قوله تعالى : { والمطلقات } . أي المخليات من حبال أزواجهن .
قوله تعالى : { يتربصن } . ينتظرن .
قوله تعالى : { بأنفسهن ثلاثة قروء } . فلا يتزوجن ، والقروء : جمع قرء ، مثل قرع ، وجمعه القليل أقرؤ ، والجمع الكثير أقراء ، واختلف أهل العلم في القرء فذهب جماعة إلى أنها الحيض ، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد ، وإليه ذهب الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة " دعي الصلاة أيام أقرائك " وإنما تدع الصلاة أيام حيضها . وذهب جماعة إلى أنها الأطهار ، وهو قول زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة ، وهو قول الفقهاء السبعة والزهري وبه قال ربيعة ومالك والشافعي ، واحتجوا بأن ابن عمر رضي الله عنه لما طلق امرأته وهي حائض قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : " مره فليراجعها حتى تطهر ، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " . فأخبر أن زمان العدة هو الطهر ، ومن جهة اللغة .
ففي كل عام أنت جاشم غزوة *** تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالاً وفي الحي رفعةً *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وأراد به أنه كان يخرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فتضيع أقراؤهن ، وإنما تضيع بالسفر زمان الطهر لا زمان الحيض ، وفائدة الخلاف تظهر في أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة تنقضي عدتها على قول من يجعلها أطهاراً وتحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قرءاً .
قالت عائشة رضي الله عنها : إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه ، وبرئ منها . ومن ذهب إلى أن الأقراء هي الحيض يقول : لا تنقصني عدتها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة ، وهذا الخلاف من حيث أن اسم القرء يقع على الطهر والحيض جميعاً ، يقال أقرأت المرأة : إذا حاضت وأقرأت : إذا طهرت ، فهي مقرئ ، واختلفوا في أصله فقال أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة : هو الوقت لمجيء الشيء وذهابه ، يقال : رجع فلان لقرئه ولقارئه ، أي لوقته الذي يرجع فيه وهذا قارئ الرياح ، أي وقت هبوبها .
كرهت العقر عقر بني شليل *** إذا هبت لقارئها الرياح
أي لوقتها ، والقرء يصلح للوجهين ، لأن الحيض يأتي لوقت ، والطهر مثله ، وقيل : هو من القرء وهو الحبس والجمع ، تقول العرب : ما قرأت الناقة سلأً قط ، أي لم تضم رحمها على ولد ، ومنه قريت الماء في المقرأة ، وهي الحوض : أي جمعته ، بترك همزها ، فالقرء هاهنا احتباس الدم واجتماعه ، فعلى هذا يكون الترجيح فيه للطهر ؛ لأنه يحبس الدم ويجمعه ، والحيض يرخيه ويرسله ، وجملة الحكم في العدد : أن المرأة إذا كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل ، سواء وقعت الفرقة بينها وبين الزوج بالطلاق أو بالموت لقوله تعالى ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) فإن لم تكن حاملاً نظر : إن وقعت الفرقة بينهما بموت الزوج فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر ، سواء مات الزوج قبل الدخول أو بعده ، وسواء كانت المرأة ممن تحيض ، أو لا تحيض لقول الله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) وإن وقعت الفرقة بينهما بالطلاق في الحياة نظر فإن كان قبل الدخول بها ، فلا عدة عليها ، لقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) . وإن كان بعد الدخول نظر : إن كانت المرأة ممن لم تحض قط أو بلغت في الكبر سن الآيسات فعدتها ثلاثة أشهر ، لقول الله تعالى : ( واللاتي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) . وإن كانت ممن تحيض فعدتها ثلاثة أقرؤ لقوله تعالى : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) وقوله " يتربصن بأنفسهن " لفظه خبر ، ومعناه أمر ، وعدة الأمة إن كانت حاملاً بوضع الحمل كالحرة ، وإن كانت حائلاً ففي الوفاة عدتها شهران وخمس ليال ، وفي الطلاق ، إن كانت ممن تحيض فعدتها قرءان ، وإن كانت ممن لا تحيض فشهر ونصف : وقيل شهران كالقرءين في حق من تحيض .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ينكح العبد امرأتين ، ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين ، فإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهراً ونصفاً .
قوله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } . قال عكرمة : يعني الحيض وهو أن يريد الرجل مراجعتها فتقول : قد حضت الثلاثة وقال ابن عباس وقتادة : يعني الحمل ، ومعنى الآية : لا يحل للمرأة كتمان ما خلق الله في رحمها من الحيض ، والحمل لتبطل حق الزوج من الرجعة والولد .
