" الحَجُّ " مبتدأ ، و " أشْهُرٌ " خبره ، والمبتدأ والخبر لا بدّ أن يصدقا على ذاتٍ واحدٍ ، و " الحَجُّ " فعلٌ من الإفعال ، و " أشْهُرٌ " زمانٌ ، فيهما غيران ، فلا بدَّ من تأويل ، وفيه ثلاثة احتمالات :
أحدها : أنَّه على حذف مضافٍ من الأوَّل ، تقديره : أشهر الحج أشهر معلوماتٌ . أي : لا حجَّ إلاَّ في هذه الأشهر ولا يجوز في غيرها ، كما كان يفعله أهل الجاهيلَّة في غيرها ، كقوله البرد شهران ، أي : وقت البرد شهران .
الثاني : الحذف من الثاني تقديره : الحجّ حجّ أشهرٍ ، فيكون حذف من كل واحدٍ ما أثبت نظيره .
الثالث : أن تجعل الحدث نفس الزَّمان مبالغةً ، ووجه المجاز كونه حالاًّ فيه ، فلما اتُّسع في الظَّرف جعل نفس الحدث ، ونظيره :
{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وإذا كان ظرف الزمان نكرةً مخبراً به عن حدثٍ ، جاز فيه الرفع والنَّصب مطلقاً ، أي : سواءً كان الحدث مستوعباً للظَّرف ، أم لا ، هذا مذهب البصريين .
وأمَّا الكوفيُّون فقالوا : إن كان الحدث مستوعباً ، فالرَّفع فقط نحو : " الصَّوْمُ يومٌ " ، وإن لم يكن مستوعباً ، فهشامٌ يلتزم رفعه أيضاً نحو : " مِيَعَادُكَ يَوْمٌ " والفرَّاء يجيز نصبه مثل البصريّين ، وقد نقل عنه أنَّه منع نصب " أشْهُر " ، يعني : في الآية الكريمة ، لأنها نكرةٌ ، فيكون له في المسألة قولان ، وهذه مسألةٌ طويلةٌ .
قال ابن عطيَّة : " ومنْ قَدَّر الكَلاَم : الحج في أشهر ، فيلزَمُهُ مع سقوطِ حَرْفِ الجَرّ نصبُ الأَشْهُر ، ولم يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ " قال أبَو حيان رحمه الله : ولا يَلْزَمُ ذلك ؛ لأنَّ الرَّفْع على جِهة الاتِّساع ، وإن كان أصلُهُ الجرَّ ب " في " .
أجمع المفسِّرون على أنَّ شوَّالاً ، وذا القعدة ، من أشهر الحج ، واختلفوا فى ذي الحَّجة فقال عروة بن الزُّبير : إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك ، وداود .
وقال أبو حنيفة : العشر الأول من ذي الحجَّة من أشهر الحجِّ ؛ وهو قول ابن عبَّاسٍ ، وابن عمر ، والنخعي ، والشعبي ، ومجاهد ، والحسن{[2933]} .
وقال الشافعيُّ – رحمه الله – التسعة الأول ، مع ليلة النَّحر من أشهر الحج{[2934]} .
حجَّة الأوَّل : أن الأشهر جمعٌ ، وأقلُّه ثلاثةٌ{[2935]} ، وأيضاً فإنَّ أيَّام النَّحر يفعل فيها بعض ما يتَّصل بالحج : من رمي الجمار ، والذَّبح ، والحلق ، وطواف الزِّيارة ، والبيتوتة يعني ليالي منى ، وإذا حاضت المرأة ، فقد تؤخِّر الطَّواف الذي لا بدَّ منه إلى انقضاء أيَّامٍ بعد العشرة . ومذهب عروة{[2936]} تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر .
والجواب أنَّ لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ؛ بدليل قوله :
{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] . وقال – عليه السَّلام : " الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ{[2937]} " وأيضاً فإنَّه نزَّل بعض الشَّهر منزلة كلِّه ، فإنّ العرب تسمِّي الوقت تامّاً بقليله ، وكثيره ، يقال زرتك سنة كذا ، وأتيتك يوم الخميس ، وإنما زاره ، وأتاه في بعضه ، وأيضاً فإنَّ الجمع ضمُّ شيءٍ إلى شيءٍ ، فإذا جاز أن يسمَّى الاثنان جماعةً ، جاز أن يسمَّى الاثنان ، وبعض الثَّالث جماعةً ، وأمَّا رمي الجمار ، فإنما يفعله الإنسان ، وقد حلّ بالحلق والطَّواف ، والنَّحر ، فكأنه ليس من أعمال الحجِّ ، والحائضُ إذا طافت بعده ، فكأنه في حكم القضاء ، لا في حكم الأداء .
حجَّة الثاني : أنَّ المفسرين قالوا : أنّ يوم الحجِّ الأكبر ، هو يوم النَّحر ، لأنَّ معظم أفعال الحج يفعل فيه : من طواف الزيارة ؛ الذي هو ركنٌ في الحج ، والرَّمي ، والذَّبح ، والحلق ، فدخوله في أيام الحج أولى .
حجَّة الشافعي – رحمه الله تعالى - :أنَّ الحجَّ يفوت بطلوع الفجر يوم النَّحر ، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها .
قال بعض العلماء : لا يجوز أن يُهِلَّ بالحج قيل أشهر الحج ، وهو قول ابن عباس ، وجابر ، وبه قال عطاء ، وطاوس ، ومجاهد{[2938]} ، وإليه ذهب الأوزاعي ، والشافعيُّ ، وأحمد فى رواية ، وإسحاقٌ .
وقال مالكٌ ، والثوريُّ وأبو حنيفة – رضي الله عنه – يجوز .
حجَّة الأول : قوله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } .
جمع الأشهر جمع تقليلٍ ، على سبيل التَّنكير ؛ لا يتناول الكلَّ ، وأكثر الجمع إلى عشرةٍ ، وأدناه إلى ثلاثةٍ ، وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى ، واتفق المفسِّرون على أنّ تلك الثَّلاثة ، شوَّال وذو القعدة ، وبعض ذي الحجَّة .
