اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةٗ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦٓ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيۡءٍ عَٰلِمِينَ} (81)

قوله تعالى :{ وَلِسُلَيْمَانَ الريح } العامة على النصب ، أي : وسخرنا لسليمان ، فهي منصوبة بعامل مقدر{[29193]} . وقرأ ابن هرمز وأبو بكر عن عاصم في رواية بالرفع على الابتداء ، والخبر الجار قبله{[29194]} . وقرأ الحسن وأبو رجاء بالجمع والنصب . وأبو حيوة بالجمع والرفع{[29195]} . وتقدم الكلام على الجمع والإفراد في البقرة{[29196]} ، وبعض هؤلاء قرأ في سبأ{[29197]} وكذلك كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

قوله : «عَاصِفَةً » حال ، والعامل فيها على قراءة من نصب «سَخَّرْنَا » المقدر ، وفي قراءة من رفع الاستقرار الذي تعلق به الخبر{[29198]} . يقال : عَصَفتِ الرِّيْحُ تَعْصِفُ عَصْفاً وعُصُوفاً ، فهي عَاصِفٌ وعَاصِفَةٌ . وأسد تقول : أَعصَفَتِ بالألف تعصف ، فهي{[29199]} مُعْصِفٌ ومَعْصِفَةٌ{[29200]} . والريح تذكر وتؤنث{[29201]} . والعاصفة : الشديدة الهبوب . فإن قيل : قد قال{[29202]} في موضع آخر { تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً }{[29203]} والرخاء : اللين قيل : كانت الريح تحت أمره ، إن أراد أن تشتد اشتدت ، وإن أراد أن تلين لانت{[29204]} .

فإن قيل : قال في داود : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال } ، وقال في حق سليمان { وَلِسُلَيْمَانَ الريح }{[29205]} فذكر في حق داود بكلمة مع وفي حق سليمان باللام وراعى{[29206]} هذا الترتيب أيضاً في قوله { يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ }{[29207]} وقال : { فَسَخَّرْنَا{[29208]} لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ }{[29209]} فما الفائدة في تخصيص داود بلفظ مع ، وسليمان باللام ؟

فالجواب : يحتمل أنّ الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف فما أضيف بلام التمليك ، وأما الريح فلم يصدر منه إلا ما يجري مجرى الخدمة فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك وهذا جواب إقناعي{[29210]} .

قوله : «تَجْرِي » يجوز أن تكن حالاً ثانية ، وأن تكون حالاً من الضمير في «عَاصِفَة » فتكون حالين متداخلين{[29211]} . وزعم بعضهم{[29212]} : أَنَّ «الَّتِي بَارَكْتَا ( فِيهَا » صفة للريح ، وفي الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : الريح التي باركنا فيها ){[29213]} إلى الأرض . وهو تعسف . والمراد بقوله : { إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } بيت المقدس{[29214]} . قال الكلبي : كان{[29215]} سليمان -عليه السلام{[29216]}- وقومه يركبون{[29217]} عليها من إصطخر{[29218]} إلى الشام{[29219]} ، وإلى حيث شاء ، ثم يعود إلى منزله .

ثم قال : { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } وكنا بكل شيء عملناه عالمين بصحة التدبير فيه ، علمنا أنما نعطي سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه .


[29193]:انظر التبيان 2/332.
[29194]:المرجعان السابقان.
[29195]:المختصر (92) البحر المحيط 6/332.
[29196]:عند قوله تعالى: {وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة: 164].
[29197]:عند قوله تعالى: {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر} [سبأ: 12].
[29198]:انظر التبيان 2/924، البحر المحيط 6/332.
[29199]:في ب: فهو.
[29200]:اللسان (عصف).
[29201]:قال ابن الأنباري: (والريح على وجهين: الريح من الرياح مؤنثة. والريح: الأرج والنشر وهما حركتا الريح مذكر) المذكر والمؤنث 1/265-266.
[29202]:في الأصل: فإن قال قد قيل.
[29203]:من قوله تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} [ص:36].
[29204]:انظر البغوي 5/5605، الفخر الرازي 22/201.
[29205]:في النسختين: وسخرنا لسليمان الريح.
[29206]:في الأصل: راعى.
[29207]:[سبأ: 10].
[29208]:في النسختين: وسخرنا. وهو تحريف.
[29209]:في ب: أو سخرنا. وهو تحريف.
[29210]:انظر الفخر الرازي 22/201.
[29211]:انظر التبيان 2/924.
[29212]:هو المنذر بن سعيد قال أبو حيان: (وقال منذر بن سعيد الكلام تام عند قوله: "إلى الأرض" و"التي باركنا فيها" صفه للريح ففي الآية تقديم وتأخير يعني أن أصل التركيب ولسليمان الريح التي باركنا فيها عاصفة تجري بأمره إلى الأرض). البحر المحيط 6/332-333.
[29213]:ما بين القوسين سقط من ب.
[29214]:انظر الفخر الرازي 22/201.
[29215]:في ب: و. وهو تحريف.
[29216]:في ب: عليهما الصلاة والسلام.
[29217]:في ب: يركبون. وهو تصحيف.
[29218]:إصطخر: أطلال مدينة إيرانية قديمة. المنجد في الأعلام (52).
[29219]:انظر البحر المحيط 6/332.