قوله تعالى : { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } . معناه أن هذا من فعل المؤمنات وإن كانت المؤمنة والكافرة في هذا الحكم سواء ، كما تقول : أدّ حقي إن كنت مؤمناً ، يعني أداء الحقوق من فعل المؤمنين .
قوله تعالى : { وبعولتهن } . يعني أزواجهن جمع بعل ، كالفحولة جمع فحل ، سمي الزوج بعلاً لقيامه بأمور زوجته وأصل البعل السيد والمالك .
قوله تعالى : { أحق بردهن } . أولى برجعتهن إليهم .
قوله تعالى : { في ذلك } . أي في حال العدة .
قوله تعالى : { إن أرادوا إصلاحا } . أي إن أرادوا بالرجعة الصلاح وحسن العشرة لا الإضرار ، كما كانوا يفعلونه في الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته فإذا قرب انقضاء عدتها راجعها ، ثم تركها مدة ، ثم طلقها ، ثم إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم بعد مدة طلقها يقصد بذلك تطويل العدة عليها .
قوله تعالى : { ولهن } . أي للنساء على الأزواج مثل الذي عليهن للأزواج بالمعروف . قال ابن عباس في معناه : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما تحب امرأتي أن تتزين لي لأن الله تعالى قال : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر ابن طرفة الشجري ، أنا أبو سليمان الخطابي ، أخبرنا أبو بكر بن داسه ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا موسى بن إسماعيل ، أنا حماد أنا أبو قزعة سويد ابن حجر الباهلي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال : " قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وأن تكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا محمد بن الحجاج ، أنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أنا حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه قال : دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فسرد قصة حجة الوداع إلى أن ذكر خطبته يوم عرفة قال : " فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن ، وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده ، كتاب الله ، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت ، وأديت ونصحت ، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب ابن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن يحيى ، أنا يعلى بن عبيد ، أنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، وخياركم خياركم لنسائكم " .
قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } . قال ابن عباس : بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال ، وقال قتادة : بالجهاد ، وقيل بالعقل ، وقيل بالشهادة ، وقيل بالميراث ، وقيل بالدية وقيل بالطلاق ، لأن الطلاق بيد الرجال ، وقيل بالرجعة ، وقال سفيان و زيد بن أسلم : بالإمارة وقال القتيبي : ( وللرجال عليهن درجة ) معناه فضيلة في الحق .
قوله تعالى : { والله عزيز حكيم } . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى بن البرني ، أنا حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثم رجع ، فرأى رجالاً يسجد بعضهم لبعض ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " .
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي : النساء اللاتي طلقهن أزواجهن { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } أي : ينتظرن ويعتددن مدة { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } أي : حيض ، أو أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك ، مع أن الصحيح أن القرء ، الحيض ، ولهذه العدةِ عِدّةُ حِكَمٍ ، منها : العلم ببراءة الرحم ، إذا تكررت عليها ثلاثة الأقراء ، علم أنه ليس في رحمها حمل ، فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب ، ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن { مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } وحرم عليهن ، كتمان ذلك ، من حمل أو حيض ، لأن كتمان ذلك ، يفضي إلى مفاسد كثيرة ، فكتمان الحمل ، موجب أن تلحقه بغير من هو له ، رغبة فيه واستعجالا لانقضاء العدة ، فإذا ألحقته بغير أبيه ، حصل من قطع الرحم والإرث ، واحتجاب محارمه وأقاربه عنه ، وربما تزوج ذوات محارمه ، وحصل في مقابلة ذلك ، إلحاقه بغير أبيه ، وثبوت توابع ذلك ، من الإرث منه وله ، ومن جعل أقارب الملحق به ، أقارب له ، وفي ذلك من الشر والفساد ، ما لا يعلمه إلا رب العباد ، ولو لم يكن في ذلك ، إلا إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه ، وفيه الإصرار على الكبيرة العظيمة ، وهي الزنا لكفى بذلك شرا .
