فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

{ الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب } .

{ الحج أشهر معلومات } أي وقت الحج أشهر أو وقت عمل الحج ، وقيل التقدير الحج في أشهر ، وقيل غير ذلك .

وقد اختلف في الأشهر المعلومات ؛فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري : هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله ، وبه قال مالك .

وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي : هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم وقد روي أيضا عن مالك .

وتظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر فمن قال إن ذا الحجة كله من الوقت قال لم يلزمه دم التأخير ومن قال ليس إلا العشر منه قال يلزمه دم التأخير .

وقد استدل بهذه الآية من قال أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج ، وهو عطاء وطاوس ومجاهد والأوزاعي والشافعي وأبو ثور ، قالوا : فمن أحرم بالحج قبلها أحل بالعمرة ولا يجزئه عن إحرام الحج كمن دخل في صلاة قبل وقتها فلا تجزئه ، وقال أحمد وأبو حنيفة أنه مكروه فقط ، وروي نحوه عن مالك والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة من غير كراهة ، وروي مثله عن أبي حنيفة .

وعلى هذا القول ينبغي أن ينظر في فائدة توقيت الحج بالأشهر المذكورة في الآية ، وقد قيل أن النص عليها لزيادة فضلها ، وقد روي القول بجواز الإحرام في جميع السنة عن إسحاق ابن راهويه وإبراهيم النخعي والثوري والليث ابن سعد ، واحتج لهم بقوله تعالى { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج ، ولم يخص الثلاثة الأشهر ، ويجاب بأن هذه الآية عامة وتلك خاصة والخاص مقدم على العام .

ومن جملة ما احتجوا به القياس للحج على العمرة ، فكما يجوز الإحرام للعمرة في جميع السنة كذلك يجوز للحج ، ولا يخفى أن هذا القياس مصادم للنص القرآني فهو باطل .

والحق ما ذهب إليه الأولون إن كانت الأشهر المذكورة في قوله { الحج أشهر } مختصة بالثلاثة المذكورة بنص أو إجماع ، فإن لم يكن كذلك فالأشهر جمع شهر ، وهو من جموع القلة يتردد ما بين الثلاثة إلى العشرة والثلاثة هي المتيقنة فيجب الوقوف عندها .

ومعنى معلومات أن الحق في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها ليس كالعمرة ، أو المراد معلومات ببيان النبي صلى الله عليه وسلم أو معلومات عند المخاطبين لا يجوز التقدم عليها ولا التأخر عنها .

{ فمن فرض } على نفسه { فيهن الحج } أي أوجبه عليها وألزمه إياها وأصل الفرض في اللغة الحز والقطع ، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحز للقوس ، وقيل معنى فرض أبان وهو أيضا يرجع إلى القطع لأن من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره .

وقال ابن مسعود : الفرض الإحرام ، وقال ابن الزبير : الإهلال وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين والمعنى في الآية فمن ألزم نفسه وأوجب عليها فيهن الحج بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا ، و بالإحرام فعلا ظاهرا وبالتلبية نطقا مسموعا ، وقال أبو حنيفة إن إلزامه نفسه يكون بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه وقال الشافعي : تكفي النية في الإحرام بالحج .

{ فلا رفث } قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك هو الجماع ، وفي رواية عن ابن عباس هو غشيان النساء والتقبيل والغمز ، وقال ابن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم : الرفث الإفحاش بالكلام والخنا ، والقول القبيح ، وعلى هذا التلفظ به في غيبة النساء يكون رفثا ، وقال أبو عبيدة الرفث اللغا من الكلام .

{ ولا فسوق } أصله الخروج عن حدود الشرع وعن الطاعة ، وقيل هو الذبح للأصنام ، وقيل التنابز بالألقاب ، وقيل السباب ، وقال ابن عمر : هو ما نهى عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد وتقليم الأظفار وأخذ الشعر وما أشبه ذلك .

والظاهر أنه لا يختص بمعصية متعينة ، وإنما خصصه من خصصه بما ذكر باعتبار أنه قد أطلق على ذلك الفرد اسم الفسوق كما قال سبحانه في الذبح للأصنام { أو فسقا أهل لغير الله به } وقال في التنابز { بئس الاسم الفسوق } وقال صلى الله عليه وسلم ( سباب المسلم فسوق ) {[193]} ولا يخفى على عارف أن إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصي لا يوجب اختصاصه به .

{ ولا جدال } مشتق من الجدل وهو الفتل ، والمراد به هنا المماراة وقيل السباب ، وقيل الفخر بالآباء ، والظاهر الأول ومعنى النفي لهذه الأمور والنهي عنها .

وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفث التعريض للنساء بالجماع ، والفسوق المعاصي كلها والجدال جدال الرجل صاحبه ، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين بعبارات مختلفة .

قال ابن عباس : الجدال هو المراء ، قيل هو قول الرجل : الحج اليوم ، ويقول آخر الحج غدا ، وقيل هو ما كان عليه أهل الجاهلية كان بعضهم يقف بعرفة وبعضهم بمزدلفة وبعضهم يحج في ذي القعدة وبعضهم في ذي الحجة وكان يقول الصواب فيما فعلته ، فأخبر الله أن أمر الحج قد استقر على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا خلاف فيه بعده .

{ وفي الحج } أي في أيامه ونكتة الإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم ، فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها من موجبات ترك الأمور المذكورة وإيثار النفي للمبالغة في النهي ، والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يقع ، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه ففي خلال الحج أقبح كلبس الحرير في الصلاة لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة .

ظاهر هذه الآية في الثلاثة خبر ومعناه نهي ، وإنما نهى عن ذلك وإن كان اجتنابها في كل الأحوال والأزمان واجبا لأنها في الحج أسمج وأفظع منه في غيره وقيل معناه ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسئ .

وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) {[194]} أخرجه البخاري ومسلم .

{ وما تفعلوا من خير يعلمه الله } حث على الخير بعد ذكر الشر ، وعلى الطاعة بعد ذكر المعصية وهو أن يستعملوا مكان الرفث الكلام الحسن ومكان الفسوق البر والتقوى ، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة ، وفيه أن كل ما يفعلونه من ذلك فهو معلوم عند الله لا يفوت منه شيء .

{ وتزودوا } ما يبلغكم لسفركم { فإن خير الزاد التقوى } أي ما يتقي به سؤال الناس وغيره ، فيه الأمر باتخاذ الزاد لأن بعض العرب كانوا يقولون كيف نحج بيت ربنا ولا يطعمنا فكانوا يحجون بلا زاد ويقولون نحن متوكلون على الله سبحانه ثم يقدمون فيسألون الناس ويكونون كلا عليهم ، فأنزل الله هذه الآية ، فأخرجه عبد ابن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس ، وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ذلك .

قال ابن الجوزي : قد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل ، وهم على غاية من الخطأ .

وقيل المعنى تزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة فإن خير الزاد التقوى والأول أرجح كما دل عليه سبب نزول الآية وفيه إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات فكأنه قال اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد فإن خيره التقوى وقيل المعنى فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من التهلكة والحاجة إلى السؤال والتكفف .

{ واتقون } أي وخافوا عقابي . وقيل اشتغلوا بتقواي وفيه تنبيه على كمال عظمة الله جل جلاله { يا أولي الألباب } فيه التخصيص لأولي الألباب بالخطاب بعد حث جميع العباد على التقوى لأن أرباب الألباب والعقول هم القابلون لأوامر الله الناهضون بها ولب كل شيء خالصه .


[193]:رواه مسلم / 64 وقتاله كفر.
[194]:رواه مسلم / 1350 وبرواية من أتى هذا البيت فلم يرقث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه.