قوله تعالى : { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } ، أي : لهم مثلها ، كما قال : { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } [ الأنعام-160 ] . { وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم } ، و{ من } صلة ، أي : ما لهم من الله من عاصم ، { كأنما أغشيت } ، ألبست ، { وجوههم قطعاً } ، جمع قطعة ، { من الليل مظلماً } ، نصبت على الحال دون النعت ، ولذلك لم يقل : مظلمة ، تقديره : قطعا من الليل في حال ظلمته ، أو قطعا من الليل المظلم . وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب : " قطعاً " ساكنة الطاء ، أي بعضا ، كقوله : { بقطع من الليل } [ هود-81 ] . { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
{ 27 ْ } { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ }
لما ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار ، فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي الأعمال السيئة المسخطة لله ، من أنواع الكفر والتكذيب ، وأصناف المعاصي ، فجزاؤهم سيئة مثلها أي : جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم .
{ وَتَرْهَقُهُمْ ْ } أي : تغشاهم { ذِلَّةٌ ْ } في قلوبهم وخوف من عذاب الله ، لا يدفعه عنهم دافع ولا يعصمهم منه عاصم ، وتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم ، فتكون سوادًا في الوجوه{[397]} .
{ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ } فكم بين الفريقين من الفرق ، ويا بعد ما بينهما من التفاوت ؟ !
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ْ } { ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ْ }
ثم بين - سبحانه - مصير الظالمين ، بعد أن بين حسن عاقبة المحسنين ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حى عن بينة فقال - تعالى - : { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً } .
أى : إذا كان جزاء الذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، فإن جزاء الذين اجترحوا السيئات ، واقترفوا الموبقات ، سيئات مثل السيئات التي ارتكبوها كما قال - تعالى - { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } والمقصود أنهم كما كسبوا السيئات في الدنيا ، فإن الله - تعالى - يجازيهم عليها في الآخرة بما يستحقون من عذاب ومصير سيئ .
وقوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أى : وتغشاهم وتغطيهم ذلة عظيمة ومهانة شديدة ، وفى إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم ، إيذان بأنها محيطة بهم من كل جانب .
وقوله : { مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أى : ليس لهم أحد يعصمهم أو يجيرهم أو يشفع لهم ، بحيث ينجون من عذاب الله - تعالى - .
وقوله : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً } تصوير بديع للظلام الحسي والمعنوى الذي يبدو على وجوه هؤلاء الظالمين .
أى : كأنما ألبست وجوههم قطعا من الليل المظلم ، والسواد الحالك ، حتى سارت شديدة السود واضحة الكدرة والظلمة .
وقوله : { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بيان لسوء عاقبتهم ، وتعاسة أحوالهم .
أى : أولئك المتصفون بتلك الصفات الذميمة ، أصحاب النار هم فيها خالدون خلودا أبديا لا نهاية له .
وهكذا نرى في هذه الآيات الكريمة تصويرا بديعا لما عليه المؤمنون الصادقون من صفات حسنة ، ومن جزاء كريم ، يتجلى في رفع درجاتهم ، وفى رضا الله - تعالى عنهم : كما نرى فيها - أيضا - وصفا معجزا لأحوال الخارجين عن طاعته ؛ ووصفا للمصير المؤلم ، الذي ينتظرهم يوم القيامة ، { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ كَسَبُواْ السّيّئَاتِ جَزَآءُ سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ مّا لَهُمْ مّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مّنَ الْلّيْلِ مُظْلِماً أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والذين عملوا السيئات في الدنيا ، فعصوا الله فيها ، وكفروا به وبرسوله ، جزاء سيئة من عمله السيء الذي عمله في الدنيا بمثلها من عقاب الله في الاَخرة . وَتَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ يقول : وتغشاهم ذلة وهوان بعقاب الله إياهم . ما لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ يقول : ما لهم من الله من مانع يمنعهم إذا عاقبهم يحول بينه وبينهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ قال : تغشاهم ذلة وشدّة .