وأما كتمان الحيض ، بأن استعجلت وأخبرت به وهي كاذبة ، ففيه من انقطاع حق الزوج عنها ، وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشر ، كما ذكرنا ، وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض ، لتطول العدة ، فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه ، بل هي سحت عليها محرمة من جهتين :
من كونها لا تستحقه ، ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة ، وربما راجعها بعد انقضاء العدة ، فيكون ذلك سفاحا ، لكونها أجنبية عنه ، فلهذا قال تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }
فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الآخر ، وإلا فلو آمن بالله واليوم الآخر ، وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن ، لم يصدر منهن شيء من ذلك .
وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة ، عما تخبر به عن نفسها ، من الأمر الذي لا يطلع عليه غيرها ، كالحيض والحمل ونحوه{[141]} .
ثم قال تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : لأزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة ، أن يردوهن إلى نكاحهن { إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } أي : رغبة وألفة ومودة .
ومفهوم الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح ، فليسوا بأحق بردهن ، فلا يحل لهم أن يراجعوهن ، لقصد المضارة لها ، وتطويل العدة عليها ، وهل يملك ذلك ، مع هذا القصد ؟ فيه قولان .
الجمهور على أنه يملك ذلك ، مع التحريم ، والصحيح أنه إذا لم يرد الإصلاح ، لا يملك ذلك ، كما هو ظاهر الآية الكريمة ، وهذه حكمة أخرى في هذا التربص ، وهي : أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها ، فجعلت له هذه المدة ، ليتروى بها ويقطع نظره .
وهذا يدل على محبته تعالى ، للألفة بين الزوجين ، وكراهته للفراق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " وهذا خاص في الطلاق الرجعي ، وأما الطلاق البائن ، فليس البعل بأحق برجعتها ، بل إن تراضيا على التراجع ، فلا بد من عقد جديد مجتمع الشروط .
ثم قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة .
ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف ، وهو : العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله ، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة ، والأحوال ، والأشخاص والعوائد .
وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة ، والمعاشرة ، والمسكن ، وكذلك الوطء - الكل يرجع إلى المعروف ، فهذا موجب العقد المطلق .
وأما مع الشرط ، فعلى شرطهما ، إلا شرطا أحل حراما ، أو حرم حلالا .
{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : رفعة ورياسة ، وزيادة حق عليها ، كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }
ومنصب النبوة والقضاء ، والإمامة الصغرى والكبرى ، وسائر الولايات مختص بالرجال ، وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور ، كالميراث ونحوه .
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : له العزة القاهرة والسلطان العظيم ، الذي دانت له جميع الأشياء ، ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه .
ويخرج من عموم هذه الآية ، الحوامل ، فعدتهن وضع الحمل ، واللاتي لم يدخل بهن ، فليس لهن عدة ، والإماء ، فعدتهن حيضتان ، كما هو قول الصحابة رضي الله عنهم ، وسياق الآيات{[142]} يدل على أن المراد بها الحرة .
ثم ساقت السورة في خمس آيات أحكام الطلاق ، وفصلت أحواله ، وبينت مراته ، وذكرت ما ينبغي أن يكون عليه من عدل وتسامح حتى لا يقع ظلم أو جور على أحد الزوجين . استمع إلى القرآن الكريم وهو يبين ذلك بأسلوبه الحكيم المؤثر فيقول :
{ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء وَلاَ يَحِلُّ . . . }
قوله - تعالى - : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } معطوف على ما قبله لشدة المناسبة ، وللاتحاد في الحكم وهو التربص الذي سبقت الإِشارة إليه في قوله : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } والتربص : التأني والتريث والانتظار .
والقروء : جمع قرء - بضم القاف وفتحها - .
قال الطبرسي : وأصله في اللغة يحتمل وجهين :
أحدهما : الاجتماع ومنه القرآن لاجتماع حروفه . . فعلى هذا يقال أقرأت المرأة فهي مقرئ إذا حاضت ، وذلك لاجتماع الدم في الرحم .
والوجه الثاني : أن أصل القرء الوقت الجارى في الفعل على عادة ، يقال : هذا قارئ الرياح أي وقت هبوبها " .
والمعنى : أن على المطلقات أن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء بدو نكاح ثم لها أن تتزوج بعد ذلك إن شاءت .
والمراد بالمطلقات أن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء بدون نكاح ثم لها أن تتزوج بعد ذلك إن شاءت .
والمراد بالمطلقات هنا المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل ، لأن غيرهن قد بين الله - تعالى - عدتهن في مواضع أخرى .
والمتوفي عنها زوجها بين الله عدتها بقوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } ومن لا يحضن ليأس من الحيض ، أو لأنهن لم يرين الحيض فقد بين الله - تعالى - عدتهن بقوله : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ } أي : واللائي لم يحضن فعدتهن كذلك ثلاثة أشهر .
وذوات الحمل بين الله - تعالى - عدتهن بقوله : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وغير المدخول بها لا عدة عليها لقوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } وقوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } جملة خبرية اللفظ إنشائية المعنى أي " ليتربصن " وإخراج الأمر في صورة الخبر - كما يقول الزمخشري - " تأكيد للأمر ، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص . فهو يخبر عنه موجوداً . ونحوه قولهم في الدعاء : " رحمك الله " أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة . كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل توكيد . ولو قيل : " ويتربص المطلقات " لم يكن بتلك الوكادة " .
وفي قوله - تعالى - { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } ما فيه من الإبداع في الإِشارة والنزاهة في العبادة والسمو في المعنى ، وذلك لأن المرأة المطلقة كثيراً ما تشعر بعد طلاقها بأنها في حاجة إلى أن تثبت أن إخفاقها في حياتها الزوجية السابقة ليس لنقص فيها ، أو لعجز عن إنشاء حياة زوجية أخرى ، وهذا الشعور قد يدفعها إلى التسرع والاندفاع من أجل إنشاء هذه الحياة وهنا تبرز طريقة القرآن الحكيمة في معالجة النفوس ، إنه يقول للملطقة : إن التطلع إلى إنشاء حياة زوجية أخرى ليس عيباً ، ولكن الكرامة توجب عليها الانتظار والتريث ، إذ لا يليق بالحرة الكريمة أن تنتقل بين الأزواج تنقلا سريعاً .
. وأيضاً فإن نداء الفطرة ، وتعاليم الشريعة توجبان عليها الانتظار مدة ثلاثة قروء ، لكي تستبرئ رحمها ، حتى إذا كان هناك حمل نسب إلى الأب الشرعي له .
وفي قوله - تعالى - : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } إشعار بأن هذا التربص يجب أن يكون من ذات أنفسهن وليس من عامل خارجي ، فشأن الحرة الكريمة المؤمنة أن تحجز نفسها بنفسها عن كل ما يتنافى مع الكرامة والشرف ، فقد تجوع الحرة ولكنها لا تأكل بثديها - كما يقولون - .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى المعنى بقوله : فإن قلت وما معنى ذكر الأنفس - هنا - ؟
قلت : في ذكر الأنفس تهيج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن . وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال . فأمرن أن يقمعن أنفسهن ، ويغلبنها على الطموح ، ويجبرنها على التربص " .
وقوله - تعالى - : { ثَلاَثَةَ قرواء } نصب ثلاثة على النيابة عن المفعول فيه ، لأن الكلام على تقدير مضاف ، أي مدة ثلاثة قروء ، فلما حذف المضاف خلفه المضاف إليه في الإعراب .
هذا وللعلماء رأيان شهيران في المراد بقوله - تعالى - : { ثَلاَثَةَ قرواء }
فالأحناف والحنابلة ومن قبلهم عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم يرون أن المراد بالقروء هنا الحيضات والمعنى عندهم : أن المطلقات عليهن أن يمكثن بعد طلاقهن من أزواجهن مدة ثلاث حيضات بدون زواج بعد ذلك لهن أن يتزوجن إن شئن .
ومن أدلتهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر القرء بمعنى الحيض فقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي عن فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي الصلاة أيام أقرائك " .
ولا شك أن المراد بالقرء في هذا الحديث الحيض ، لأنه هو الذي لا تصح معه الصلاة .
أما المالكية والشافعية ومن قبلهم عائشة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والزهري وغيرهم فيرون أن المراد بالقروء هنا الأطهار ، أي الأوقات التي تكون بين الحيضتين للنساء .
ومعنى الآية عندهم : أن على الملطقات أن يمكثن بعد طلاقهن من أزواجهن ثلاثة أطهار بدون زواج ثم بعد ذلك يتزوجن إذا شئن .
ومن أدلتهم : أن الله - تعالى - يقول : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وقد بينت السنة النبوية أن الطلاق لا يكون في الحيض ، فلا يتصور أن يكون الطلاق في العدة إلا إذا فسرنا القرء بالطهر لا بالحيض .
وروى عن عائشة أنها قالت : هل تدرون الأقراء ؟ الأقراء الأطهار .
