية إلى حماية البيضة وصد العدو، وسلامة الأعضاء والحواس من كل نقص يمنع من مباشرة المهام، التي هي في عهدة الإمام. كما تشير نفس الآية إلى أن الرياسة العليا للأمة والدولة لا يكفي للبت في أمرها مجرد الهوى الشخصي ومعسول الأماني، بل إن للحكمة الإلهية-التي كثيرا ما تبقى مطوية في عالم الغيب- دخلا كبيرا في الترشيح لها والإعانة عليها، وإن كره الكارهون، وهذا ما تومئ إليه الآية: {وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هم الذين طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا. وكان يكفي إذن أن يختار نبيهم شخصا ويوليه الملك عليهم. لكن نبيهم أراد أن يغرس الاحترام منهم في المبعوث كملك لهم. لقد قال لهم: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا}. والنبي القائل ذلك ينتمي إليهم، وهو منهم، وعندما طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا كانوا يعلمون أنه مأمون على ذلك...

ويتجلى أدب النبوة في التلقي، فقال: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا}. إنه يريد أن يطمئنهم على أن مسألة اختيار طالوت كملك ليست منه؛ لأنه بشر مثلهم، وهو يريد أن ينحي قضيته البشرية عن هذا الموضوع... فماذا كان ردهم؟ {قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}. وهذه بداية التلكؤ واللجاجة ونقل الأمر إلى مسألة ليست من قضايا الدين...

إنهم يريدون الوجاهة والغنى. وكان يجب عليهم أن يأخذوا المسألة على أن الملك جاء لصالحهم، لأنهم هم الذين طلبوه ليقودهم في الحرب. إذن فأمر اختيار الملك كان لهم ولصالحهم، فلماذا يتصورون أن الاختيار كان ضدهم وليس لمصلحتهم؟

شيء آخر نفهمه من قولهم: {أنّى يكون له الملك علينا}، إن طالوت هذا لم يكن من الشخصيات المشار إليها؛ فمن العادة حين يحزُب الأمر في جماعة من الجماعات أن تفكر فيمن يقود، فعادة ما يكون هناك عدد من الشخصيات اللامعة التي يدور التفكير حولها، وتظن الجماعة أنه من الممكن أن يقع على واحد منهم الاختيار،وكان اختيار السماء لطالوت على عكس ما توقعت تلك الجماعة. لقد جاء طالوت من غمار القوم بدليل أنهم قالوا: {أنّى يكون له الملك} أي لم يؤت الملك من قبل...

وعندما نتأمل سياق الآيات فإننا نجد أن الله قال لهم في البداية: {بعث لكم} حتى لا يحرج أحدا منهم في أن طالوت أفضل منه، ولكن عندما حدث لجاج قال لهم: {إن الله اصطفاه عليكم} وهو بهذا القول يؤكد إنه لا يوجد فيكم من أهل البسطة والجسامة من يتمتع بصفة العلم. وكذلك لا يوجد من أهل العلم فيكم من يتمتع بالبسطة والجسامة {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم}. وكان يجب أن يستقبلوا اصطفاء الله طالوت للملك بالقبول والرضى فما بالك وقد زاده بسطة في العلم والجسم؟...