قوله تعالى : { أو من ينشأ } قرأ حمزة والكسائي وحفص : ( ينشأ ) بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين ، أي يربى ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين ، أي ينبت ويكبر ، { في الحلية } في الزينة يعني النساء ، { وهو في الخصام غير مبين } في المخاصمة غير مبين للحجة من ضعفهن وسفههن ، قال قتادة في هذه الآية : فلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها . { أو من } في محل من ثلاثة أوجه : الرفع على الابتداء ، والنصب على الإضمار ، مجازه : أو من ينشأ في الحلية يجعلونه بنات الله ، والخفض رداً على قوله : مما يخلق ، وقوله : بما ضرب .
ومنها : أن الأنثى ناقصة في وصفها ، وفي منطقها وبيانها ، ولهذا قال تعالى : { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } أي : يجمل فيها ، لنقص جماله ، فيجمل بأمر خارج عنه ؟ { وَهُوَ فِي الْخِصَامِ } أي : عند الخصام الموجب لإظهار ما عند الشخص من الكلام ، { غَيْرُ مُبِينٍ } أي : غير مبين لحجته ، ولا مفصح عما احتوى عليه ضميره ، فكيف ينسبونهن للّه تعالى ؟
ثم أضاف - سبحانه - إلى تبكيتهم السابق تبكيتا آخر فقال : { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } .
والاستفهام للإِنكار . وكلمة { مَن } عبارة عن جنس الإِناث . وهى فى محل نصب بمضمر معطوف على { جَعَلُواْ } و { يُنَشَّأُ } يربى وينشأ . يقال : نشأ فلان فى بنى فلان ، إذا شب وترعرع فيهم و { الحلية } : اسم لما يتحلى ويتزين به .
أى : أيجترئون ويجعلون لله - تعالى - الإِناث ، اللائى من شأنهم أن ينشأن فى الزينة ، لأن هذه الحياة هى المناسبة لهن ولتكوينهن الجسدى ، واللائى من شأن معظمهن أنهن لا يقدرون على الدفاع عن أنفسهن لضعفهن وقصورهن فى الجدال وفى بيان الحجة التى ترد الخصم ، وتزيل الشبهة . . .
فالمقصود من الاية الكريمة تأنيب هؤلاء المشركين على جهلهم وسوء أدبهم ، حيث إنهم نسبوا إلى الله - تعالى - الإِناث اللائى من شأنهن النشأة فى الحلية والدعة والنعومة ، فصرن بمقتضى هذه النشأة ، وبمقتضى تكوينهن البدنى والعقلى ، لا يقدرن على جدال أو قتال . . بينهما نسبوا إلى أنفسهم الذكور الذين هم قوامون على النساء .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَمَن يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره : أو من ينبت في الحلية ويزين بها وَهُوَ فِي الخِصَامِ يقول : وهو في مخاصمة من خاصمه عند الخصام غير مبين ، من خصمه ببرهان وحجة ، لعجزه وضعفه ، جعلتموه جزء الله من خلقه وزعمتم أنه نصيبه منهم ، وفي الكلام متروك استغنى بدلالة ما ذكر منه وهو ما ذكرت .
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ، فقال بعضهم : عُنِي بذلك الجواري والنساء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال : يعني المرأة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن علقمة ، عن مرثد ، عن مجاهد ، قال : رخص للنساء في الحرير والذهب ، وقرأ أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيرَ مُبِينٍ قال : يعني المرأة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيرُ مُبِينٍ قال : الجواري جعلتموهنّ للرحمن ولدا ، كيف تحكمون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال : الجواري يسفههنّ بذلك ، غير مبين بضعفهنّ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ يقول : جعلوا له البنات وهم إذا بشّر أحدهم بهنّ ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم . قال : وأما قوله : وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ يقول : قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلاّ تكلمت بالحجة عليها .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ أوْ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال : النساء .
وقال آخرون : عُنِي بذلك أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوْ مَنْ يُنَشّأ فِي الْحِلْيةِ . . . الاَية ، قال : هذه تماثيلهم التي يضربونها من فضة وذهب يعبدونها هم الذين أنشأُوها ، ضربوها من تلك الحلية ، ثم عبدوها وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيرُ مُبِينٍ قال : لا يتكلم ، وقرأ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبينٌ .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عني بذلك الجواري والنساء ، لأن ذلك عقيب خبر الله عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ، وقلة معرفتهم بحقه ، وتحليتهم إياه من الصفات والبخل ، وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم ، والمنعم عليهم النعم التي عددها في أوّل هذه السورة ما لا يرضونه لأنفسهم ، فاتباع ذلك من الكلام ما كان نظيرا له أشبه وأولى من اتباعه ما لم يجر له ذكر .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : أوَ مَنْ يُنَشّأُ فِي الْحِلْيَةِ فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض المكيين والكوفيين «أوْ مَنْ يَنْشَأُ » بفتح الياء والتخفيف من نشأ ينشأ . وقرأته عامة قرّاء الكوفة يُنَشّأُ بضم الياء وتشديد الشين من نُشّأته فهو ينَشّأ .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، لأن المنشّأ من الإنشاء ناشىء ، والناشىء منشأ ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «أوْ مَنْ لا يُنَشّأُ إلاّ فِي الْحِلْيَةِ » ، وفي «من » وجوه من الإعراب الرفع على الاستئناف والنصب على إضمار يجعلون كأنه قيل : أو من ينشأ في الحلية يجعلون بنات الله . وقد يجوز النصب فيه أيضا على الردّ على قوله : أم اتخذ مما يخلق بنات أو من ينشأ في الحلية ، فيردّ «من » على البنات ، والخفض على الردّ على «ما » التي في قوله : وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ للرّحْمَن مَثَلاً .
ثم زاد توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله : { أو من ينشأ } . و : { من } في موضع نصب بفعل يدل عليه : { جعلوا } كأنه قال : أو من ينشأ في الحلية وهو الذي خصصتم به الله ونحو هذا ، والمراد به : { من } النساء ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ، و : { ينشأ } معناه : ينبت ويكبر .
وقرأ جمهور القراء : «يَنشأ » بفتح الياء . وقرأ ابن عباس وقتادة : «يُنشىء » بضم الياء على تعدية الفعل بالهمزة . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص : «يُنشأ » بضم الياء وفتح الشين على تعدية الفعل بالتضعيف ، وهي قراءة ابن عباس أيضاً والحسن ومجاهد ، وفي مصحف ابن مسعود : «أومن لا ينشأ إلا في الحلية » .
و : { الحلية } الحلي من الذهب والفضة والأحجار . و : { الخصام } المحاجة ومجاذبة المحاورة ، وقل ما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني ، وفي مصحف ابن مسعود : «وهو في الكلام غير مبين » . و : { مبين } في هذه الآية متعد ، والتقدير { غير مبين } غرضاً أو منزعاً ونحو هذا . وقال ابن زيد : المراد ب : { من ينشأ في الحلية } الآية : الأصنام والأوثان ، لأنهم كانوا يتخذون كثيراً منها من الذهب والفضة ، وكانوا يجعلون الحلي على كثير منها .
عطف إنكارٍ على إنكار ، والواو عاطفة الجملة على الجملة وهي مؤخرة عن همزة الاستفهام لأن للاستفهام الصدْر وأصل الترتيب : وَأَمَنْ ينشأ . وجملة الاستفهام معطوفة على الإنكار المقدّر بعدَ { أم في قوله : { أم اتخذ ممّا يخلق بناتٍ } [ الزخرف : 16 ] ، ولذلك يكون { من ينشؤا في الحلية } في محل نصب بفعل محذوف دلّ عليه فعل { اتخذ في قوله : { أم اتخذ مما يخلق بنات } [ الزخرف : 16 ] . والتقدير : أأتّخذ مَن ينشأ في الحلية الخ . ولك أن تجعل { من ينشؤا في الحلية } بدلاً من قوله { بنات بدلاً مطابقاً وأبرز العامل في البدل لتأكيد معنى الإنكار لا سيما وهو قد حذف من المبدل منه . وإذ كان الإنكار إنما يتسلط على حكم الخبر كان موجب الإنكار الثاني مغايراً لموجب الإنكار الأول وإن كان الموصوف بما لوصفين اللذيْن تعلق بهما الإنكار موصوفاً واحداً وهو الأنثى .
ونَشْءُ الشيء في حالةٍ أن يكون ابتداءُ وجوده مقارناً لتلك الحالة فتكون للشيء بمنزلة الظرف . ولذلك اجتلب حرف في } الدّالة على الظرفية وإنما هي مستعارة لِمعنى المصاحبة والملابسة فمعنى { من ينشؤا في الحلية } مَن تُجعل له الحلية من أول أوقات كونه ولا تفارقُه ، فإن البنت تُتَّخَذُ لها الحلية من أول عمرها وتستصحب في سائر أطوارها ، وحسبك أنها شُقّت طرفا أذنيها لتجعل لها فيهما الأقراط بخلاف الصبي فلا يُحلّى بمثل ذلك وما يستدام له . والنَّشْءُ في الحلية كناية عن الضعف عن مزاولة الصعاب بحسب الملازمة العُرفية فيه . والمعنى : أن لا فائدة في اتخاذ الله بنات لا غناء لهن فلا يحصل له باتخاذها زيادة عِزّة ، بناء على متعارفهم ، فهذا احتجاج إقناعي خطابي .
و { الخصام } ظاهره : المجادلة والمنازعة بالكلام والمحاجّة ، فيكون المعنى : أن المرأة لا تبلغ المقدرة على إبانة حجتها . وعن قتادة : ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتْها على نفسها ، وعنه : { من ينشأ في الحلية } هنّ الجواري يسفِّههن بذلك ، وعلى هذا التفسير درج جميع المفسرين .
والمعنى عليه : أنّهن غير قوادر على الانتصار بالقول فبلأولى لا يقدرْنَ على ما هو أشد من ذلك في الحرب ، أي فلا جدوى لاتّخاذهن أولاداً .
ويجوز عندي : أن يحمل الخصامُ على التقاتل والدّفاع باليد فإن الخصم يطلق على المُحارب ، قال تعالى : { هذان خصمان اختصموا في ربّهم } [ الحج : 19 ] فُسِّر بأنهم نفر من المسلمين مع نفر من المشركين تقاتلوا يوم بدر .
فمعنى { غير مبين } غيرُ محقق النصر . قال بعض العرب وقد بُشر بولادة بنت : « والله ما هي بِنِعْمَ الولدُ بزُّها بكاء ونصرها سرقة » .
والمقصود من هذا فضح معتقدهم الباطل وأنهم لا يحسنون إعمال الفكر في معتقداتهم وإلا لكانوا حين جعلوا لله بنوة أن لا يجعلوا له بنوة الإناث وهم يُعدّون الإناث مكروهات مستضعفات . وتذكير ضمير { وهو في الخصام } مراعاة للفظ { مَن } الموصولة .
و { الحلية } : اسم لما يُتحلّى به ، أي يُتزين به ، قال تعالى : { وتستخرجون منه حلية تلبسونها } [ النحل : 14 ] .
وقرأ الجمهور { يَنشأ } بفتح الياء وسكون النون . وقرأه حفص وحمزة والكسائي { يُنَشَّأُ } بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين ومعناه : يعوده على النشأة في الحلية ويربّى .