قال صاحب المنار قال الأستاذ الإِمام : والخطب في الخلاف سهل ، لأن المقصود من هذا التربص العلم ببراءة الرحم من الزوج السابق ، وهو يحصل بثلاث حيض كما يحصل بثلاث أطهار . . ومن النادر أن يستمر الحيض إلى آخر الحمل فكل من القولين موافق لحكمة الشرع في المسألة .
ثم قال - تعالى - : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } . أي : ولا يحل للنساء المطلقات أن يكتمن أمانة الله التي خلقها في أرحامهن من ولد لكي ينسبنه إلى غير أبيه ، أو من حيض أو طهر لكي تطول العدة ، ويمتد الإِنفاق من الأزواج عليهن . فإن هذا الكتمان كذب على الله ، وخيانة للأمانة التي أودعها الله في أحشائهن وأمرهن بالوفاء بها ، سيحاسب الله من يفعل ذلك منهن حساباً شديداً ، ويعاقبه عقاباً أليماً .
وقوله : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } تحريض لهن على عدم الكتمان وعلى الأخبار الصادق حتى تستقيم الأحكام ، وتتقرر الحقوق ، وتحذير لهن من الكتمان ومن اتباع الهوى والشيطان أي : أن على المطلقات ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن جرين على ما يقتضيه الإِيمان ، إذ الإِيمان يبعث على الصدق ويدعو إلى المحافظة على الأمانة ، فإن لم يفعلن ذلك وكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، كن ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر إيمانا حقيقياً ، لأن من شأن المؤمنات الكاملات في إيمانهن ألا يفعلن ذلك .
قال الإمام الرازي : أما قوله { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } فليس المراد أن ذلك النهى - عن الكتمان - مشروط بكونها مؤمنة ، بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم : إن كنت مؤمنا فلا تظلم . تريد إن كنت مؤمناً فينبغي أن يمنعكم إيمانك عن ظلمي ، ولا شك أن هذا تهديد شديد للنساء . . والآية الدالة على أن كل من جعل أميناً في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد " .
هذا ، وقد قرر الفقهاء أن القول فيما يتعلق بعدة المرأة ابتداء وانتهاء مرجعه إليها ، لأنه أمر يتعلق بها ولا يعلم إلا من جهتها ، إلا أنهم مع ذلك قرروا مدة ينتهي قولها عنده ، ولا يعمل بقولها إن نقصت عن تلك المدة . فلو ادعت - أنها قد انقضت عدتها بعد شهر من طلاقها لا يقبل قولها .
وللفقهاء كلام طويل في هذه المسألة مبسوط في كتب الفقه فليرجع إليه من شاء ذلك .
ثم قال - تعالى - : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً } .
قال القرطبي : البعولة جمع البعل وهو الزوج ، سمى بعلا لعلوه على الزوجة بما قد ملكه من زوجيتها ، ومنه قوله - تعالى - : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } أي رباً ، لعلوه في الربوبية .
. والبعولة أيضاً مصدر البعل . وبعل الرجل بيعل - كمنع يمنع - أي صار بعلا . والمباعلة والبعال : الجماع ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأيام التشريق : " إنها أيام أكل وشرب وبعال " .
والمعنى : وأزواج المطلقات طلاقاً رجعياً أحق بردهن ومراجعتهن في { ذَلِكَ } أي في وقت التربص قبل انقضاء العدة { إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً } أي إن أرادوا بهذه المراجعة الإِصلاح لا الإِضرار ، كما سيأتي في قوله - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } .
قال القرطبي : وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكانت مدخولا بها تطليقه أو تطليقتين ، أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة ، فإن لم يراجعها الملطق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه ، ولا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولى وإشهاد ليس على صفة المراجعة ، وهذا إجماع من العلماء " .
وفي هذه الجملة الكريمة بيان لبعض الحكم السامية التي أرادها الله - تعالى - من وراء مشروعية العدة . فالله - تعالى - جعل للمطلق فرصة - هي مدة ثلاثة قروء - لكي يراجع نفسه ، ويتدبر أمره ، لعله خلال هذه المراجعة وذلك التبدر يرى أن الخير في بقاء زوجته معه فيراجعها ، رعاية لرابطة المودة والرحمة التي جعلها الله - تعالى - بين الزوجين .
وقوله - تعالى - : { إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً } شرط المقصود منه حض المطلق على أن ينوي بإرجاعه لمطلقته إصلاح أحوالهما ، بإرشادها إلى ما من شأنه أن يجعل حياتهما الزوجية مستمرة لا منقطعة ، أما إذا راجعها على نية الكيد والأذى والمضارة ففي هذه الحالة يكون آثماً وسيعاقبه الله على ذلك بما يستحقه .
