نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكٗاۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَيۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ يُؤۡتَ سَعَةٗ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةٗ فِي ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ يُؤۡتِي مُلۡكَهُۥ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (247)

ولما أرشد العطف على غير مذكور إلى أن التقدير : فقال لهم نبيّهم : ألم أقل لكم : لا تسألوا البلاء ولا تدانوا أمر القضاء فإن أكثر قول النفس كذب وجل أمانيها زور وأما أمر الله فمت{[11684]}ى برز يجب ، عطف عليه قوله : { وقال لهم } أي خاصة {[11685]}لم يكن معهم أحد غيرهم يحال عليهم جوابهم الذي لا يليق وصرح بالمقصود لئلا يظن أن القائل{[11686]} الله وأنهم واجهوه بالاعتراض فقال{[11687]} : { نبيهم } أي الذي تقدم أنهم سألوه ذلك{[11688]} مؤكداً{[11689]} معظماً محققاً بأداة التوقع لأن سؤالهم على لسان نبي يقتضي توقع{[11690]} الإجابة { إن الله } أي بجلاله وعزّ كماله { قد } {[11691]}ولما كان إلباس الشخص عزّ{[11692]} الملك مثل إعزاز الجماد بنفخ الروح كان التعبير عن ذلك بالبعث أليق{[11693]} فقال : { بعث لكم{[11694]} } {[11695]}أي خاصة{[11696]} لأجل سؤالكم { طالوت } اسم ملك{[11697]} من بني إسرائيل من سبط لم يكن الملك{[11698]} فيهم { ملكاً } تنتهون{[11699]} في تدبير الحرب إلى أمره .

قال الحرالي : فكان أول ما ابتلوا به أن ملك عليهم من لم يكن من أهل بيت{[11700]} الملك عندهم فكان أول فتنتهم بما طلبوا ملكاً فأجيبوا فلم يرضوا بما بعث لهم - انتهى . ولما أجابهم إلى ما سألوا كان من أول جلافتهم اعتراضهم على أمر الملك الديان الذي أورده{[11701]} لهم باسمه الأعظم الدال على جميع الكمال من الجلال والجمال ليكون {[11702]}أجدر لهم{[11703]} بقبول أمره والوقوف عند زجره وأورد اعتراضهم في جواب من كأنه قال : ما فعلوا إذ{[11704]} أجابهم إلى ما سألوا ؟ فقال : { قالوآ } {[11705]}أي هم لا غيرهم{[11706]} { أنى } أي من أين وكيف { يكون له } أي خاصة { الملك علينا ونحن } أي والحال أنا نحن { أحق بالملك منه } لأن فينا من هو من سبط الملوك دونه . قال الحرالي : فثنوا اعتراضهم{[11707]} بما هو أشد وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم فكان فيه حظ من فخر إبليس حيث قال حين أمر بالسجود لآدم :

{ أنا خير منه }

[ ص : 76 ] انتهى . { ولم } أي والحال أنه لم { يؤت سعة من المال } أي فصار له مانعان : أحدهما أنه{[11708]} ليس من بيت المملكة{[11709]} ، والثاني أنه مملق والملك لا بد له من مال يعتضد به . قال الحرالي : فكان في هذه الثالثة فتنة استصنام{[11710]} المال وأنه مما يقام به{[11711]} ملك وإنما الملك {[11712]}بايتاء الله{[11713]} فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك ، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم - انتهى .

ولما كان الخلق كلهم متساوين في أصل الجسمية وإنما جاء تفضيل بعضهم على بعض من الله فكان هو المدار علق الأمر به في قوله : { قال }{[11714]} أي النبي لا غيره مؤكداً لأج{[11715]}ل إنكارهم معظماً عليهم الحق بإعادة الاسم الأعظم { إن الله } أي الذي له جميع الأمر فلا اعتراض عليه وهو أعلم بالمصالح { اصطفاه } قال الحرالي : والاصطفاء أخذ الصفوة - انتهى . ولما كان ذلك مضمناً معنى ملكه قال في تعديته { عليكم } ثم أتبع ذلك ما أودعه سبحانه مما اقتضى ذلك فقال : { وزاده{[11716]} } أي عليكم { بسطة في العلم } الذي به تحصل المكنة في التدبير والنفاذ في كل أمر ، وهو يدل على اشتراط العلم{[11717]} في الملك ، وفي تقديمه أن الفضائل النفسانية أشرف{[11718]} من الجسمانية وغيرها ، وأن الملك ليس بالإرث { والجسم } الذي به يتمكن من الظفر بمن{[11719]} بارزه من الشجعان وقصده من سائر الأقران .