وإذا تقرَّر هذا ، وجب ألاَّ يجوز الإحرام بالحجِّ قبل الوقت ؛ لأنَّ الإحرام بالعبادة قبل وقت أدائها لا يصحّ ؛ كالصَّلاة ، وخطبة الجمعة قبل الوقت .
حجَّة الثاني : قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [ البقرة : 189 ] ، فجعل الأهلَّة كلَّها مواقيت الحجِّ ، وليس مواقيتاً للأداء ، فثبت أنها مواقيت لصحَّة الإحرام ، ويجوز أن يسمَّى الإحرام حجّاً ؛ مجازاً ، كما سمّيَ الوقت حجّاً في قوله : " الحَجُّ أَشْهُرٌ " بل هنا أولى ؛ لأن الإحرام أقرب إلى الحج من الوقت . وقد اشتهر بين أكابر الصّحابة أنَّهم قالوا : إتمام الحجِّ والعمرة أن يحرم بهما من دويرة أهله ، ومن يكن منزله بعيداً يجب أن يكون في المشرق أو في المغرب ، فلا بدَّ وأن يحرم بالحج قبل أشهرٍ ، وأيضاً فإنَّ الإحرام التزامٌ بالحجِّ ، فجاز تقديمه على الوقت ؛ كالنَّذر .
وأجاب الأوَّلون عن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ } بأنَّ قوله " الحجُّ أَشْهُرٌ " أخصُّ منها ، وفرَّقوا بين النَّذر ، والإحرام : بأنَّ الوقت معتبرٌ للأداء ، ولا اتِّصال للنذر بالأداء ، بدليل أنّ الأداء لا يتصور إلاَّ بعقد مبتدأ ، والإحرام مع كونه التزاماً ، فهو شروعٌ في الأداء ، وعقدٌ عليه ؛ فلا جرم افتقر إلى الوقت .
قوله : " مَعْلُومَاتٌ " أي : معلومات عندهم ، مقررة لبيان الشرع ، بخلاف مرادهم بها . أو معلوماتٌ ببيان الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام وأنها مؤقتةٌ في أوقات معينة ، لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها ، كما فعلوه في النَّسيء .
قوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } .
يجوز في " مَنْ " أن تكون شرطيةً ، وأن تكون موصولةً ، كما تقدَّم في نظائرها ، و " فِيهنَّ " متعلِّقٌ ب " فَرَضَ " . والضَّمير في " فِيهِنَّ " يعود على " أَشْهُر " وجيء به كضمير الإناث ، لما تقدم من أنَّ جمع غير العاقل في القلَّة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح ؛ فلذلك جاء " فِيهِنَّ " دون " فِيهَا " ، وهذا بخلاف قوله :
{ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] لأنه هناك جمع كثرة .
وفرض في اللُّغة : ألزم وأوجب ، يقال فرضت عليك كذا ، أي : أوجبته ، وأصل الفرض في اللغة : التَأثير والحزُّ والقطع .
قال ابن الأعرابي{[2939]} – رحمه الله تعالى - : الفرض الحزُّ في القدح ، [ وفي الوتد ، وفي غيره ] ، وفرضة القوس : الحزُّ الذي فيه الوتر ، وفرضه الوتد الحزُّ الذي فيه ، ومنه فرض الصلاة ؛ لأنها لازمةٌ للعبد كلزوم الحزّ للقدح ، ففرض ها هنا – بمعنى : أوجب ، وقد جاء في القرآن " فَرَضَ " بمعنى أبان ؛ قال تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] بالتخفيف ، وقوله : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] .
وهو راجع إلى معنى القطع ؛ لأنَّ من قطع شيئاً ، فقد أبانه من غيره ، والله تعالى إذا فرض شيئاً ، أبانه عن غيره ، ففرض بمعنى : أوجب : وفرض : بمعنى أبان ؛ كلاهما راجعٌ إلى أصل واحدٍ ؛ ومن ها هنا فرَّق بعضهم بين الفرض والواجب{[2940]} ، فقالوا :
الفرضُ ما ثبت بدليل قطعيّ ؛ لأن أصله القطع ، وسمَّاه بالركن .
والواجب ما ثبت بدليل ظنِّي ، وجعل الفرض لا يسامح به ، عمداً ولا سهواً ، وليس له جابر ، والواجب ما يجبر ويسامح فيه العباد لسهوة ، قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ " فَرَضَ " في القرآن بإزاء خمسة معان :
الأول : فرض بمعنى أوجب ، كهذه الآية الكريمة ، ومثله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] أي أوجبتم .
الثاني : فرض بمعنى بيَّن ، قال تعالى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] .
ومثله { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] .
الثالث : فرض : بمعنى أحلَّ ؛ قال تعالى : { مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } [ الأحزاب : 38 ] أي أحلَّ .
الرابع : فرض : بمعنى أنزل ؛ قال تعالى : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ }
الخامس : الفرض : الفريضة في قسمة المواريث ؛ كما قال تبارك وتعالى : { فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ } [ النساء : 11 ] .
قوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } يدلُّ على أنّه لا بدَّ للمحرم من فعل يفعله ؛ يصير به محرماً وحاجاً ، واختلفوا في ذلك الفعل .
فقال الشَّافعيُّ ، وأحمد : ينعقد الإحرام بمجرد النِّية ، من غير حاجةٍ إلى التَّلبية .
وقال أبو حنيفة : لا يصحُّ الشُّروع في الإحرام بمجرد النية ؛ حتى يضمَّ إليه التَّلبية أو سوق الهدي .
وقال القفَّال في تفسيره{[2941]} : ويروى عن جماعةٍ من العلماء ؛ أنّ من أشعر هديه أو قلَّده ، فقد أحرم ، وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال : إذا قلَّد أو أشعر ، فقد أحرم{[2942]} ، وعن ابن عباسٍ : إذا قلَّد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحجَّ ، فقد أحرم{[2943]} .
قوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } إمَّا جواب الشَّرط ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حسب القولين المتقدِّمين .
وقرأ{[2944]} أبو عمرٍ وابن كثير : بتنوين " رَفَثَ " و " فُسُوقَ " ، ورفعهما ، وفتح " جِدَالَ " .
وأبو جعفر – ويروى عن عاصم – برفع الثلاثة والتنوين .
فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان :
أظهرهما : أنَّ " لا " ملغاةٌ ، وما بعدها رفع بالابتداء ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة ؛ تقدُّم النفي عليها ، و " في الحجّ " خبر المبتدأ الثالث ، وحذف خبر الأول ، والثاني ؛ لدلالة خبر الثالث عليهما ، أو يكون " في الحج " خبر الأول ، وحُذِفَ خبرُ الثاني ، والثالث ؛ لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما ، ويجوزُ أنْ يكونَ " في الحج " خبرَ الثلاثة ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ " في الحجِّ " خبرَ الثاني ، وحُذِفَ خبرُ الأولِ ، والثالث ؛ لقبح مثل هذا التركيب ، ولتأديته إلى الفصل .
والثاني : أن تكون " لاَ " عاملةً عمل ليس ، ولعملها عمل ليس شروطٌ : تنكير الاسم ، وألاَّ يتقدَّم الخبر ، ولا ينتقض النفيُ ؛ فيكونُ " رَفَثَ " اسمَها ، وما بعده عطْفٌ عليه ، و " في الحجِّ " الخبرُ على حسب ما تقدَّم من التقادير فيما قبله .
وخرَّجه ابن عطية بهذا الوجه ، وهو ضعيفٌ ؛ لأنَّ إعمال " لا " عمل ليس لم يقم عليه دليل صريحٌ ، وإنما أنشدوا أشياء محتملةً ، أنشد سيبويه : [ مجزوء الكامل ]
987 – مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا *** فَأَنَا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَرَاحُ{[2945]}
988 – تَعَزَّ فَلاَ شَيْءٌ عَلَى الأَرْضِ باقيَا *** وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا{[2946]}
989 – أَنْكَرْتُها بَعْدَ أَعْوَامِ مَضَيْنَ لَهَا *** لاَ الدَّارُ دَاراً وَلاَ الجِيرَانُ جَيرَانَا{[2947]}
وأنشد ابن الشَّجري : [ الطويل ]
990 – وحَلَّتْ سَوادَ القَلْبِ لاَ أَنَا بِاغِياً *** سِوَاهَا وَلاَ فِي حُبِّها مُتَرَاخِيَا{[2948]}
وللكلام على الأبيات موضعٌ غير هذا .
وأمَّا من نصب الثلاثة منونةً فتخريجها على أن تكون منصوبةً على المصدر بأفعال مقدرةٍ من لفظها ، تقديره : فلا يَرْفُثُ رَفَثاً ، ولا يَفُسُقُ فُسُوقاً ولا يُجَادِلُ جِدَالاً ، وحينئذٍ فلا عمل ل " لا " فيما بعدها ، وإنَّما هي نافيةٌ للجمل المقدرة ، و " في الحجِّ " متعِّلقٌ بأيِّ المصادر الثَّلاثة شئت ، على أنَّ المسألة من التنازع ، ويكون هذا دليلاً على تنازع أكثر من عاملين ، وقد يمكن أن يقال : إنَّ " لا " هذه هي التي للتَّبرئة على مذهب من يرى أنَّ اسمها معربٌ منصوب ، وإنما حذف تنوينه ؛ تخفيفاً ، فرجع الأصل في هذه القراءة الشاذة كما رجع في قوله : [ الوافر ]
991 – أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً *** . . . {[2949]}
وأمَّا قراءة الفتح فى الثَّلاثة فهي " لا " التي للتَّبرئة . وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناءٍ ؟ فيه قولان ، الجمهور على أنَّها فتحة بناءٍ ، وإذا بني معها ، فهل المجموع منها ، ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء ، وإن كانت عاملة فى الاسم النصب على الموضع وما بعدها ، ولا خبر لها ؟ أو ليس المجموع فى موضع مبتدأ ، بل " لاَ " عاملةٌ في الاسم النَّصب على الموضع ، وما بعدها خبرٌ ل " لاَ " ؛ لأنَّها أجريت مجرى " أنَّ " فى نصب الاسم ، ورفع الخبر ؟ قولان :
الأول : قول سيبويه{[2950]} .
والثاني : قول الأخفش . وعلى هذين المذهبين ، يترتَّب الخلاف فى قوله : " فِي الحَجِّ " ، فعلى مذهب سيبويه : يكون فى موضع خبر المبتدأ ، وعلى رأي الأخفش : يكون فى موضع خبر " لا " ، وقد تقدَّم شيء من هذا أول الكتاب .
وأمَّا من رفع الأولين ، وفتح الثالث : فالرفع على ما تقدَّم ، وكذلك الفتح ، إلا أنه ينبغي أن ينبَّه على شيءٍ : وهو أنَّا قلنا بمذهب سيبويه من كون " لا " وما بني معها في موضع المبتدأ ، يكون " في الحج " خبراً عن الجميع ؛ إذ ليس فيه إلاَّ عطف مبتدأ على مبتدأ ، وأمّا على مذهب الأخفش ، فلا يجوز أن يكون " في الحجِّ " إلا خبراً للمبتدأين ، أو خبراً ل " لاَ " . لا يجوز أن يكون خبراً للكلِّ ؛ لاختلاف الطالب ؛ لأنَّ المبتدأ يطلبه خبراً له ، ولا يطلبه خبراً لها .
وإنَّما قرئ كذلك ، قال الزمخشري{[2951]} : " لأنَّهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النَّهي ، كأنه قيلَ : فلا يكوننَّ رَفَثٌ ولا فُسُوقٌ ، والثالثُ على معنى الإخبارِ بانتفاء الجِدالِ ، كأنه قِيلَ : ولا شكَّ ولا خلاف في الحجِّ " ، واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال ، بقوله عليه السلام : " مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ{[2952]} . . . " وأنه لم يذكر الجدال .
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ سبقه إليه صاحب هذه القراءة ؛ إلاَّ أنه أفصح عن مراده ، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها - : الرفع بمعنى فَلاَ يَكُونُ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ ؛ أي شيء يخرج من الحجِّ ، ثم ابتدأ النفي فقال : " ولا جدال " ، فأبوا عمرو لم يجعل النفيين الأوَّلين نهياً ، بل تركهما على النَّفي الحقيقي .
