قوله تعالى : { ولسليمان الريح عاصفةً } أي وسخرنا لسليمان الريح ، وهي هواء متحرك ، وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ، ويظهر للحس بحركته والريح يذكر ويؤنث ، عاصفة شديدة الهبوب ، فإن قيل : قد قال في موضع آخر تجري بأمره رخاءً والرخاء : اللين . قيل : كانت الريح تحت أمره إن أراد أن تشتد اشتدت ، وإن أراد أن تلين لانت ، { تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } يعني الشام ، وذلك أنها كانت تجري لسليمان وأصحابه حيث شاء سليمان ، ثم تعود إلى منزله بالشام ، { وكنا بكل شيء } علمناه { عالمين } بصحة التدبير فيه أي :علمنا أن ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه عز وجل . قال وهب بن منبه : كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره ، وكان امرأ غزاء قلما يقعد عن الغزو ، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله ، كان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بمعسكره فضرب بخشب من الأرض ثم نصب له على الخشب ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب ، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصفة من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمر به شهراً في روحة وشهراً في غدوة إلى حيث أراد ، وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء وبالمزرعة فما تحركها ، ولا تثير تراباً ولا تؤذي طائراً . قال وهب : ذكر لي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه كتبه بعض صحابة سليمان إما من الجن وإما من الإنس نحن نزلناه وما بنيناه مبنياً وجدناه ، غدونا من اصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون بالشام . قال مقاتل : نسجت الشياطين لسليمان بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسم ، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسط البساط فيقعد عليه ، وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة ، ويقعد الأنبياء على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة ، حولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح . وعن سعيد بن جبير قال : كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي فيجلس الإنس فيما يليه ثم يليهم الجن ثم تظلهم الطير ثم تحملهم الريح . وقال الحسن : لما شغلت الخيل نبي الله سليمان عليه السلام حتى فاتته صلاة العصر غضب لله عز وجل فعقر الخيل فأبدله الله مكانها خيراً منها ، وأسرع الريح تجري بأمره كيف يشاء ، فكان يغدو من إيلياء فيقيل باصطخر ، ثم يروح منها فيكون رواحه ببابل . وقال ابن زيد : كان له مركب من خشب وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الجن والإنس ، تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب ، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم ، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر ، لا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الجيوش . وروى أن سليمان سار من أرض العراق غازياً فقال بمدينة مرو ، وصلى العصر بمدينة بلخ ، تحمله وجنوده الريح ، وتظلهم الطير ، ثم سار من مدينة بلخ متخللاً بلاد الترك ، ثم جاءهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثل ذلك ، ثم عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى على أرض القندهار ، وخرج منها إلى أرض مكران وكرمان ، ثم جاوزها حوالى أرض فارس فنزلها أياماً وغدا منها إلى الشام ، فقال بكسكر ثم راح وكان مستقره بمدينة تدمر ، وكان أمر الشياطين ، قبل شخوصه من الشام إلى العراق ، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر ، وفي ذلك يقول النابغة :
إلا سليمان إذ قال المليك له *** قم في البرية فاحددها عن الفند
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ } أي : سخرناها { عَاصِفَةً } أي : سريعة في مرورها ، { تَجْرِي بِأَمْرِهِ } حيث دبرت امتثلت أمره ، غدوها شهر ورواحها شهر { إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } وهي أرض الشام ، حيث كان مقره ، فيذهب على الريح شرقا وغربا ، ويكون مأواها ورجوعها إلى الأرض المباركة ، { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } قد أحاط علمنا بجميع الأشياء ، وعلمنا من داود وسليمان ، ما أوصلناهما به إلى ما ذكرنا .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من نعمه على سليمان بن داود فقال : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } .
وقوله : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح } معطوف على معمول " سخرنا " فى قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ } و " عاصفة " حال من الريح .
أى : وسخرنا لسليمان الريح حال كونها عاصفة أى : شديدة الهبوب ، كما سخرنا مع أبيه الجبال يسبحن والطير .
يقال : عصفت الريح تعصف إذا اشتدت ، فهى عاصف وعاصفة وعصوف سميت بذلك لتحطيمها ما تمر عليه فتجعله كالعصف وهو التبن .
وقوله - تعالى - : { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } أى : جعلناها مع قوتها وشدتها تجرى بأمر سليمان وإذنه إلى الأرض التى باركنا فيها وهى أرض الشام . وقيل : يحتمل أن يكون المراد بها ما هو أعم من أرض الشام .
ووصفت الريح هنا بأنها عاصفة ، وفى آية أخرى بأنها رخاء قال - تعالى - : { تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } لأنها تارة تكون عاصفة ، وتارة تكون لينة رخاء . على حسب ما تقتضيه حكمته - سبحانه - .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " فإن قلت : وصفت هذه الرياح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى ، فما التوفيق بينهما ؟
قلت : كانت فى نفسها رخية طيبة كالنسيم ، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به فى مدة يسيرة ، على ما قال : " غدوها شهر ورواحها شهر " فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء فى نفسها وعاصفة فى عملها ، مع طاعتها لسليمان على حسب ما يريد " .