ولما كان من إليه شيء كان له الخيار في إسناده إلى غيره قال{[11720]} : ( والله } أي اصطفاه والحال {[11721]}أن الملك الذي لا أمر لغيره{[11722]} { يؤتي ملكه } أي الذي هو له وليس لغيره فيه شيء { من يشاء } كما آتاكموه بعد أن كنتم مستعبدين عند آل فرعون { والله } {[11723]}الذي له الإحاطة الكاملة فلا يجوز الاعتراض عليه{[11724]} { واسع } أي في إحاطة قدرته وشمول عظمته وكثرة جنوده ورزقه { عليم * } أي بالغ العلم ، فما اختاره فهو{[11725]} المختار وليس لأحد معه خيرة فهو يفعل بما له من السعة في القدرة والعلم ما قد لا تدركه العقول ولا تحتمل وصفه الألباب والفهوم ويؤتي من ليس له مال من خزائن رزقه ما يشاء{[11726]} .


[11684]:في م: متى.
[11685]:العبارة من هنا إلى قوله تعالى "إن آية ملكه" كانت مطموسة في الأصل فجعلنا أساس المتن نسخة مد.
[11686]:في م: المقائل.
[11687]:العبارة من "خاصة" إلى هنا ليست في ظ.
[11688]:ليس في ظ.
[11689]:العبارة من هنا إلى "توقع الإجابة" هكذا ثبتت في م ومد وقد ندمت في الأصل على "وأما أمر الله" سقطت من ظ ومن "بأداة التوقع" إلى "توقع الإجابة".
[11690]:ليس في م.
[11691]:العبارة من هنا إلى "فقال" ليست في ظ.
[11692]:في م ومد: عن – كذا.
[11693]:في الأصل: النبي، والتصحيح من م.
[11694]:قول النبي لهم "إن الله قد بعث" لا يكون إلا بوحي لأنهم سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتل في سبيل الله فأخبر ذلك النبي أن الله قد بعثه فيحتمل أن يكون ذلك بسؤال النبي أن يبعثه الله ويحتمل أن يكون ذلك بغير سؤاله بل لما علم حاجتهم إليه بعثه، وقال المفسرون إنه سأل الله أن يبعث لهم ملكا بعصا وقرن دهن القدس وقيل: الذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا وقيل للنبي: انظر القرن فإذا دخل رجل فنش الدهن الذي هو فيه فهو ملك بني إسرائيل فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها، وكان طالوت سقاء على ماء – قاله السدي: أو دباغا على ما قاله وهب أو مكاريا وضاع حمار له أو حمر لأهله فاجتمع بالنبي ليسأله عما ضاع له ويدعو الله له فبينا هو عنده نش ذلك القرن وقاسه النبي بالعصا، فكان طولها فقال له: قرب رأسك ودهنه بدهن القدس، قال: أمرني الله أن أملكك على بني إسرائيل فقال طالون: أنا قال: نعم، قال: أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ قال: أفما علمت أن بيتي أدنى بيوت بني إسرائيل؟ قال: بلى قال: فبآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، وكان كذلك، وانتصب ملكا على الحال، والظاهر أنه ملك ملكه الله عليهم، وقال مجاهد: معناه أميرا على الجيش – البحر المحيط 2 / 257.
[11695]:ليس في ظ.
[11696]:ليس في ظ.
[11697]:طالوت اسمه بالسريانية سايل وبالعبرانية ساول بن قيس، من أولاد بنيامين ابن يعقوب، وسمى طالوت قالوا لطوله وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبيه فعلى هذا يكون وزنه فعلوتا كرحموت وملكوت فتكون ألفه منقلبة عن واو إلا أنه يعكر على هذا الاشتقاق منعه الصرف إلا أن يقال إن هذا التركيب مفقود في اللسان العربي ولم يوجد إلا في اللسان العجمي، وقد اتفقت اللغتان في مادة الكلمة كما زعموا في يعقوب أنه مشتق من العقب، لكن هذا التركيب بهذا المعنى مفقود في اللسان العربي – البحر المحيط 2 / 248.