فمن ثم ، كان في قوله هذا نظيرٌ ؛ فإنَّ جملة النفي بلا التبرئة ، قد يراد بها النهي أيضاً ، وقيل ذلك فى قوله تعالى :
[ البقرة : 2 ] . والذي يظهر فى الجواب عن ذلك ، ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال : " وقيل : الحُجَّةُ لِمَنْ رَفَعَهُمَا أنَّ النفيَ فيهما ليس بعامٍّ ؛ إذ قد يقعُ الرفَثُ ، والفُسُوقُ فى الحَجِّ من بعض الناسِ ، بخِلاَفِ نفي الجِدَالِ في أَمْرِ الحجِّ ؛ فإنه عامٌّ ؛ لاسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِهِ " .
قال شهاب الدِّين . وهذا يتمشَّى على عُرف النَّحويين ، فإنهم يقولون : " لا " العاملة عمل " لَيْسَ " لنفي الوحدة ، والعاملة عمل " إنَّ " لنفي الجنس ، قالوا : ولذلك يقال : لا رجل فيها ، بل رجلان ، أو رجالٌ ؛ إذا رفعت ، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها .
وتوسَّط بعضهم فقال : التي للتبرئة نصٌّ في العموم ، وتلك ليس نصًّا .
والظاهر أنَّ النكرة في سياق النفي مطلقاً للعموم ، وقد تقدَّم معنى الرَّفث فى قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر : هو الجماع{[2953]} ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ، وعكرمة ، والنخعي ، والربيع .
وروي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : الرَّفث : غشيان النساء ، والتَّقبيل ، والغمز ، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام{[2954]} .
وقال طاوسٌ{[2955]} : هو التَّعريض للنساء بالجماع ، وذكره بين أيديهنَّ .
وقال عطاءٌ : الرَّفث : هو قول الرجل للمرأة فى حال الإحرام : إذا حللت ، أَصَبْتُكِ{[2956]} .
وقيل الرَّفث : الفحش ، والفسق{[2957]} وقد تقدم في قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } [ البقرة : 26 ] .
وقرأ{[2958]} عبد الله " الرَّفُوث " وهو مصدر بمعنى الرَّفث .
وقوله : " فَلاَ رَفثَ " وما في حيِّزه فى محلِّ جزمٍ ، إن كانت " مَنْ " شرطيةً ، ورفع ، إن كانت موصولةً ، وعلى كلا التقديرين ، فلا بدَّ من رابطٍ يرجع إلى " مَنْ " ؛ لأنها إن كانت شرطيةً ، فقد تقدَّم أنه لا بدَّ من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كانت موصولة ، فهي مبتدأ والجملة خبرها ، ولا رابط فى اللَّفظ ، فلا بدَّ من تقديره ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن تقديره : ولا جدال منه ، ويكون " منه " صفَّة ل " جِدَال " ، فيتعلَّق بمحذوف ، فيصير نظيره قولهم : " السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ " تقديره : منوان منه .
والثاني : أن يقدَّر بعد " الحج " تقديره : ولا جدال في الحجِّ منه ، أو : له . ويكون هذا الجارُّ في محلِّ نصب على الحال من " الحج " .
وللكوفيِّين في هذا تأويل آخر : وهو أنَّ الألف واللام نابت مناب الضمير ، والأصل : في حجِّه ، كقوله : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ }
ثم قال : { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات :40-41 ] أي : مأواه .
وكرَّر الحجَّ ؛ وضعاً للظاهر موضع المضمر تفخيماً ؛ كقوله : [ الخفيف ]
992 – لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ *** . . . {[2959]}
وكأنَّ نظم الكلام يقتضي : " فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحجَّ فَلاَ رَفَث فيه " ، وحسَّن ذلك في الآية الكريمة الفصل بخلاف البيت .
والجدال مصدر " جَادَل " . والجدال : أشدُّ الخصام ، مشتقٌّ من الجدالة ، وهي الأرض ؛ كأن كلَّ واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة .
993 – قَدْ أَرْكَبُ الآلَةَ بَعْدَ الآلهْ *** واتْرُكُ العَاجِزَ بالْجَدَالَهْ{[2960]}
ومنه " الأَجْدَلُ " للصَّقر ؛ لشدَّته .
994 - . . . *** يَهْوِي مُحَارِبُهَا هُوِيَّ الأجْدَلِ
والجدل : فَتْلُ الحبل ، ومنه زمامٌ مجدولٌ ، أي : محكم الفتل .
قد تقدَّم أنّ الفسق : هو الخروج عن الطَّاعة{[2961]} ، واختلف المفسرون فيه ، فحمله أكثر المحقِّقين على كلِّ المعاصي ، وهذا قول ابن عباس – رضي الله عنهما - ، وطاوس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والزهري ، والربيع ، والقرظي ، قالوا : لأنَّ اللفظ صالحٌ للكلِّ ، والنَّهي عن الشَّيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه ؛ ويؤكده قوله تعالى { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] ، وقوله :
{ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } [ الحجرات : 7 ] .
وذهب بعضهم إلى أنَّ المراد منه بعض أنواعه ، ثم ذكروا وجوهاً .
أحدها : قال الضحّاك{[2962]} : المراد التنابز بالألقاب ؛ لقوله تعالى :
{ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ } [ الحجرات : 11 ] .
والثاني : قال عطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي{[2963]} : المراد السّباب ، لقوله – عليه السلام - " سِبَابُ المؤْمِن فُسُوقٌ ، وقِتَالُه كُفْرٌ " {[2964]} .
الثالث : أنَّ المراد منه الإيذاء ، والإفحاش ؛ قال تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } [ البقرة : 282 ] .
الرابع : قال ابن زيد : هو الذَّبح للأصنام{[2965]} ؛ فإنّهم كانوا فى حجِّهم يذبحون لأجل الأصنام قال تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ الأنعام : 121 ] ، وقوله : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145 ] .
الخامس : قال ابن عمر : هو قتل الصَّيد ، وسائر محظورات الإحرام{[2966]} .
وأمّا الجدال : فهو " فِعَالٌ " من المجادلة ، الذي هو الفَتْلُ ، يقال : زمامٌ مجدولٌ وجديلٌ ، أي : مفتولٌ ، والجديل : اسم للزِّمام ؛ لأنه لا يكون إلاَّ مفتولاً ، وسميت المخاصمة مجادلة لأنّ كلَّ واحدٍ من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه . وذكر المفسرون فيه وجوهاً :
أحدها : قال ابن مسعود ، وابنُ عباس ، والحسنُ : هو الجدالُ الذي يخافُ معه الخروجُ إلى السِّباب ، والتكذيب ، والتجهيل{[2967]} . وهو قولُ عمرو بن دينار ، وسعيد بن جُبَيرٍ ، وعِكْرمة ، والزهريِّ ، وعطاءٍ ، وقتادة{[2968]} .
الثاني : قال محمد بن كعب القُرظيُّ : إِنَّ قُريشاً كانوا إذا اجتمعوا بِمنَى قال بعضهُم : حجُّنا أَتَمُّ . وقال آخرون : بل حَجُّنَا أَتَم ، فَنَهَاهُمَّ اللَّهُ عن ذلك{[2969]} .
الثالث : قال القاسِمُ بن محمد : هو أنْ يقولَ بعضهُم : الحَجُّ اليَوْمَ ، ويقول بعضُهم : الحج غداً{[2970]} ، وذلك بأنهم أُمِرُوا بأن يَجْعَلُوا حِسَابَ الشهور على الأهِلَّةِ ، فكان بعضُهم يجعلُ الشهورَ على الأَهِلّةِ ، وآخرون يجعلونها بالعدد فلهذا السبب ؛ كانوا يختلفون .
الرابع : قال مقاتِلٌ ، والقفّال{[2971]} : هو ما جادلُوا فيه النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – حين أمرهُم بنسخ الحج إلى العُمْرَة ، إلاَّ مَنْ قَلّدَ الهَدْيَ ، قالُوا : كيف نجعلُها عُمْرَةً ، وقد سمينا الحج ؟ ! فهذا جِدَالُهم{[2972]} .
الخامس : قال مَالِكٌ في " الموطأ " : الجدالُ في الحج أنَّ قريشاً كانوا يقفون عن المشعَرِ الحَرَامِ في المُزْدَلِفة بقزح{[2973]} وغيرهم يقفُ بعرفاتٍ ، وكُلٌّ منهم يزعَمُ أنّ موقفهُ موقف إبراهيم ، ويقولُ عليه الصلاة والسلام نحن أصْوَبُ ؛ فقال الله تعالى : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ الحج : 67 – 68 ] قال مالكٌ : هذا هو الجِدالُ فيما يُروى والله أعلم .
السَّادس : قال ابنُ زيْدٍ : كانوا يَقِفُون مَواقِف مختلقة ، فبعضهم يقفُ بعرفة ، وبعضهم بالمزدلفة ، وبعضُهم حجَّ في ذي القَعْدة ، وبعضُهم في ذي الحَجَّةِ ، وكُلٌّ يقول : ما فعلتُه هو الصَّوَابُ{[2974]} ؛ فقال تعالى : { وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } ، أَي : اسْتَقَرَّ أَمرُ الحج على ما فعلهُ الرسولُ - عليه السلام - فلا اختلاف فيه مِنْ بعدِ ذلك ، وذلك معنى قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " أَلاَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوات والأَرْضَ " {[2975]} .
قال مجاهدٌ : معناه : لا شَكَّ في الحجِّ أنّه في ذي الحجةِ ، فأَبْطَلَ اللَّهُ النَّسِيءَ{[2976]} .
قال أهلُ المعاني{[2977]} : ظَاهِرُ الآية الكريمة نفيٌ ومعناه نَهْيٌ ، أي لا ترفُثُوا ، ولا تَفسقوا ولا تُجَادِلُوا ؛ كقوله تعالى { لاَ رَيْبَ فِيهِ }
[ البقرة : 3 ] أي : لا ترتابُوا .
قال القاضي{[2978]} : قوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } يحتملُ أن يكونَ خبراً ، وأنْ يكونَ نَهْياً ، كقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، أي : لا تَرْتَابُوا فيه ، وظاهرُ اللفظِ للخبر ، فإذا حَمَلناهُ على الخبر كان معناه : أنّ الحجة لا تثبتُ مع واحدةٍ من هذه الخِلالِ ، بل تَفْسُدُ ؛ كالضدِّ لها وهي مانعةٌ من صحَّته ، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى ؛ إلاَّ أَنْ يُراد بالرفَثِ ، الجماعُ [ المفسِدُ للحج ، ويُحْملُ الفسوقُ على الزِّنا ؛ لأنه يُفسِدُ الحجَّ ، ويُحملُ الجِدالُ على الشَّكِّ في وجوب الحجِّ ]{[2979]} ؛ لأن ذلك يكون كُفْراً ، فلا يَصِحَّ معه الحج ، وإنَّما حَمَلْنَا هذه الألفاظ على هذه المعاني ؛ حتَّى يصحَّ خبرُ اللَّهِ بأنَّ هذه الأشياء لا تُوجَدُ مع الحج .
قال ابنُ العَرَبيِّ{[2980]} : المرادُ بقوله : " فَلاَ رَفَثَ " نَفْيُهُ مَشْرُوعاً لا مَوجُوداً ، فإِنَّا نَجِدُ الرفثَ فيه حِسّاً ، وخبرُ اللَّهِ تعالى لا يجُوزُ أَنْ يَقَعَ بخلاف مخبره ، وإنما يرجعُ النفيُ إلى وجوده مَشْرُوعاً لا إلى وجوده مَحْسُوساً ؛ كقوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } [ البقرة : 228 ] أي : مشروعاً لا حسّاً ، فإنَّا نجدُ المطلقاتِ لا يتربصْنَ ؛ فعاد النَّفْيُ إلى الحكم الشَّرعيِّ لا إلى الوجود الحِسّيّ ؛ وهو كقوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ }
[ الواقعة : 79 ] إذا قلنا : إنّه واردٌ فى الآدَمِيِّينٍ ؛ وهو الصَّحيحُ ، فإنَّ معناه لا يَمَسُّه أَحَدٌ منهم شَرْعاً ، فإن وجد المَسُّ ، فعلى خلاف حُكْم الشرع ، وهذه الدَّقِيقةً فاتت العُلماء فقالوا : إِنّ الخبرَ يكونُ بمعنى النَّهْي ، وما وجِدَ ذَلك قَطُّ ، ولا يصح أَنْ يُوجَدَ ؛ فإنهما مُخْتَلِفَان حقيقةً ، ومُتَضَادان وَصْفاً .
قال ابن الخطيب{[2981]} - رحمه الله تعالى - فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحجُّ فَاسِداً ويجبُ على صاحبه المضيّ فيه ، وإذا كان الحجُّ باقِياً معها ، لم يصدق الخبرُ لأَنَّ هذه الأشياء لا توجدُ مع الحج ؟
قلنا المرادُ من الآية الكريمة حصولُ المضادةِ بين هذه الأشياء ، وبَيْن الحجة المأمُورِ بها ابتداءً ، وتلك الحجةُ الصحيحةُ لا تَبْقَى مع هذه الأشياء ؛ بدليل أنّه يجبُ قضاؤُهَا ، والحجةُ الفاسِدَةُ التي يجبُ عليه المضِيُّ فيها شيءٌ آخر سوى تلك الحجةِ المأمُورِ بها ابتداءً ، وأَمَّا الجِدَالُ الحَاصِلُ بسبب الشَّكِّ في وجوب الحج ، فظاهره أنَّه لا يبْقَى معه عملُ الحج ؛ لأنَّ ذلك كُفْرٌ وعملُ الحج مشروطٌ بالإسلام ، فثبت أَنَّا إِذَا حملنا اللفظ على الخبر ، وجب حَمْلُ الرَّفث والفُسُوق والجِدَالِ على ما ذكرنا ، وأمَّا إِذَا حملناه على النَّهي ، وهو في الحقيقة عُدُولٌ عن الظَّاهِر ، فقد يَصِحُّ أنْ يرادَ بالرفثِ الجماعُ ومقدماتُه ، وقولُ الفُحْشِ ، وأَنْ يرُادَ بالفِسْقِ جميعُ أنْواعه ، وبالجدالِ جميعُ أَنواعه ؛ لأَنَّ اللفْظَ مُطْلَقٌ ومتناولٌ لكل هذه الأقسامِ ، فيكون النهي عنها نَهْياً عن جميع أقسامها .
فإن قيل : ما الحكمةُ في أنّ الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة : وهي الرَّفث ، والفُسُوق ، والجدَال في الحج ، مِنْ غير زِيَادَةٍ ولا نَقْصٍ ؟
فالجواب : لأنه ثَبَتَ في العلوم العقلية أنّ للإنسان أربَعَ قُوًى : قوّة شَهْوَانيةٌ بهيميَّةٌ ، وقُوَّةٌ غَضَبيَّةٌ سبعيَّةٌ ، وقُوَّةٌ وهمِيَّةٌ شيطانيَّةٌ ، وقُوة عقليةٌ مَلكيَّةٌ ، والمقصود من جميع العبادات قَهْرُ القُوَى الثلاث ، أعْنِي : الشهوانية والغضبية والوهْمية .
فقوله : " فَلاَ رَفَثَ " إشارةٌ إلى قَهْرِ الشهوانية .
وقوله : " ولا فُسُوقَ " إشارةٌ إلى قَهْرِ القُوةِ الغضبيةِ التي توجِبُ المعصية والتمردَ .
وقوله : { وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } إشارةٌ إلى قَهْرِ القوةِ الوهْمية ، التي تحملُ الإنسانَ على الجدال في ذاتِ الله ، وصفاتِهِ ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأسمائِهِ ، وهي البَاعِثَةُ على مُنَازعِةِ الناسِ ، ومُمَاراتِهِم ، والمخاصَمَةِ مَعَهُم في كل شَيْءٍ ، فلمّا كان سَبَبُ الشَّرِّ مَحْصُوراً في هذه الأمور الثلاثة ؛ لا جرم لا يَذْكُرْ معَها غيرَها .
من الناس مَنْ عاب الاستدلالَ ، والبَحْثَ ، والنَّظر ، والجِدال ؛ واحْتَجَّ بقوله تعالى : { وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } ، وهذا يَقْتَضِي نَفْيَ جميع أنواعِ الجدال ، ولو كان الجِدَالُ في الدين طَاعَةٌ ، لما نُهِيَ عَنْهُ في الحج ، بل على ذلك التقدير ، يكونُ الاشتغالُ بالجِدَالِ ضَمَّ طاعَةٍ إلى طَاعَةٍ ، فيكون أَوْلَى بالترغيب فيه . وأيضاً قال تبارك وتعالى :
{ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }[ الزخرف : 58 ] ، عابهم بكونِهم مِنْ أَهْل الجَدَلِ ، فدلّ على أن الجدل مَذْمُومٌ ، وقال تبارك وتعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال : 46 ] فنهى عن المنازعة .
وأمّا جمهور المتكلِّمين فقالوا : الجدَالُ في الدين طاعةٌ عظيمةٌ ؛ لقوله تعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، وحكى قول الكفَّار لنوح – عليه السلام – { قَالُواْ ينُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [ هود : 32 ] ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك الجِدال ، إنما كان لتقريرِ أُصُولِ الدين ، فيُحملُ الجدالُ المذمومُ على الجدل في تقرير الباطل ، وطلب المالِ ، والجَاهِ ، والجدالُ الممدوحُ على الجَدَلِ في تقرير الحقِّ ، ودعوةِ الخَلْقِ إلى سبيل اللِّهِ ، والذَّبِّ عن دين الله .
قولُه : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } تقدَّمَ الكلامُ على نَظِيرتِهَا ، وهي :
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } فَكُلُّ ما قيلَ ثَمَّ ، يُقالُ هُنَا . قال أبو البقاء{[2982]} رحمه الله " وَنَزِيدُ هنا وَجْهاً آخرَ : وهو أَنْ يَكُونَ " مِنْ خَيْر " في مَحلِّ نصبٍ نَعْتاً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ ، تقديرُه : وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً كَائِناً مِنْ خَيْرٍ " .
و " يَعْلَمْه " جَزْمٌ على جوابِ الشَّرط ، ولاَ بُدَّ مِنْ مَجَازٍ فِي الكَلامَ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَّر بالعِلْم عن المُجازاة على فعل الخَيْر ، كأنّهُ قِيل : يُجازِيكم ، وإِمَّا أَنْ تُقَدَّر المُجازاة بعد العِلم ، أي : فيثيبُه عَلَيْه .
وفي قوله : " وَمَا تَفْعَلُوا " التفَاتٌ ؛ إذْ هو خُرُوج مِنْ غَيْبَةٍ في قوله : فَمَنْ فَرَضَ " وحُمِلَ على َمَعْنَى " مَنْ " إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرده .
وقد خَبَطَ بعضُ المُعْربين ، فقال : " مِنْ خَيْر " مُتعَلِّق بتَفْعلوا ، وهو في مَوضع نصب ؛ لمصدَر محذوفٍ ، تقديرُه : " وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً مِنْ خَيْر " والهاءُ في " يَعْلَمْه " تَعُودُ إلى خير . قال شهابُ الدِّين : وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ ؛ لأَنَّه مِنْ حَيْثُ عَلَّقه بالفعلِ قبله كيف يَجْعَلُه نَعْتَ مصدرٍ مَحذوفٍ ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعودُ إلى " خَيْر " يلزمُ منه خلوُّ جملة الجواب مِنْ ضمير يَعُودُ على اسم الشَّرْطِ ، وذلك لا يجوزُ ، أَمَّا لَوْ كانَتْ أَداةُ الشَّرْطِ حَرْفاً ، فلا يُشْترطُ فيه ذلك ، فالصَوابُ ما تقدَّم . وإنما ذكرت لك هذا لِئَّلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه . والهاءُ عائِدةٌ على " ما " الَّتي هي اسمُ الشَّرْطِ .
اعلم أنَّ اللَّهَ تعالى يعلمُ كُلَّ شَيْءٍ وإذا خَصَّ هُنا الخير بأنه يعلمُه لفوائِد .
أحدها : إذا علمتُ منك الخير ، ذكرتُه وشَهَرْتُه ، وإذا علمتُ مِنْك الشرَّ ، سترتُه وأخفَيْتُه ؛ لِتَعلم أنّه إذا كانت رَحْمَتي بك في الدنيا هكذا فكيف{[2983]} في العُقْبَى ؟
وثانيها : قال بعضُ المفسرين في قوله : { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] معناه : لَو أمكَنَنِي أن أُخْفيها عن نفسي ، لَفَعلتُ ، فكذا - هاهنا - كأنَّه قيل لِلْعَبْدِ : ما تَفْعَلْه مِن الشَّرِّ ، فَلَوْ أَمْكنِني أَنْ أُخْفيهُ عن نَفْسي لَفَعلتُ ذلك .
وثالثها : أنّ السُّلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع : كُلّ ما تتحمله من المشقَّة والخِدْمة في حَقِّي ، فأنا عالِمٌ به ، ومُطَّلِعٌ عليه ، كان هذا وَعْداً له بالثَّواب العظيم ، ولَو قال ذلك لعبده المذنِبِ ، كان تَوَعُّداً له بالعِقابِ الشَّديد ، ولَمَّا كان سبحانه أكرمَ الأَكرَمِينَ ؛ لا جرمَ ذَكرَ ما يَدُلُّ على الثَّوابِ ، ولم يذكرْ ما يدلُّ على العِقَابِ .
ورابعها : أَنَّ جبريل – عليه السلام – لمَّا قال : " ما الإحسان " ؟ فقال : " الإحْسَانُ : أَنْ تَعْبُد اللَّهُ كَأنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ " ، فهاهنا بيَّن للعبدِ أنَّه يَرَاهُ ، ويعلمُ ما يفعلهُ من الخيراتِ لتكون طاعةُ العَبْدِ للربِّ من الإحسانِ ، الذي هُو أَعْلَى دَرَجاتِ العِبَادِةِ ، فإن الخادِمَ مَتَى علم أَنَّ مخدومه مُطَّلِعٌ عليه ، ليس بغافلٍ عن أَحوالِهِ – كان أَحْرصَ على العَمَلِ{[2984]} .
قال القُرطبيُّ{[2985]} : هذا شرط وجوابه ، والمعنى أنَّ اللَّهَ يُجَازيكُم على أعمالكُم ؛ لأنَّ المجازاة إنما تقعُ من العَالِمِ بالشَّيءِ .
وقيل : هو تحريضٌ وحَثٌّ على حُسنِ الكَلاَمِ مَكَانَ الفُحشِ ، وعلى البِرِّ والتَّقْوَى في الأخلاقِ مكان الفُسُوقِ والجِدَالِ .
وقيل : جعل الخير عبارةً عن ضبط أَنفُسِهم ؛ حتى لا يوجد ما نهُوا عنه .
قوله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } فيه قولان :
أحدهما : أن المراد تزوّدوا من التَّقْوَى ؛ لقولهِ { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } فتحقيقٌ [ الكلام فيه : أَنَّ ]{[2986]} الإنسان له سَفَرانِ ، سفرٌ فى الدنيا ، وسَفَرٌ مِنَ الدُّنيا .
فالسَّفَرُ في الدنيا ، لا بُدَّ له مِنْ زَادٍ ، وهو الطَّعامُ ، والشَّرَابُ ، والمركبُ ، والمالُ .
والسَّفَرُ من الدنيا لاَ بُدّ له - أيضاً - مِنْ زَادٍ ، وهو معرفةُ الله تعالى ومحبتُه والإعراضُ عمّا سِوَاهُ ، وهذا الزادُ خيرٌ مِنَ الزَّادِ الأوَّلِ لوجوه :
أحدها : أنّ زادَ الدُّنيا [ يخلصُكَ مِنْ عَذَابِ مُنْقَطِعٍ ، وزادَ الآخرة يُخَلِّصُك مِنْ عذاب دائمٍ ، وزادُ الدُّنيا ]{[2987]} يوصلك إلى لذَّةٍ مَمزُوجةٍ بالآلامِ ، والبلايَا ، وزادَ الآخرةِ يُوصِلكّ إلى لذَّاتِ باقيةٍ خالصةٍ عن شوائب المضَرَّةِ ، وزادُ الدنيَا يُوصِلُك إلى دُنيا مُنقضيةٍ ، وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى الآخرة ، وهي كل ساعةٍ من الإِقبالِ ، والقُرْبِ ، والوُصُول غير منقضية وزادُ الدنيا يُوصِلُكُ إلى منصة الشَّهوة والنَّفْس وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى حضرة الجلالِ والقُدُس ؛ فلهذا قال : { خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } فَاشْتغلوا بتقواي يا أولي الألباب ، يعني : إِن كُنتُم من أُولي الألباب الَّذين يعلمون حقائق الأمور فاشتغلوا بتحصيل هذا الزادِ ؛ لما فيه من كثرةِ المَنافع ؛ وفي هذا المعنى قال الأعشى : [ الطويل ]
995 – إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزادٍ مِنَ التُّقَى *** وَلاَقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدْمِتَ عَلَى أَلاَّ تَكُونَ كَمِثْلِهِ *** وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصْدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا{[2988]}
والقولُ الثَّانِي : أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في أُناسٍ مِنْ أهل اليمن{[2989]} ، كانوا يحجُّونَ بغير زادٍ ، ويقُولُونَ إِنّا مُتَوكِّلُونَ وكانوا يَسْأَلُونَ{[2990]} وربما ظَلَمُوا الناس وغصبُوهُم ، فأمرهم اللَّهُ تعالى أَنْ يَتَزوَّدُوا ما يَبْلُغُون به ، فإنّ خير الزادِ ما تكفون به وجوهكم عن السُّؤال ، وأنْفُسَكُم عن الظلم .
وعن ابن زيدٍ ، أنّ بعض قبائِلِ العربِ كانوا يحرّمُون الزادَ في الحج ، والعمرة{[2991]} ؛ فنزلت الآية . قال ابنُ الجَوزيّ : قد لَبَسَ إِبْلِيسُ على قومٍ يَدعُون التوكُّل ؛ فخرجوا بِلاَ زادٍ ، وظنُّوا أن هذا هو التوكُّلُ وهُم على غاية الخطأَ ، قال رَجلٌ لأحمد بن حَنْبلٍ : أُرِيد أَنْ أَخْرُجَ إلى مكَّةَ المشرفة على التوكُّلِ بِغَير زادٍ ، فقال له أَحْمَدُ : اخرج في غير القَافِلَةِ . فقال : لا إِلاَّ معهُم ، فقال : على جُرُب النَّاسِ تَوكلت{[2992]} .
وروى محمد بنُ جرير الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أَحْرَموا ، ومعهم أزودةٌ رَمَوْا به ؛ فنهوا عن ذلك بهذه الآية الكريمة .
قال القاضي : فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان :
الأوَّل : أنّ القادر على أنْ يستصحِبَ المالَ في السفر إذا لم يستصحبه ، عَصَى اللَّهُ تعالى في ذلك ، فبهذا الطَّرِيق يصحُ دُخُولُه تحتَ{[2993]} الآية الكريمة .
والثاني : أَنْ يكونَ في الكلام حَذْفٌ ، والمرادُ تَزَوَّدوا لعاجل سفركم ، وللآجِلِ ، فإِنَّ خير الزادِ التقوَى . وقيل : المعنى فإنّ خَيْرَ الزادِ ما اتقى به المسافر من الهَلَكة ، والحاجة إلى السؤال ، والتكفُّفِ ، وأَلِفُ " الزَّادِ " مُنقلبَةٌ عَنْ " واوٍ " لقولهم تَزَوَّدَ .
قولهُ : " واتَقُونِي " أَثبتَ أبو عمر " الياءَ " في قوله : " وَاتَّقُونِي " على الأصل ، وحذف الآخرون ؛ للتخفيف ، ودلالة الكسرةِ عليه ، وفيه تَنْبيهٌ على كمالِ عظمةِ اللَّهِ وجلالِهِ ؛ وهو كقول الشَّاعر : [ الرجز ]
996 – أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي{[2994]} *** . . .
قولُه { يأُوْلِي الأَلْبَابِ } اعلم أَنَّ لُبَّ الشيءٍ ولُبَابَهُ هو الخَالِصُ منه .
قال النَّحاسُ : سمعت أبا إسحاق يقول : قال لي أحمدُ بن يحيى ثعلبٌ : أتعرف في كَلامِ العربِ شيْئاً من المُضاعَفِ جاء على فَعُلَ ؟ قلت : نعم ، حكى سيبويه عن يونس : لَبُبْتَ تَلُبّ ؛ فاسْتَحْسَنُه ، وقال : ما أَعْرفُ له نظيراً .
واختلفوا فيه فقال بعضهم : إنّه اسمٌ للعقلِ ؛ لأنه أشرفُ ما في الإنسان ، وبه تميز عن البهائِمِ ، وقَرُبَ مِنْ درجةِ الملائكة .
وقال آخرون : إنّه في الأَصْلِ اسمٌ للقَلْبِ الذي هو محل للعقلِ ، والقَلْبُ قد يُجعل كنايةً عن العَقلِ ، فقوله : { يأُوْلِي الأَلْبَابِ } أي : يا أُولِي العُقُولِ ، وإطلاق اسم المحلِّ على الحال مجازٌ مشهُورٌ .
فإن قيل : إذا كان لا يصِحُّ إِلاَّ خِطَابُ العقل ؛ فما فائدة قوله : { يأُوْلِي الأَلْبَابِ } ؟ !
فالجواب : معناهُ أنّكم لمّا كنتُم مِنْ أُولِي الألباب ، تمكنتُم مِنْ معرفة هذه الأشياء ، والعَمَلِ بها ، فَكَانَ وجوبها عليكم أَثبت ، وإعراضُكم عنها أقبحَ ؛ ولهذا قال الشاعر : [ الوافر ]
997 – وَلَمْ أَرَ في عُيُوب النَّاسِ شَيْئاً *** كَنَقْص الْقَادِرِيْن عَلَى التَّمَامِ{[2995]}
وقال تبَاركَ وتعالى : { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] يعني : أَنَّ الأنعامَ مَعْذُورةٌ بسبب العَجزِ ، وأَمَّا هؤلاء فقادِرُون فكان إعراضهم أفحش ، فلا جرم كانُوا أَضَلَّ .