وقال - سبحانه - هنا : { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } أى تجرى بأمره إلى تلك الأرض فى حال إيابه ورجوعه إليها ، حيث مقر مملكته ومسكنه . فالمقصود من الآية الكريمة الإخبار عن جريانها فى حال عودته إلى مملكته .
أما الآية الأخرى التى تقول : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } أى : حيث أراد لها أن تجرى ، فالمقصود منها الإخبار عن جربها بإذنه فى غير حال عودته إلى مملكته ، وبذلك أمكن الجمع بين الآيتين ، إذ الجهة فيهما منفكة .
وقوله - تعالى - : { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } أى : وكنا بكل شىء يجرى فى هذا الكون عالمين علما مطلقا لا كعلم غيرنا من خلقنا .
فإنه علم محدود بما نشاؤه ونقدره .
فالجملة الكريمة بيان لإحاطة علم الله - تعالى - بكل شىء ، والتنبيه بأن ما أعطاه الله - تعالى - لسليمان ، إنما كان بإرادته - سبحانه - وعلمه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وَ سخرنا لِسُلَيْمانَ بن داود الرّيحَ عاصِفَةً وعصوفُها : شدة هبوبها تَجْرِي بأمْرِهِ إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها يقول : تجري الريح بأمر سليمان إلى الأَرْضِ الّتي بَارَكْنا فيها يعني : إلى الشام وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ، ثم تعود به إلى منزله بالشام ، فلذلك قيل : إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام له الجنّ والإنس حتى يجلس إلى سريره . وكان امرءا غزّاءً ، قلما يقعد عن الغزو ، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله . وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو ، أمر بعسكره فضَرب له بخشب ، ثم نصب له على الخشب ، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلها ، حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح ، فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته ، حتى إذا استقلت أمر الرّخاء ، فمدّته شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد ، يقول الله عزّ وجلّ : فَسَخّرْنا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بأمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أصَابَ قال : وَلِسُلَيْمانَ الرّيحَ غُدُوّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ . قال : فذكر لي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان ، إما من الجنّ وإما من الإنس . نحن نزلناه وما بنيناه ، ومبنيّا وجدناه ، غدونا من إصطخر فِقلناه ، ونحن راحلون منه إن شاء الله قائلون الشام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ولِسُلَيْمانَ الرّيحَ عاصِفَةً . . . إلى قوله : وكُنّا لَهُمْ حافِظِينَ قال : ورث الله سليمان داود ، فورثه نبوّته وملكه وزاده على ذلك أن سخر له الريح والشياطين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلِسُلَيْمانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بأمْرِهِ قال : عاصفة شديدة تَجْرِي بأمْرِهِ إلى الأرْضِ التي بَارَكْنا فيها قال : الشام .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلِسُلَيْمانَ الرّيحَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار بالنصب على المعنى الذي ذكرناه . وقرأ ذلك عبد الرحمن الأعرج : «الرّيحُ » رفعا بالكلام في سليمان على ابتداء الخبر عن أن لسليمان الريح .
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : وكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عالِمِينَ يقول : وكنا عالمين بأن فعلنا ما فعلنا لسليمان من تسخيرنا له وإعطائنا ما أعطيناه من الملك وصلاح الخلق ، فعلى علم منا بموضع ما فعلنا به من ذلك فعلنا ، ونحن عالمون بكلّ شيء لا يخفي علينا منه شيء .
وقرأت فرقة «الريح » بالنصب على معنى وسخرنا لسليمان الريح ، وقرأت فرقة «الريحُ » بالرفع على الابتداء والخبر في المجرور قبله ، ويروى أن الريح العاصفة تهب على سرير سليمان الذي فيه بساطه وقد مد حول البساط بالخشب والألواح حتى صنع سرير يحمل جميع عسكره وأقواته ، فتقله من الأرض في الهواء ، ثم تتولاه الريح الرخاء بعد ذلك ، فتحمله إلى حيث أراد سليمان . وقوله تعالى : { إلى الأرض التي باركنا فيها } اختلف الناس فيها ، فقالت فرقة هي أرض الشام وكانت مسكنه وموضع ملكه ، وخصص في هذه الآية انصرافه في سفراته إلى أرضه لأن ذلك يقتضي سيره إلى المواضع التي سافر إليها . و «البركة » في أرض الشام بينة الوجوه ، وقال بعضهم إن العاصفة هي في القفول على عادة البشر والدواب في الإسراع إلى الوطن والرخاء كانت في البداءة ، حيث أصاب ، أي حيث يقصده بأن ذلك وقت تأن وتدبير وتقلب رأي ، وقال منذر بن سعيد في الآية تقديم وتأخير والكلام تام عند قوله { إلى الأرض } ، وقوله { التي باركنا فيها } صفة ل { الريح } ع ويحتمل أن يريد الأَرض التي يسير إليها سليمان عليه السلام كائنة ما كانت ، وذلك أنه لم يكن يسير إلى أرض إلا أصلحها وقتل كفارها وأثبت فيها الإِيمان وبث فيها العدل . ولا بركة أعظم من هذا ، فكأنه قال إلى أي أرض باركنا فيها بعثنا سليمان إليها .