قال الآلوسي : وليس المراد من التعليق اشتراط جواز الرجعة بإرادة الإِصلاح حتى لو لم يكن قصده لا تجوز ، للإِجتماع على جوازها مطلقاً ، بل المراد تحريضهم على قصد الإِصلاح حيث جعل كأنه منوط به ينتفى بانتفائه " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
أي : وللنساء على الرجال مثل ما للرجال على النساء . فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه نحوه بالمعروف .
والمراد بالمماثلة - كما يقول الآلوسي - المماثلة في الوجوب لا في جنس الفعل ، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك ، ولكن يقابله بما يليق بالرجال " .
أي أن الحقوق والواجبات بينهما متبادلة ، وأنهما متماثلات في أن كل واحد منهما عليه أن يؤدي نحو صاحبه ما يجب عليه بالمعروف أي بما عرفته الطباع السليمة ولم تنكره ، ووافق ما أوجبه الله على كل منهما في شريعته .
فالباء في قوله { بالمعروف } للملابسة .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة حقوق الرجال على النساء ، وحقوق النساء على الرجال ، ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : " اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله . واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه . فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " .
وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل مرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه " .
وأخرج أبو داود عن معاوية بن حيدة قال : " قلت يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت " .
ولقد قام السلف الصالح بأداء هذه الحقوق على أحسن وجه فقد روى عن ابن عباس أنه قال : إني لأحب أن أتزين لا مرأتي كما تتزي لي لأن الله . تعالى - يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } .
أي : أن يحب أن يؤنسها وأن يدخل السرور على قلبها كما أنها هي تحب أن تفعل له ذلك .
ولكن لا يفهم أحد أن المراد بهذا المثلية المساواة من كل الوجوه قال - تعالى - : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } والرجال : جمع رجل . يقال : رجل بين الرجلة أي القوة . وهو أرجل الرجلين أي أقواهما . وفرس رجيل أي قوى على المشي . وارتجل الكلام أي قوى عليه من غير حاجة فيه إلى فكرة وروية ، وترجل النهار أي قوي ضياؤه . فأصل كلمة الرجل مأخوذة من الرجولية بمعنى القوة .
والدرجة في الأصل : ما يرتقى عليه من سلم ونحوه ، والمراد بها هنا المزية والزيادة أي : لهن عليهم مثل الذي لهم عليهن ، وللرجال على النساء مزية وزيادة في الحق ، بسبب حمايتهم لهن ، وقيامهم بشئونهن ونفقتهن وغير ذلك من واجبات .
قال بعض العلماء : وإذا كانت الأسرة لا تتكون إلا من ازدواج هذين العنصرين - الرجل والمرأة - فلابد أن يشرف على تهذيب الأسرة ويقوم على ترتيبة ناشئتها وتوزيع الحقوق والواجبات فيها أحد العنصرين . وقد نظر الإِسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة ، فوجد أن الرجل أملك لزمام نفسه ، وأقدر على ضبط حسه ، ووجده الذي أقام البيت بماله وأن انهياره خراب عليه فجعل له الرياسة ، ولذا قال - سبحانه - : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ . . . } هذه هي الدرجة التي جعلها الإِسلام للرجل ، وهي درحة تجعل له حقوقاً وتجعل عليه واجبات أكثر ، فهي موائمة كل المواءمة لصدر الآية ، فإذا كان للرجل فضل درجة فعلية فضل واجب " .
وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي غالب في انتقامه ممن عصاه ، حكيم في أمره وشرعه وسائر ما يكلف به عباده . فعلى الرجل والمرأة أن يطلبا عزهما فيما شرعه الله فهو الملجأ والمعاذ لكل ذي حق مهضوم ، وعليهما كذلك أن يتمسكا بما كلفهما به ، لأنه ما كلفهما إلا بما تقتضيه الحكمة ، ويؤيده العقل السليم .
وبعد أن بين - سبحانه - في هذه الآية شرعية الطلاق ومداه إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها طلقة رجعية ، ووضع المهاج العادل الذي يجب أن يتبعه الرجال والنساء . بعد أن بين ذلك أتبعه ببيان الحد الذي ينتهي عنده ما للرجل من حق المراجعة فقال - تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .