قوله تعالى : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } ، بالدفع عنكم .
قوله تعالى : { إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } بالقتل . وقال قتادة : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل ، فأراد بنو ثعلبة ، وبنو محارب ، أن يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة ، فأطلع الله تبارك وتعالى نبيه على ذلك ، وأنزل الله صلاة الخوف . وقال الحسن : كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصراً غطفان بنخل ، فقال رجل من المشركين : هل لكم في أن أقتل محمداً ؟ قالوا : وكيف تقتله ؟ قال : أفتك به . قالوا : وددنا أنك قد فعلت ذلك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم متقلداً سيفه ، فقال : يا محمد ، أرني سيفك ؟ فأعطاه إياه ، فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرة إلى السيف ، ومرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك مني يا محمد ؟ قال : الله ، فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام السيف ومضى ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال مجاهد ، وعكرمة ، والكلبي ، وابن يسار ، عن رجاله : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي ، وهو أحد النقباء ، ليلة العقبة في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة ، فخرجوا ، فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة ، وهي من مناه بني عامر ، -واقتتلوا ، فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم ، أحدهم عمرو بن أمية الضمري ، فلم يرعهم إلا الطير تحوم في السماء ، يسقط من بين خراطيمها علق الدم ، فقال أحد النفر : قتل أصحابنا ، ثم تولى يشتد حتى لقي رجلاً فاختلفا ضربتين ، فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء ، وفتح عينيه وقال : الله أكبر ، الجنة ورب العالمين . فرجع صاحباه ، فلقيا رجلين من بني سليم ، وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة ، فانتسبا لهما إلى بني عامر ، فقتلاهما ، وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية ، فخرج ومعه أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنهم ، حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ، وبني النضير ، يستعينهم في عقلهما ، وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال ، وعلى أن يعينوه في الديات ، قالوا : نعم يا أبا القاسم ، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة ، اجلس حتى نطعمك ، ونعطيك الذي تسألنا ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن ، فمن يظهر على هذا البيت ، فيطرح عليه صخرة ، فيريحنا منه ؟ فقال عمرو بن جحاش ، أنا ، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه ، فأمسك الله تعالى يده ، وجاء جبريل وأخبره ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة ، ثم دعا علياً فقال : لا تبرح مكانك ، فمن خرج عليك من أصحابي ، فسألك عني ، فقل : توجه إلى المدينة . ففعل ذلك علي رضي الله عنه حتى تناهوا إليه ، ثم تبعوه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال : قوله تعالى : { فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون }
{ 11 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ْ }
يُذَكِّر تعالى عباده المؤمنين بنعمه العظيمة ، ويحثهم على تذكرها بالقلب واللسان ، وأنهم -كما أنهم يعدون قتلهم لأعدائهم ، وأخذ أموالهم وبلادهم وسبيهم نعمةً - فليعدوا أيضا إنعامه عليهم بكف أيديهم عنهم ، ورد كيدهم في نحورهم نعمة . فإنهم الأعداء ، قد هموا بأمر ، وظنوا أنهم قادرون عليه .
فإذا لم يدركوا بالمؤمنين مقصودهم ، فهو نصر من الله لعباده المؤمنين ينبغي لهم أن يشكروا الله على ذلك ، ويعبدوه ويذكروه ، وهذا يشمل كل من هَمَّ بالمؤمنين بشر ، من كافر ومنافق وباغ ، كف الله شره عن المسلمين ، فإنه داخل في هذه الآية .
ثم أمرهم بما يستعينون به على الانتصار على عدوهم ، وعلى جميع أمورهم ، فقال : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ْ } أي : يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية ، وتبرؤوا من حولهم وقوتهم ، ويثقوا بالله تعالى في حصول ما يحبون . وعلى حسب إيمان العبد يكون توكله ، وهو من واجبات القلب المتفق عليها .
ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة أخرى من نعمه الجزيلة ، حتى يزدادوا شكراً له ، ووفاء بعهده ؛ والتزاما لطاعته فقال - تعالى - { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون }
وقد أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما رواه عبد الرازق عن معمر الزهري عن أبي أسامة عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها . وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله فأخذه فسله . ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك منى ؟ قال : الله - عز وجل - فسقط السيف من يد الأعرابي . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي ، وهو جالس إلى جانبه ولم يعاقبه .
قال ابن كثير : وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وعكرمة وغير واحد أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامرين ووكلوا عمرو بن جحاش بذلك . وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي الرحي من فوقه . فأطلع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما تمالأوا عليه . فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه . فأنزل الله في ذلك هذه الآية .
وعلى هاتين الروايتين وما يشبههما يكون المراد بقوله - تعالى - { اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ } تذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم حيث نجى نبيهم صلى الله عليه وسلم مما أضمره له أعداؤه وأعدؤاهم .
وقال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية . روى أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا بعسفان فيء غزوة ذات أنمار . فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا : إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم - يعنون صلاة العصر - وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها . فنزل جبريل بصلاة الخوف .
وعلى هذه الرواية يكون المراد بقوله - تعالى - { اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ } تذكيرهم برعاية الله لهم ولنبيهم صلى الله عليه وسلم من كيد أعدائهم .
وقد رجح ابن جرير أن تكون الآية قد نزلت بسبب ما أضمره بنو النضير من كيد وسوء للنبي وأصحابه فقال : وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك قول من قال : عني الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به وبرسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم صلى الله عليه وسلم مما كانت يهودي بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يوم سار إليهم في الدية التي كان تحملها عن قتيل عمرو بن أمية وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك لأن الله عقب ذكر ذلك برمى اليهود بسوء صنائعها ، وقبيح أفعالها ، وخيانتها ربها وأنبياءها .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا تنبهوا إلى نعم الله عليكم وقابلوهها بدوام الشكر والطاعة له - سبحانه - حيث أراد قوم من أعدائكم ، أن يبسطوا إليكم أيديهم .
أي : أن يبطشوا بكم القتل والإِهلاك ولكنه - سبحانه - رحمة ربكم ، ودفاعاً عنكم ، حال بين أعدائكم وبين ما يريدونه بكم من سوء .
فالآية الكريمة تذكير للمؤمنين بنعمة عظيمة من نعم الله عليهم حيث نجاهم من كيد أعدائهم ، ومن محاولتهم إهلاكهم . إثر تذكيرهم قبل ذلك بنعم أخرى كإكمال الدين ، وهدايتهم إلى الإِسلام ، وغير ذلك من الآلاء والمنن .
وفي تكرار هذا التذكير ما فيه من الحض على تأكيد المداومة على طاعة الله والمواظبة على شكره .
وقوله { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } ظرف لقوله : { نِعْمَتَ الله } والهم : إقبال النفس على فعل الشيء .
أي : اذكروا نعمة الله عليكم وقت أن قصدكم قوم من أعدائكم بالسوء والاهلاك .
وبسط اليد هنا كناية عن البطش والإِهلاك . يقال : بسط يده إليه ، إذا بطش به . وبسط إليه لسانه : إذا شتمه . والبسط في الأصل : مطلق المد . وإذا استعمل في اليد واللسان كان كناية عما ذكر .
وقوله : { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } معطوف على قوله : { هَمَّ قَوْمٌ } وهذا الكف هو النعمة التي قصد تذكيرهم بها حتى يداوموا على شكره وطاعته .
وعبر - سبحانه - بقوله { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } للإِيذان بأن نعمة كف أيدي الأعداء عنهم قد جاءت عند شدة الحاجة إليها .
والفاء في قوله { فَكَفَّ } للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها فهو - سبحانه - قد حال بين الأعداء وبين ما يشتهونه بمجرد أن قصدوا السوء بالمؤمنين .
وقال - سبحانه - { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } بإظهار الأيدي ، ولم يقل فكفها عنكم ؛ لزيادة التقرير . وللإِشارة إلى أنه - سبحانه - هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم ، ومناط شدتهم إذ الأيدي هي من أهم وسائل البطش والقتل .
أي : أنه - سبحانه - قد منع أيديهم عن أن تمتد إليكم بالأذى عقيب همهم بذلك دفاعا عنكم - أيها المؤمنون - وحماية لكم من الشرور ، فقابلوا ذلك بالشكر لخالقكم . وقوله : { واتقوا الله } معطوف على قوله : { اذكروا } وقوله : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أمر لهم بالاعتماد على الله وحده .
أي : داوموا على شكر نعم الله عليكم ، وصونوا أنفسكم عن كل ما نهاكم عنه ، وعليه وحده اعتمدوا وتوكلوا فإنه - سبحانه - هو الفعال لما يريد ، وهو الذي يدفع الشر عمن توكل عليه ، ويعطي الخير لمن شكره وأطاعه .
فالجملة الكريمة تذييل مقرر لما قبله ، من وجوب المداومة على طاعة الله وشكره على نعمه .
وإلى هنا نرى أن السورة الكريمة قد وجهت إلى المؤمنين خمس نداءات ، أمرتهم في أول نداء منها بالوفاء بالعقود . ونهتهم في الثاني عن إحلال شعائر الله ، وأرشدتهم في النداء الثالث إلى ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا أرادوا الدخول في الصلاة ، وأمرتهم في النداء الرابع بالمداومة على القيام بالتكاليف التي كلفهم - سبحانه - بها وبالتزام العدل في أقوالهم وأحكامهم ، ثم أمرتهم في النداء الخامس بالتنبيه إلى نعم الله ومداومة شكره عليها حيث نجاهم - سبحانه - مما أراده لهم أعداؤهم من شرور واستئصال .
وبعد هذه النداءات والتكليفات التي كلف الله - تعالى - بها المؤمنين ، شرعت السورة الكريمة في الحديث عن أحوال أهل الكتاب من اليهود ، فذكرت ما أخذه الله عليهم من عهود موثقة ، وموقفهم منها ، وعقوبتهم على نقضهم لها . فقال - تعالى - :