السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةٗ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦٓ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيۡءٍ عَٰلِمِينَ} (81)

ومن بعض معجزات الثاني ما ذكره بقوله : { ولسليمان } أي : وسخر لسليمان { الريح } قال البغوي : وهو هواء يتحرّك وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ، ويظهر للحس بحركته والريح تذكر وتؤنث { عاصفة } أي : شديدة الهبوب فإن قيل : قد قال تعالى في موضع آخر تجري بأمره رخاء ، والرخاء اللين ؟ أجيب : بأنها كانت تحت أمره إن أراد أن تشتدّ اشتدّت ، وإن أراد أن تلين لانت ، وقيل : كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم ، فإذا مرّت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال تعالى : { غدوها شهر ورواحها شهر } [ سبأ ، 12 ] وقوله تعالى : { تجري بأمره } أي : بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأوّل أو حال من ضميرها { إلى الأرض التي باركنا فيها } أي : الشام ، وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ، ثم يعود إلى منزله بالشام .

قال وهب بن منبه : كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير ، وقام إليه الجنّ والإنس حتى يجلس على سريره ، وكان امرأً غزاء قلما يقعد عن الغزو ، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله ، فكان إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب ثم نصب له على الخشب ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمرت به شهراً في روحته ، وشهراً في غدوته إلى حيث أراد ، وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء بالمزرعة ، فما تحركها ولا تثير تراباً ، ولا تؤذي طائراً .

وقال مقاتل : نسجت الشياطين لسليمان بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسم ، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسطه البساط ، فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة تقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ، ومن الرواح إلى الغروب .

وقال سعيد بن جبير : كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي تجلس الإنس ما يليه ، ثم تليهم الجنّ ، ثم تظلهم الطير ، ثم تحملهم الريح ، وقال الحسن لما شغلت الخيل نبيّ الله سليمان حتى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل ، فأبدله الله مكانها خيراً منها ، وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف يشاء ، فكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر ، ثم يروح منها ، فيكون رواحها ببابل .

وقال ابن زيد : كان له مركب من خشب ، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت تركب معه فيه الجنّ والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك الركن ، فإذا ارتفعت أتت الريح الرخاء ، فسارت به وبهم يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ، ولا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الجيوش { وكنا } أي : أزلاً وأبداً بإحاطة العظمة { بكل شيء } أي : من هذا وغيره من أمره وغيره { عالمين } ومن علمنا أنّ ذلك لا يزيدهم إلا تواضعاً ، وكما سخرنا الريح له سخرناها للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليالي الأحزاب قال حذيفة رضي الله عنه حتى كانت تقذفهم بالحجارة ما تجاوز عسكرهم ، فهزمهم الله تعالى بها ، وردّوا بغيظهم لم ينالوا خيراً وأعطي صلى الله عليه وسلم أعمّ مما أعطي جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد أعطي صلى الله عليه وسلم التصرف في العالم العلوي الذي جعل الله تعالى منه الفيض على العالم السفلي بالاحتراق لطباقه بالإسراء تارة وبإمساك المطر لما دعا بسبع كسبع يوسف عليه السلام وبإرساله أخرى كما في أحاديث كثيرة ، وأتى مع ذلك بمفاتيح خزائن الأرض كلها ، فردّها صلى الله عليه وسلم .