إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ هَمَّ قَوۡمٌ أَن يَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ فَكَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (11)

{ يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } تذكيرٌ لنعمة الإنجاءِ من الشرِّ إثرَ تذكيرِ نعمةِ إيصالِ الخير الذي هو نعمةُ الإسلام وما يتبَعُها من الميثاق ، وعليكم متعلِّقٌ بنعمة الله ، أو بمحذوفٍ وقع حالاً منها وقوله تعالى : { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } على الأول ظرفٌ لنفس النعمة ، وعلى الثاني لِما تعلَّق به عليكم ، ولا سبيلَ إلى كونه ظرفاً لاذْكُروا لتنافي زمانَيْهما ، أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم ، أو اذكروا نعمته كائنةً عليكم في وقت همِّهم { أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } أي بأن يبطِشوا بكم بالقتل والإهلاك ، يقال : بسَطَ إليه يدَه ، وبسط إليه لسانَه إذا شتمه ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان رجوعِ ضررِ البسطِ وغائلتِه إليهم ، حملاً لهم من أول الأمرِ على الاعتداد بنعمةِ دفعِه ، كما أن تقديم ( لكم ) في قوله عز وجل : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم ما في الأرض } [ البقرة ، الآية 29 ] للمبادرة إلى بيان كونِ المخلوق من منافعِهم تعجيلاً للمَسَرّة { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } عطفٌ على هم ، وهو النعمة التي أُريد تذكيرُها ، وذكراً لهم للإيذان بوقوعها عند مزيد الحاجةِ إليها ، والفاءُ للتعقيب المفيدِ لتمام النعمة وكمالِها ، وإظهارُ ( أيديهم ) في موقع الإضمار لزيادة التقرير ، أي منَعَ أيديَهم أن تُمدَّ إليكم عقيب همِّهم بذلك ، لا أنه كفها عنكم بعد ما مدُّوها إليكم ، وفيه من الدلالة على كمالِ النعمة من حيثُ إنها لم تكن مشوبةً بضَرَر الخوف والانزعاجِ الذي قلما يعْرَى عنه الكفُّ بعد المد ما لا يخفي مكانُه ، وذلك ( ما رُوي أن المشركين لما رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه بعُسْفانَ{[161]} في غزوة ذي أنمار ، وهي غزوةُ ذاتِ الرَّقاع{[162]} وهي السابعةُ من مغازيه عليه الصلاة والسلام ، قاموا إلى الظهر معاً فلما صلَّوْا ندِمَ المشركون ألا كانوا قد أكبُّوا عليهم ، فقالوا إن لهم بعدها صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائِهم يعنون صلاةَ العصر ، وهمُّوا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها ، فرد الله تعالى كيدَهم بأن أنزلَ صلاةَ الخوف ) ، وقيل : ( هو ما رُوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قُرَيْظَةَ ومعه الشيخانِ وعليٌّ رضي الله تعالى عنهم ، يستقرِضُهم لدِيَةِ مسلمَيْن قتلهما عمْرُو بنُ أميةَ الضَّمُريُّ خطأً يحسَبُهما مشرِكَيْن ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، اجلِسْ حتى نُطعِمَك ونعطِيك ما سألت ، فأجلسوه في صُفَّةٍ وهمّوا بالفتك به ، وعمَد عمرُو بنُ جِحاش إلى رَحا عظيمةٍ يطرَحُها عليه فأمسك الله تعالى يده ، ونزل جبريلُ عليه السلام فأخبره ، فخرج عليه الصلاة والسلام ) . وقيل : ( هو ما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام ، نزل منزِلاً وتفرّق أصحابُه في العِضاة يستظلون بها ، فعلّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيفَه بشجرة ، فجاء أعرابيٌّ فأخذه وسله فقال : مَنْ يمنعُك منيِّ ، فقال صلى الله عليه وسلم : «الله تعالى » فأسقطه جبريلُ عليه السلام من يده ، فأخذه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال : «من يمنعك مني » فقال : لا أحدَ ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله ) { واتقوا الله } عطفٌ على ( اذكُروا ) أي اتقوه في رعاية حقوقِ نعمتِه ولا تُخِلُّوا بشكرِها أو في كلِّ ما تأتون وما تذرون ، فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً { وَعلَى الله } أي عليه تعالى خاصةً دون غيرِه استقلالاً واشتركاً { فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } فإنه يكفيهم في إيصال كلِّ خيرٍ ودفع كل شر ، والجملة تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبله ، وإيثارُ صيغة أمْرِ الغائبِ وإسنادُها إلى المؤمنين لإيجابِ التوكل على المخاطَبين بالطريق البرهاني ، وللإيذان بأن ما وُصفوا به عند الخطابِ من وصف الإيمان داعٍ إلى ما أُمروا به من التوكل والتقوى ، وازعٌ عن الإخلال بهما ، وإظهارُ الاسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحُكْمِ وتقوية استقلالِ الجملة التذييلية .


[161]:عُسْفان: على مرحلتين من مكة على طريق المدينة، وقد غزا النبي فيها بني لحيان (معجم البلدان).
[162]:وهي أيضا غزوة محارب، وغزوة بني ثعلبة، وغزوة صلاة الخوف وغزوة الأعاجيب. (السيرة النبوية لابن هشام، ج 3 ص 204، حاشية: 2).