واختلف أهل العربية في الرافع للجزاء ، فقال بعض نحويي الكوفة : رفع بإضمار «لهم » ، كأنه قيل : ولهم جزاء السيئة بمثلها ، كما قال : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ والمعنى : فعليه صيام ثلاثة أيام . قال : وإن شئت رفعت الجزاء بالباء في قوله : وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ بمِثْلِها . وقال بعض نحويي البصرة : الجزاء مرفوع بالابتداء : وخبره بمثلها . قال : ومعنى الكلام : جزاء سيئة مثلها ، وزيدت الياء كما زيدت في قوله : بحسبك قول السوء . وقد أنكر ذلك من قول بعضهم فقال : يجوز أن تكون الباء في «حسب » ( زائدة ) ، لأن التأويل : إن قلت السوء فهو حسبك ، فلما لم تدخل في الجزاء أدخلت في حسب بحسبك أن تقوم إن قمت فهو حسبك ، فإن مدح ما بعد حسب أدخلت الباء فيما بعدها كقولك : حسبك بزيد ، ولا يجوز : بحسبك زيد ، لأن زيدا الممدوح فليس بتأويل جزاء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون الجزاء مرفوعا بإضمار بمعنى : فلهم جزاء سيئة بمثلها لأن الله قال في الآية التي قبلها : لِلّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيادَةٌ فوصف ما أعدّ لأوليائه ، ثم عقب ذلك بالخبر عما أعدّ الله لأعدائه ، فأشبه بالكلام أن يقال : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة . وإذا وجه ذلك إلى هذا المعنى كانت الياء للجزاء .
القول في تأويل قوله تعالى : كأنّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعا مِنَ اللّيْلِ مُظْلِما أُولَئِكَ أصَحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .
يقول تعالى ذكره : كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات قطعا من الليل ، وهي جمع قطعة . وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ، ما :
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : كأنما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعا مِنَ اللّيْلِ مُظْلِما قال : ظلمة من الليل .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله تعالى : قِطَعا فقرأته عامة قرّاء الأمصار : قِطَعا بفتح الطاء على معنى جمع قطعة ، وعلى معنى أن تأويل ذلك : كأنما أغشيت وجه كلّ إنسان منهم قطعة من سواد الليل ، ثم جمع ذلك فقيل : كأنما أغشيت وجوههم قطعا من سواد ، إذ جمع «الوجه » . وقرأه بعض متأخري القرّاء : «قِطْعا » بسكون الطاء ، بمعنى : كأنما أغشيت وجوههم سوادا من الليل ، وبقية من الليل ، ساعة منه ، كما قال : فَأَسْرِ بأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللّيْلِ أي ببقية قد بقيت منه ، ويعتلّ لتصحيح قراءته ذلك كذلك أنه في مصحف أبيّ : «ويغشى وجوههم قطع من الليل مظلم » .
والقراءة التي لا يجوز خلافها عندي قراءة ذلك بفتح الطاء ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار على تصويبها وشذوذ ما عداها . وحسب الأخرى دلالة على فسادها ، خروج قارئها عما عليه قرّاء أهل الأمصار والإسلام .
فإن قال لنا قائل : فإن كان الصواب في قراءة ذلك ما قلت ، فما وجه تذكير المظلم وتوحيده ، وهو من نعت القِطَع والقِطْع جمع لمؤنث ؟ قيل في تذكيره ذلك وجهان : أحدهما : أن يكون قطعا من الليل ، وإن يكون من نعت الليل ، فلما كان نكرة والليل معرفة نصب على القطع . فيكون معنى الكلام حينئذ : كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل المظلم ، ثم حذفت الألف واللام من «المظلم » ، فلما صار نكرة وهو من نعت الليل نصب على القطع وتسمي أهل البصرة ما كان كذلك حالاً ، والكوفيّون قطعا . والوجه الاَخر على نحو قول الشاعر :
*** لو أنّ مِدْحَةَ حَيّ مُنْشِرٌ أحَدا ***
وقوله : أُولَئِكَ أصَحابُ النّارِ يقول : هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهل النار الذين هم أهلها ، هُمْ فِيها خالِدُونَ يقول : هم فيها ماكثون .
{ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } عطف على قوله { للذين أحسنوا الحسنى } على مذهب من يجوز : في الدار زيد والحجرة عمرو ، أو { للذين } مبتدأ والخبر { جزاء سيئة بمثلها } على تقدير : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، أي أن تجازى بسيئة مثلها لا يزاد عليها ، وفيه تنبيه على أن الزيادة هي الفضل أو التضعيف أو { كأنما أغشيت وجوههم } ، أو أولئك أصحاب النار وما بينهما اعتراض ف { كأنما أغشيت وجوههم } ، أو أولئك أصحاب النار وما بينهما اعتراض ف { جزاء سيئة } مبتدأ وخبره محذوف أي فجزاء سيئة بمثلها واقع ، أو بمثلها على زيادة الباء أو تقدير مقدر بمثلها . { وترهقهم ذلّة } وقرئ بالياء . { ما لهم من الله من عاصم } ما من أحد يعصمهم من سخط الله ، أو من جهة الله ومن عنده كما يكون للمؤمنين . { كأنما أُغشيت } غطيت . { وجوههم قِطعا من الليل مُظلماً } لفرط سوادها وظلمتها ومظلما حال من الليل والعامل فيه { أغشيت } لأنه العامل في { قطعا } وهو موصوف بالجار والمجرور ، والعامل في الموصوف عامل في الصفة أو معنى الفعل في { من الليل } . وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب " قطعا " بالسكون فعلى هذا يصح أن يكون { مظلما } صفة له أو حالا منه . { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } مما يحتج به الوعيدية . والجواب أن الآية في الكفار لاشتمال السيئات على الكفر والشرك ولأن الذين
أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة فلا يتناولهم قسيمه .
وقوله : { والذين كسبوا السيئات } الآية ، اختلف النحويون في رفع «الجزاء » بم هو ؟ فقالت فرقة : التقدير لهم جزاء سيئة بمثلها ، وقالت فرقة : التقدير جزاء سيئة مثلها والباء زائدة .
قال القاضي أبو محمد : ويتوجه أن يكون رفع «الجزاء » على المبتدأ وخبره في { الذين } لأن { الذين } معطوف على قوله { للذين أحسنوا } فكأنه قال والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، وعلى الوجه الآخر فقوله { والذين كسبوا السيئات } رفع بالابتداء ، وتعم { السيئات } ها هنا الكفر والمعاصي فمثل سيئة الكفر التخليد في النار ، ومثل سيئة المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى . و «العاصم » المنجي « ، ومنه قوله تعالى { إلى جبل يعصمني من الماء }{[6088]} . و { أغشيت } كسيت ومنه الغشاوة ، و » القطع «جمع قطعة ، وقرأ ابن كثير والكسائي » قطْعاً «من الليل بسكون الطاء ، وقرأ الباقون بفتح الطاء ، و » القطع «الجزء من الليل ومنه قوله تعالى : { فاسر بأهلك بقطع من الليل }{[6089]} وهذا يراد به الجزء من زمان الليل ، وفي هذه الآية الجزء من سواده{[6090]} . و { مظلماً } ، نعت ل » قطع « ، ويجوز أن يكون حالاً من الذكر الذي في قوله { من الليل }{[6091]} ، فإذا كان نعتاً فكان حقه أن يكون قبل الجملة ولكن قد يجيء بعدها ، وتقدير الجملة قطعاً استقر من الليل » مظلماً «على نحو قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك }{[6092]} ومن قرأ » قطعاً «على جمع قطعة فنصب » مظلماً «على الحال { من الليل } والعامل في الحال { من } إذ هي العامل في ذي الحال{[6093]} ، وقرأ أبي بن كعب ، » كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم{[6094]}« ، وقرأ ابن أبي عبلة » قطَع من الليل مظلم «بتحريك الطاء في قطع .