التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

قوله تعالى : ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوني يأولي الألباب ) ( الحج ) مبتدأ مرفوع خبره أشهر ( معلومات ) صفة . ومن المعلوم أن جميع السنة وقت للإحرام بالعمرة . لكن الحج يقع في وقت محدد من كل عام بحيث لا يصح الإحرام به غير هذا الوقت . ذلك الذي ذهب إليه الشافعي ، وهو مروي عن ابن عباس وجابر وآخرين استنادا إلى قوله : ( الحج أشهر معلومات ) .

وقال آخرون بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة . وذلك الذي ذهب إليه الأئمة مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهم . وقد احتجوا لهذا القول بالآية : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) . والراجح عندي ما ذهب إليه الشافعي وهو أن الإحرام بالحج لا يصح إلا في أشهره المعلومة ، ويرجح ذلك حديث جابر عن النبي ( ص ) : " لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج " يضاف إلى ذلك أن الإحرام طيلة العام إذا وقع ، فإن فيه حرجا عظيما . وهو في قواعد الشريعة مرفوع . وقد اختلف العلماء في حقيقة الأشهر المعلومات الواردة في الآية . وثمة قولان في ذلك :

أحدهما : أن الأشهر المعلومات هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وعطاء ومجاهد والزهري وغيرهم .

ثانيهما : أنها شوال وذو القعدة والأيام العشرة الأولى من ذي الحجة كله ، وهو قول ابن عباس وعمر وعلي وابن الزبير والسدي والشعبي والنخعي . وهو مذهب الأئمة أبي حينفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي يوسف وأبي ثور .

وقوله : ( فمن فرض فيهن الحج ) من اسم شرط في محل رفع مبتدأ وخبره فعل الشرط ( فرض ) وجواب الشرط الجملة المقترنة بها الفاء ( فلا رفث ) .

والمعني أن من أحرم بالحج فألزم نفسه به ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) الرفث هو الجماع ومقدماته وأسبابه ، فإن ذلك كله حرام في حال الإحرام . وبذلك يحرم على المحرم بالحج أو العمرة أن يباشر النساء أو يقبّل أو يعمل شيئا من دواعي الجماع كيفما كانت . وأما الفسوق فهو في اللغة الخروج ، وفعله فسق يفسق أي خرج يخرج . وقد قال الله سبحانه عن إبليس إذ تمرد على ربع وعصاه . ( ففسق عن أمر ربه ) أي خرج عن أمره ، والمراد بالفسوق جميع المعاصي التي يخرج بها المرء عن أمر الله وعن الامتثال لشرع ، والمرء إذا أحرم بالحج أو العمرة أو كليهما فإن عليه أن يكون في غاية الطاعة والامتثال والأدب مع الله سبحانه فلا يرفث بشيء من أمر النساء أو الجمع ودواعيه ، ولا يفسق بشيء من المعاصي . وهي وإن كانت محظورة في جميع أحيان السنة ، لكن تحريمها في حال الإحرام آكد وأشد . ولا يتجنب المحرم هذه المحظورات من رفث أو فسوق في الحج حتى يفوز عند الله بخير الجزاء وعظيم الغفران . فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( ص ) : " من حج هذا البيت فلم برفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " .

وأما الجدال في الحج فقد جاء فيه أقوال عديدة ، نختار منها ما ذكر عن كثير من العلماء من الصحابة والتابعين وهو أنه المراء والملاحاة حتى إغضاب الآخرين . وقد سئل ابن عباس عن الجدال فقال : المراء ، تماري صاحبك حتى تغضبه . والمراء والملاحاة أسلوب الغلاظ الجفاة من الناس الذين ديدنهم كثرة الحديث والتكلم في غير علم أو فائدة بما يغيظ السامعين ويغضبهم . ومن خلق المسلم أن يكون ذا وقار واتزان ، وأن يؤثر طول الصمت وقلة الكلام على الثرثرة الفارغة .

وفي تجنب الجدال والفسوق في الحج يقول النبي ( ص ) : " من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده ، غفر له ما تقدم من ذنبه " .

ثم يرغّب الله عباده المؤمنين بفعل الخيرات . وهو سبحانه عليم بهذه الأفعال ، وسوف يجزيهم بها ؛ لذلك قال سبحانه : ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) {[275]} .

وقوله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) جاء عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية أن أناسا كانوا يخرجون للحج وليست معهم أزودة ، مفردها زاد ، ويقولون : نحج بيت الله ولا يطعمنا ