جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا": أقرّوا بتوحيد الله ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جارهم به من عند ربهم. "اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ": اذكروا النعمة التي أنعم الله بها عليكم، فاشكروه عليها بالوفاء له بميثاقه الذي واثقكم به، والعقود التي عاقدتم نبيكم صلى الله عليه وسلم عليها. ثم وصف نعمته التي أمرهم جلّ ثناؤه بالشكر عليها مع سائر نعمه، فقال: هي كفه عنكم أيدي القوم الذين هموا بالبطش بكم، فصرفهم عنكم، وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذه النعمة التي ذكّر الله جلّ ثناؤه أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بها وأمرهم بالشكر له عليها؛ فقال بعضهم: هو استنقاذ الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما كانت اليهود من بني النضير هموا به يوم أتوهم يستحملونهم دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري:
عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينهم على دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري فلما جاءهم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الاَن، فمُروا رجلاً يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه فقام عمرو بن جحاش بن كعب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، وانصرف عنهم، فأنزل الله عزّ ذكره فيهم وفيما أراد هو وقومه: "يا أيها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نَعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ...".
عن يزيد بن أبي زياد، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير يستعينهم في عَقْل أصابه ومعه أبو بكر وعمر وعليّ فقال: «أعِينُوني في عَقْلٍ أصَابَني» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينتظرونه، وجاء حيي ابن أخطب وهو رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فقال حيي لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الاَن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه ولا ترون شرّا أبدا فجاءوا إلى رحي لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فأقامه من ثم، فأنزل الله جلّ وعزّ: "يا أيّها الّذِيَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ فَكَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَعلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُؤْمِنُونَ"، فأخبر الله عز ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به.
عن عكرمة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد بني النجار وهو أحد النقباء ليلة العقبة، فبعثه في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار. فخرجوا، فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة، وهي من مياه بني عامر، فاقتتلوا، فقتل المنذر وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالّة لهم، فلم يَرُعْهُم إلا والطير تحوم في السماء، يسقط من بين خراطيمها عَلَقُ الدم، فقال أحد النفر: قتل أصحابنا والرحمن ثم تولى يشتدّ حتى لقي رجلاً، فاختلفا ضربتين، فلما خالطته الضربة، رفع رأسه إلى السماء ففتح عينيه، ثم قال: الله أكبر، الجنة وربّ العالمين فكان يدعى «أعْنَق ليموتَ». ورجع صاحباه، فلقيا زجلين من بني سليم، وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر، فقتلاهما. وقدم قومهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية، فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النّضير، فاستعانهم في عقلهما. قال: فاجتمعت اليهود لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واعتلوا بصنيعة الطعام، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم بالذي اجتمعت عليه يهود من الغدر، فخرج ثم دعا عليّا، فقال: «لا تَبْرَحْ مَقَامَكَ، فَمَنْ خَرَجَ عَلَيْكَ مِنْ أصْحَابي فَسَألَكَ عَنّي فَقُلْ وَجّه إلى المدينة فأَدْرِكُوه» قال: فجعلوا يمرّون على عليّ، فيأمرهم بالذي أمره حتى أتى عليه آخرُهم، ثم تبعهم فذلك قوله: "وَلا تَزَالُ تَطّلِعُ عَلى خاِئنَةٍ مِنْهُمْ".
وقال آخرون: بل النعمة التي ذكرها الله في هذه الآية، فأمر المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشكر له عليها، أن اليهود كانت همت بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم في طعام دعوه إليه، فأعلم الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم ما هموا به، فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه. وقال آخرون: عنى الله جلّ ثناؤه بذلك النعمة التي أنعمها على المؤمنين بإطلاع نبيه صلى الله عليه وسلم على ما همّ به عدوّه وعدوّهم من المشركين يوم بطن نخل من اغترارهم إياهم، والإيقاع بهم إذا هم اشتغلوا عنهم بصلاتهم، فسجدوا فيها، وتعريفه نبيه صلى الله عليه وسلم الحذار من عدوّه في صلاته بتعليمه إياه صلاة الخوف... عن قتادة، قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ... "ذكر لنا أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة، فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به، فأطلعه الله على ذلك. ذكر لنا أن رجلاً انتدب لقتله، فأتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وسيفه موضوع، فقال: آخذه يا نبيّ الله؟ قال: «خُذْهُ» قال: أستلّه؟ قال: «نَعَمْ» فسلّه، فقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله يَمْنَعُنِي مِنْكَ». فهدّده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظوا له القول، فشام السيف، وأمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالرحيل، فأنزل عليه صلاة الخوف عند ذلك.
عن جابر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً، وتفرّق الناس في العِضَاة يستظلون تحتها، فعلق النبيّ صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابيّ إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه فسلّه، ثم أقبل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: من يمنعك مني؟ والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «اللّهُ»، فشام الأعرابيّ السيف، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه. قال معمر: وكان قتادة يذكر نحو هذا، وذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا هذا الأعرابيّ. وتأوّل: "اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ... "الآية.
وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك، قول من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به وبرسوله، التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم، مما كانت يهود بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يوم سار إليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الدية التي كان تحملها عن قتيلي عمرو بن أمية.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك، لأن الله عقب ذكر ذلك برمي اليهود بصنائعها وقبيح أفعالها وخيانتها ربها وأنبياءها. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم والصفح عن عظيم جهلهم، فكان معلوما بذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالعفو عنهم والصفح عقيب قوله: "إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ" ومن غيره كان يبسط الأيدي إليهم، لأنه لو كان الذين هموا ببسط الأيدي إليهم غيرهم لكان حريّا أن يكون الأمر بالعفو والصفح عنهم لا عمن لم يجر لهم بذلك ذكر، ولكان الوصف بالخيانة في وصفهم في هذا الموضع لا في وصف من لم يَجْر لخيانته ذكر، ففي ذلك ما ينبئ عن صحة ما قضينا له بالصحة من التأويلات في ذلك دون ما خالفه.
"واتّقُوا اللّهِ وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكَلّ المُؤْمِنُونَ": واحذروا الله أيها المؤمنون أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم أن تنقضوا الميثاق الذي واثقكم به فتستوجبوا منه العقاب الذي لا قِبَل لكم به. "وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ المُؤْمِنُونَ" يقول: وإلى الله فليلق أزمة أمورهم، ويستسلم لقضائه، ويثق بنصرته وعونه، المقرّون بوحدانية الله ورسالة رسوله، العاملون بأمره ونهيه، فإن ذلك من كمال دينهم وتمام إيمانهم، وأنهم إذا فعلوا ذلك كلأهم ورعاهم وحفظهم ممن أرادهم بسوء، كما حفظكم ودافع عنكم أيها المؤمنون اليهود الذين هموا بما هموا به من بسط أيديهم إليكم، كلاءة منه لكم، إذ كنتم من أهل الإيمان به وبرسوله دون غيره، فإن غيره لا يطيق دفع سوء أراد بكم ربكم ولا اجتلاب نفع لكم لم يقضه لكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وفي هذه الآية دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عما كان بينهم من غير أن يشهد ذلك ليعلم أنه بالله أعلم. {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي على الله يتكل المؤمن في كل أمره، وبه يثق.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما جعل الله تخليص النبي مما هموا به نعمة على المؤمنين من حيث كان إمامهم وسيدهم، وكان مبعوثا إليهم بما فيه مصالحهم، فمقامه بينهم نعمة على المؤمنين، فلذلك اعتد به عليهم...
والذكر هو حضور المعنى للنفس. وقد يستعمل الذكر بمعنى القول، لأن من شأنه أن تذكر به المعنى. والتذكر هو طلب المعني لا طلب القول... والذكر حصول المعنى في النفس، وأيضا الذكر يجري على نقيض النسيان، لأنه يستعمل بعد ما نسيه. وليس كذلك الخاطر.
والهم بالأمر هو حديث النفس بفعله... والفرق بين الهم بالشيء والقصد اليه أنه قد يهم بالشيء قبل أن يريده ويقصده بأن يحدث نفسه به، وهو مع ذلك مميل في فعله ثم يعزم إليه ويقصد إليه.
المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية وجهان: الأول: أن المشركين في أول الأمر كانوا غالبين، والمسلمين كانوا مقهورين مغلوبين، ولقد كان المشركون أبدا يريدون إيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين، والله تعالى كان يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين فقال تعالى: {اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم} وهم المشركون {أن يبسطوا إليكم أيديهم} بالقتل والنهب والنفي فكف الله تعالى بلطفه ورحمته أيدي الكفار عنكم أيها المسلمون، ومثل هذا الإنعام العظيم يوجب عليكم أن تتقوا معاصيه ومخالفته. ثم قال تعالى: {واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي كونوا مواظبين على طاعة الله تعالى، ولا تخافوا أحدا في إقامة طاعات الله تعالى.
الوجه الثاني: أن هذه الآية نزلت في واقعة خاصة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يعني: من توكل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} روى غير واحد أن الآية نزلت في رجل هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم. أرسله قومه لذلك، وكان بيده السيف وليس مع النبي صلى الله عليه وسلم سلاح وكان منفردا، وأقوى هذه الروايات ما صححه الحاكم من حديث جابر وهي أن الرجل من محارب واسمه غورث بن الحارث قال: قام على رأس رسول صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك؟ قال: (الله) فوقع السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من يمنعك؟) قال: كن خير آخذ. قال: (تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) قال: أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله. فجاء إلى قومه وقال جئتكم من عند خير الناس.
وفي غير هذه الرواية أن السيف الذي كان بيد الأعرابي كان سيف النبي صلى الله عليه وسلم علقه في شجرة وقت الراحة فأخذه الرجل وجعل يهزه ويهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فيكبته الله تعالى. وروى آخرون أنها نزلت في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع بني النضير إذ ذهب إليهم ومعه أبو بكر وعمر وعلي (رض) يطلبون منهم الإعانة على قتل الرجلين الكلابين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري منصرفه من بئر معونة وكان معهما أمان من النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم به، وقومهما محاربون. وكان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد بني النضير على أن لا يحاربوه وأن يعينوه على الديات. فلما طلب منهم ذلك، وهو بينهم، اظهروا له القبول وقالوا اقعد حتى نجمع لك، وفي رواية قالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا. فلما جلس بجانب جدار دار لهم وجدوا أن الفرصة سنحت للغدر به، وقال لهم حيى بن أخطب: لا ترونه أقرب منه الآن اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه ولا ترون شرا أبدا. فهموا أن يطرحوا عليه صخرة وفي رواية رحى عظيمة. وإنما اعتلوا بصنع الطعام ليكون لهم فيه وقت ينقلون الصخرة أو الرحى إلى سطح الدار. ولا شك في أنهم كانوا يريدون قتل من معه أيضا. وقيل كان معهم عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف أيضا. وقد أعلم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فانطلق وتركهم، ونزلت الآية في ذلك.
وليس المراد أنها نزلت يومئذ وإنما المراد أنها نزلت مذكرة بهذه القصة، فإن السورة نزلت عام حجة الوداع وذلك بعد غزوة بني النضير التي كانت في أوائل السنة الرابعة، وقيل قبل ذلك. وعلى هذا يجوز أن يكون الآية مذكرة بهذه الحادثة وبحادثة المحاربي وأمثالهما من وقائع الاعتداء التي كانت كثيرة حتى بعد قوة الإسلام بكثرة المسلمين، دع ما كان يقع في أول الإسلام من إيذاء المشركين وعدوانهم، فهو سبحانه يذكر المؤمنين بذلك كله. والمنة له جل جلاله في ذلك ليست قاصرة على من وقعت لهم تلك الوقائع من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بل هي منة عامة يجب أن يشكرها له عز وجل كل مؤمن إلى يوم القيامة، لأن حفظه لأولئك السلف الصالحين هو عين حفظه لهذا الدين القويم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وأصحابه هم الذين تلقوها عنه بالقبول وأدوها لمن بعدهم بالقول والعمل.
ومن فوائد هذا التذكير للمتأخرين ترغيبهم في التأسي بسلفهم في القيام بما جاء به الدين من الحق والعدل والبر والإحسان، واحتمال الجهد والصبر على المشاق في هذه السبيل وهي سبيل الله، وهذا هو المعنى العام للجهاد في سبيل الله.
{وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} عطف على ما قبله، أي اذكروا نعمة الله تعالى عليكم بعنايته بكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أي شارفوا أن يمدوا أيديهم إليكم بالقتل فكف أيديهم عنكم فلم يستطيعوا تنفيذ ما هموا به وكادوا يفعلونه من الإيقاع بكم، واتقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم، وتوكلوا عليه وحده فقد أراكم عنايته بمن يكلون أمورهم إليه بعد مراعاة سننه والسير عليها في اتقاء كل ما يخشى ضره وسوء عاقبته، وعلى الله فليتوكل المؤمنون بقدرته وعنايته وفضله ورحمته، لا على أنفسهم، ولا على أوليائهم وحلفائهم، لأن هؤلاء قد يغدرون كما غدر بنو النضير وغيرهم. ولأن أنفسهم قد يكثر عليها الأعداء، وتتقطع بها الأسباب، فتقع بين أمواج الحيرة والاضطراب، حتى تفقد البأس، وتجيب داعي اليأس، ولا يقع هذا للمؤمن المتوكل على الله تعالى، لأنه إذا هم أن ييئس من نفسه بتقطع الأسباب، وتغلب الأعداء، وتقلب الأولياء، يتذكر أن الله تعالى وليه ووكيله وأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو الذي يجير ولا يجار عليه، فتتجدد قوته، وتنفتق حيلته، فيفر منه اليأس، ويتجدد عنده ما اخلولق من اليأس، فينصره الله تعالى بما يستفيد من الإيمان والذكرى والتوكل، وما يخذل به عدوه ويلقي في قلبه من الرعب، وبغير ذلك من ضروب عنايته عز وجل، التي رآها كل متوكل من المؤمنين الكملة مع سيد المتوكلين محمد صلى الله عليه وسلم أيام ضعفهم وقلتهم وفقرهم، وتألب الناس كلهم عليهم.
وجملة القول إن الله تعالى أمرنا بالتقوى ثم بالتوكل، وإنما التقوى بذل الجهد في الوقاية من كل سوء وكل شر ومن مبادئ ذلك وأسبابه، ولا تحصل حقيقة التوكل إلا بالسير على سنة الله تعالى في نظام الأسباب والمسببات لأن من يوكل الأمر إليه يجب أن يطاع. ومن تنكب سنن الله تعالى في العالم وخالف شرعه فيما أمر به من عمل نافع، ونهى عنه من عمل ضار، لا يصح أن يسمى متوكلا واثقا به. وقد حققنا مسألة التوكل والأسباب في تفسير آل عمران (راجع ص 205-214 من جزء التفسير الرابع).
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يُذَكِّر تعالى عباده المؤمنين بنعمه العظيمة، ويحثهم على تذكرها بالقلب واللسان، وأنهم -كما أنهم يعدون قتلهم لأعدائهم، وأخذ أموالهم وبلادهم وسبيهم نعمةً -فليعدوا أيضا إنعامه عليهم بكف أيديهم عنهم، ورد كيدهم في نحورهم نعمة. فإنهم الأعداء، قد هموا بأمر، وظنوا أنهم قادرون عليه. فإذا لم يدركوا بالمؤمنين مقصودهم، فهو نصر من الله لعباده المؤمنين ينبغي لهم أن يشكروا الله على ذلك، ويعبدوه ويذكروه، وهذا يشمل كل من هَمَّ بالمؤمنين بشر، من كافر ومنافق وباغ، كف الله شره عن المسلمين، فإنه داخل في هذه الآية. ثم أمرهم بما يستعينون به على الانتصار على عدوهم، وعلى جميع أمورهم، فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ْ} أي: يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، وتبرؤوا من حولهم وقوتهم، ويثقوا بالله تعالى في حصول ما يحبون. وعلى حسب إيمان العبد يكون توكله، وهو من واجبات القلب المتفق عليها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأيا ما كان الحادث، فإن عبرته في هذا المقام هي المنشودة في المنهج التربوي الفريد، وهي إماتة الغيظ والشنآن لهؤلاء القوم في صدور المسلمين. كي يفيئوا إلى الهدوء والطمأنينة وهم يرون أن الله هو راعيهم وكالئهم. وفي ظل الهدوء والطمأنينة يصبح ضبط النفس، وسماحة القلب، وإقامة العدل ميسورة. ويستحي المسلمون أن لا يفوا بميثاقهم مع الله؛ وهو يرعاهم ويكلؤهم، ويكف الأيدي المبسوطة إليهم. ولا ننس أن نقف وقفة قصيرة أمام التعبير القرآني المصور: إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم، فكف أيديهم عنكم.. في مقام: إذ هم قوم أن يبطشوا بكم ويعتدوا عليكم فحماكم الله منهم.. إن صورة و "حركة "بسط الأيدي وكفها أكثر حيوية من ذلك التعبير المعنوي الآخر.. والتعبير القرآني يتبع طريقة الصورة والحركة. لأن هذه الطريقة تطلق الشحنة الكاملة في التعبير؛ كما لو كان هذا التعبير يطلق للمرة الأولى؛ مصاحبا للواقعة الحسية التي يعبر عنها مبرزا لها في صورتها الحية المتحركة.. وتلك طريقة القرآن.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بعد قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به} [المائدة: 7] أعيد تذكيرهم بنعمة أخرى عظيمة على جميعهم إذ كانت فيها سلامتهم، تلك هي نعمة إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم لأنّها نعمة يحصل بها ما يحصل من النصر دون تجشّم مشاقّ الحرب ومتالفها. وافتتاح الاستئناف بالنّداء ليحصل إقبال السامعين على سماعه. ولفظ: {يا أيها الذين آمنوا} وما معه من ضمائر الجمع يؤذن بأنّ الحادثة تتعلّق بجماعة المؤمنين كلّهم. وقد أجمل النعمة ثُمّ بيّنها بقوله: {إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم}...
وبسط اليد مجاز في البطش قال تعالى: {ويبسطوا إليكم أيديَهم وألسنتهم بالسوء} [الممتحنة: 2] ويطلق على السلطة مجازاً أيضاً، كقولهم: يجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على كلّ من بُسطت يدُه في الأرض؛ وعلى الجُود، كما في قوله تعالى: {بل يَداه مبسوطتان} [المائدة: 64]. وهو حقيقة في محاولة الإمساك بشيء، كما في قوله تعالى حكاية عن ابن آدم {لَئِن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديَ إليك لأقتلك} [المائدة: 28]. وأمّا كفّ اليد فهو مجَاز عن الإعراض عن السوء خاصّة {وكفّ أيديَ النّاس عنكم} [الفتح: 20]. والأمر بالتقوى عقب ذلك لأنّها أظهر للشكر، فعطف الأمر بالتَّقوى بالواو للدلالة على أنّ التّقوى مقصودة لذاتها، وأنّها شكر لله بدلالة وقوع الأمر عقب التذكير بنعمة عظمى. وقوله: {وعلى الله فليتوكّل المؤمنون} أمر لهم بالاعتماد على الله دون غيره. وذلك التّوكل يعتمد امتثال الأوامر واجتناب المنهيات فناسب التّقوى. وكان من مظاهره تلك النّعمة الّتي ذُكّروا بها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا متصل بالأمر بالعدالة مع الأعداء كالعدل مع الأولياء، ففي هذا النص أمر بالتذكير بحال ضعفهم عندما كانوا يلتمسون العدالة، ليعتبروا بماضيهم، ويتخذوا منه عبرة لحاضرهم، فيتذكروا حال الضعف في حال القوة، ليعلموا نعمة الله تعالى عليهم ولكي يعدلوا مع غيرهم كما كانوا يلتمسون العدل إذ كانوا مظلومين يتخطفهم الناس، وينزل بهم البأس. فالآية تدعو إلى التذكير بنعمة الله ليشكروها، ولكيلا يشتطوا مع غيرهم، وبسط اليد معناه بالقوة والأخذ والسيطرة والصولة، وقد قال تعالى: {...ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء... (2)} (الممتحنة) فالبسط هنا بسط للصولة والقوة والسيطرة ومعنى النص الكريم: يا أيها الذين أذعنوا للحق واستمسكوا به، واستجابوا لأمر ربهم تذكروا نعمة الله التي أنعمها عليكم إذ هم قوم أن يمتدوا بيد الأذى ويبسطوها، فكفها عنكم وبدلكم من بعد الضعف قوة، ومن بعد الذلة عزة، ومن بعد أن كنتم تظلمون وترامون بالسوء صرتم يطلب الإنصاف منكم. وقد أكد سبحانه وتعالى أنه هو سبحانه الذي رد الأذى وتدبير الشر، فقال مكررا كلمة الأيدي {فكف أيديهم عنكم} وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم ومناط شدتهم، وهي الأيدي التي يكون بها البطش والصولة...
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وفي هذا طلب الله تعالى من عباده المؤمنين أن يتوكلوا عليه، ولا يتوكلوا على سواه، وقد صيغ الطلب في صيغة الخبر، للإشارة إلى أنه حال ملازمة للمؤمنين لا ينفصلون عنها، لأن من تقوى القلوب ألا يعتمدوا إلا على علام الغيوب فالتوكل على الله وحده في السراء والضراء، في الشدة وفي الضعف من لب عبادته سبحانه وتعالى...
وفي الجملة الكريمة: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} إشارات بيانية واضحة منها ذكر لفظ الجلالة فإنه يشير إلى عظمة من يعتمد عليه إذ يعتمد على منشئ الوجود ومسيره ومبدعه، وفيها لفظ {على} فإنه يشير إلى علو من يعتمد على الله وسموه، وعدم ذلته لمخلوق، ومنها تقديم الجار وما بعده فإنه يشير إلى الاقتصار في التوكل على الله، فلا يتوكل على غيره، لأن ذلك لا يخلو من شرك، ولأن التوكل من العبادة، والعبادة لله وحده، ومنها لفظ الفاء التي ربطت الكلام ولا تخلو من معنى السببية، فإنها تدل على أن من ثمرات التقوى التوكل على الله تعالى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويبقى أنَّ هذه الآية تشكِّل توجيهاً تربوياً للمؤمنين في نظرتهم إلى المواقع الّتي يتخلصون بها من كيد الأعداء، وذلك بتنبيههم كي لا ينظروا إليها كحالة طارئة مرتبطة بظروفها الموضوعيّة، بل أن ينظروا إليها كنعمة من نعم الله عليهم، حيث يحيط رسوله والمؤمنين معه بالرعاية واللطف والعناية، لينقذهم مما هم فيه من الأزمات والأخطاء، إذ لا ريب أنَّ المسلمين قد مرّوا بأحداث وتحديات دفعها الله عنهم بما رزقهم من قوّة وسددهم به من رأي لا سيما بوجود قائدهم ومرشدهم وهاديهم النبي محمَّد (ص). ويختم الله الآية بالدعوة إلى التقوى الّتي ترتكز على الشعور بإحاطته الإنسان من جميع جوانبه برعايته ولطفه، والدعوة إلى التوكل عليه، لأنَّه المهيمن على كل شيء والقادر على كل أمر، فمن توكّل عليه فهو حسبه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وواضح أنّ التوكل على الله ليس معناه التخلي عن المسؤوليات أو الاستسلام لحوادث الزمان، بل يعني أنّ الإِنسان حين يستخدم طاقاته والإِمكانيات المتوفرة لديه، يجب عليه أن ينتبه في نفس الوقت إلى أنّ هذه الطاقات والإِمكانيات ليست من عنده بل أن مصدرها ومنشأها هو الله تعالى، وإِذا حصل هذا التوجه فإن من شأنه أن يقضي على دافع الغرور والأنانية عند الإِنسان أوّلا، ومن ثمّ لا يدع إلى نفسه طريقاً للخوف والقلق واليأس حيال الأحداث والمشاكل مهما كبرت وعظمت، لأنّه يعلم بأنّ سنده وحاميه هو الله الذي فاقت قدرته كل القدرات.