[11698]:في الأصل: الما أن، وفي ظ: الملك وفي م: الملك أن.
[11699]:من م وظ، وفي الأصل ومد: منتهون.
[11700]:سقط من م.
[11701]:من ظ وفي م ومد: أوردوه.
[11702]:من م وظ، وفي مد: وجه ربهم – كذا.
[11703]:من م وظ، وفي مد: وجه ربهم – كذا.
[11704]:في م: إذا.
[11705]:ليس في ظ.
[11706]:ليس في ظ.
[11707]:وقال أبو حيان الأندلسي: هذا كلام من تعنت وحاد عن أمر الله وهي عادة بني إسرائيل فكان ينبغي لهم إذا قال لهم النبي عن الله "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" أن يسلموا لأمر الله ولا تنكره قلوبهم ولا يتعجبوا من ذلك، ففي المقادير أسرار لا تدرك، فقالوا: كيف يملك علينا من هو دوننا ليس من بيت الملك الذي هو سبط يهوذا ومنه داود وسليمان وليس من بيت النبوة الذي هو سبط لاوى، ومنه موسى وهارون. قال ابن السائب: وكان سبط طالوت قد عملوا ذنبا عظيما نكحوا النساء نهارا على ظهر الطريق فغضب الله عليهم فنزع النبوة والملك منهم وكانوا يسمون سبط الإثم وفي قولهم "أني يكون له الملك علينا" إلى آخره ما يدل على أنه مركوز في الطباع أن لا يقدم المفضول على الفاضل واستحقار من كان غير موسع عليه فاستبعدوا أن يتملك عليهم من هم أحق بالملك منه وهو فقير والملك يحتاج إلى أصالة فيه إذ يكون أعظم في النفوس وإلى غنى يستعبد به الرجال ويعينه على مقاصد الملك. لم يعتبروا السبب الأقوى وهو قضاء الله وقدره "قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء" واعتبروا السبب الأضعف وهو النسب والغنى "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ى فضل لعربي على عجمي ولعجمي على عربي إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال الله تعالى: ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم" – البحر المحيط 2 / 257.
[11708]:زيد من ظ: من.
[11709]:في م: التملكة.
[11710]:في م: استضام.
[11711]:زيد من م وظ.
[11712]:في ظ: بإيتا لله.
[11713]:في ظ: بإبتا لله
[11714]:العبارة من هنا إلى "الاسم الأعظم" ليست في ظ.
[11715]:ليس في م
[11716]:قيل: في العلم بالحروب: والظاهر علم الديانات والشرائع وقيل: قد أوحى إليه ونبئ وأما البسطة في الجسم فقيل أريد بذلك معاني الخير والشجاعة وقهر الأعداء، والظاهر أنه الامتداد والسعة في الجسم، قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه وقد تقدم قول المفسرين في طوله، ونبه على استحقاق طالوت للملك باصطفاء الله له على بني إسرائيل: وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة" وبما أعطاه من السعة في العلم وهو الوصف الذي لا شيء أشرف منه "إنما يخشى الله من عباده العلماؤا" أنا أعلمكم بالله – البحر المحيط 2 / 258.
[11717]:ليس في م.
[11718]:في الأصل: لشرف، والتصحيح من م وظ.
[11719]:في ظ: ممن.
[11720]:في م: فقال.
[11721]:ليست في ظ.
[11722]:ليست في ظ.
[11723]:ليست في ظ.
[11724]:ليست في ظ.
[11725]:في ظ: هو.
[11726]:في البحر المحيط 2 / 259: وفي قصة طالوت دلالة على أن الإمامة ليست وراثة لإنكار الله عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوة والملك وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوة لا بالنسب ودل أيضا على أنه لا حظ للنسب مع العلم وفضائل النفس وأنها مقدمة عليه لاختيار الله طالوت عليهم لعلمه وقدرته وإن كانوا أشرف منه نسبا.