معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

قوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } . أي وقت الحج أشهر معلومات وهي : شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة ، إلى طلوع الفجر من يوم النحر ، ويروى عن ابن عمر : شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة . وكل واحد من اللفظين صحيح غير مختلف ، فمن قال عشر : عبر به عن الليالي ومن قال تسع عبر به عن الأيام ، فإن آخر أيامها يوم عرفة ، وهو يوم التاسع وإنما قال أشهر : بلفظ الجمع وهي شهران وبعض الثالث ، لأنها وقت ، والعرب تسمي الوقت تاماً بقليله وكثيره . فتقول أتيتك يوم الخميس . وإنما أتاه في ساعة منه ، ويقولون : زرتك العام ، وإنما زاره في بعضه ، وقيل : الاثنان فما فوقهما جماعة . لأن معنى الجمع ضم الشيء إلى شيء ، فإذا جاز أن يسمى الاثنان جماعة جاز أن يسمى الاثنان وبعض الثالث جماعة ، وقد ذكر الله تعالى الاثنين بلفظ الجمع فقال ( فقد صغت قلوبكما ) أي قلباكما ، وقال عروة بن الزبير وغيره : أراد بالأشهر شوالاً وذا القعدة وذا الحجة ، كمالا لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة . يجب عليه فعلها مثل : الرمي ، والذبح ، والحلق ، وطواف الزيارة ، والبيتوتة بمنى ، فكانت في حكم الحج .

قوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج } . أي فمن أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتلبية . وفيه دليل على أن من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج ، وهو قول ابن عباس وجابر وبه قال عطاء وطاووس ومجاهد . وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي . وقال سعيد : ينعقد إحرامه بالعمرة ، لأن الله تعالى خص هذه الأشهر بفرض الحج فيها ، فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة ، كما أنه علق الصلوات بالمواقيت ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لا ينعقد إحرامه عن الفرض . وذهب جماعة إلى أنه ينعقد إحرامه بالحج . وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة رضي الله عنه ، وأما العمرة : فجميع أيام السنة لها إلا أن يكون متلبساً بالحج ، وروي عن أنس أنه كان بمكة فكان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر .

قوله تعالى : { فلا رفث ولا فسوق } . قرأ ابن كثير وأهل البصرة ، ( فلا رفث ولا فسوق ) بالرفع والتنوين فيهما ، وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين كقوله تعالى ( ولا جدال في الحج ) وقرأ أبو جعفر كلها بالرفع والتنوين ، واختلفوا في الرفث : قال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر : " هو الجماع " وهو قول الحسن ومجاهد وعمرو بن دينار وقتادة وعكرمة والربيع وإبراهيم النخعي ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الرفث غشيان النساء والتقبيل والغمز ، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام قال حصين بن قيس أخذ ابن عباس رضي الله عنه بذنب بعيره فجعل يلويه وهو يحدو ويقول :

وهن يمشين بنا هميسا *** إن تصدق الطير ننك لميسا

فقلت له : أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما قيل عند النساء ، قال طاووس : الرفث التعريض للنساء بالجماع وذكره بين أيديهن ، وقال عطاء : الرفث قول الرجل للمرأة في حال الإحرام إذا حللت أصبتك ، وقيل : الرفث الفحش والقول القبيح ، أما الفسوق فقد قال ابن عباس : هو المعاصي كلها ، وهو قول طاووس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والزهري والربيع والقرظي ، وقال ابن عمر : هو ما نهي عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد وتقليم الأظافر ، وأخذ الأشعار ، وما أشبههما وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد ، هو السباب بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وقال الضحاك هو التنابز بالألقاب بدليل قوله تعالى ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا آدم أخبرنا شعبة ، أخبرنا سيار أبو الحكم قال : سمعت أبا حازم يقول : سمعت أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " .

قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } . قال ابن مسعود وابن عباس : الجدال أي يماري صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه ، وهو قول عمرو بن دينار ، وسعيد بن جبير وعكرمة ، والزهري ، وعطاء وقتادة ، وقال القاسم بن محمد : هو أن يقول بعضهم الحج اليوم ، ويقول بعضهم الحج غداً ، وقال القرظي : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجنا أتم من حجكم ، وقال هؤلاء : حجنا أتم من حجكم . وقال مقاتل : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في حجة الوداع وقد أحرموا بالحج : " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " قالوا كيف نجعله عمرة وقد سمينا الحج ؟ " فهذا جدالهم ، وقال ابن زيد : كانوا يقفون مواقف مختلفة كلهم يزعم أن موقفه موقف إبراهيم يتجادلون فيه ، وقيل : هو ما كان عليه أهل الجاهلية ، كان بعضهم يقف بعرفة وبعضهم بالمزدلفة ، وكان بعضهم يحج في ذي القعدة ، وكان بعضهم يحج في ذي الحجة ، فكل يقول : ما فعلته فهو الصواب ، فقال جل ذكره ( ولا جدال في الحج ) أي استقر أمر الحج على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اختلاف فيه من بعد ، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " قال مجاهد معناه : ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسيء . قال أهل المعاني : ظاهر الآية نفي ، ومعناها نهى ، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، كقوله تعالى ( لا ريب فيه ) أي لا ترتابوا .

قوله تعالى : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } . أي لا يخفى عليه فيجازيكم به .

قوله تعالى : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } . نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون : نحنمتوكلون ، ويقولون : نحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا ؟ فإذا قدموا مكة سألوا الناس ، وربما يفضي بهم الحال إلى النهب والغصب ، فقال الله جل ذكره : ( وتزودوا ) أي ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم ، قال أهل التفسير : الكعك والزبيب والسويق والتمر ونحوها ( فإن خير الزاد التقوى ) من السؤال والنهب ( واتقون يا أولي الألباب ) يا ذوي العقول .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }

يخبر تعالى أن { الْحَجَّ } واقع في { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين ، مشهورات ، بحيث لا تحتاج إلى تخصيص ، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره ، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس .

وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم ، التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم .

والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا .

{ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي : أحرم به ، لأن الشروع فيه يصيره فرضا ، ولو كان نفلا .

واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه ، على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره ، قلت لو قيل : إن فيها دلالة لقول الجمهور ، بصحة الإحرام [ بالحج ] قبل أشهره لكان قريبا ، فإن قوله : { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها ، وإلا لم يقيده .

وقوله : { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أي : يجب أن تعظموا الإحرام بالحج ، وخصوصا الواقع في أشهره ، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه ، من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ، خصوصا عند النساء بحضرتهن .

والفسوق وهو : جميع المعاصي ، ومنها محظورات الإحرام .

والجدال وهو : المماراة والمنازعة والمخاصمة ، لكونها تثير الشر ، وتوقع العداوة .

والمقصود من الحج ، الذل والانكسار لله ، والتقرب إليه بما أمكن من القربات ، والتنزه عن مقارفة السيئات ، فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور ، ليس له جزاء إلا الجنة ، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان ، فإنها{[132]}  يتغلظ المنع عنها في الحج .

واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } أتى ب " من " لتنصيص على العموم ، فكل خير وقربة وعبادة ، داخل في ذلك ، أي : فإن الله به عليم ، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير ، وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة ، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها ، من صلاة ، وصيام ، وصدقة ، وطواف ، وإحسان قولي وفعلي .

ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك ، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين ، والكف عن أموالهم ، سؤالا واستشرافا ، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين ، وزيادة قربة لرب العالمين ، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع .

وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه ، في دنياه ، وأخراه ، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار ، وهو الموصل لأكمل لذة ، وأجل نعيم دائم أبدا ، ومن ترك هذا الزاد ، فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر ، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين . فهذا مدح للتقوى .

ثم أمر بها أولي الألباب فقال : { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي : يا أهل العقول الرزينة ، اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول ، وتركها دليل على الجهل ، وفساد الرأي .


[132]:- في ب: فإنه.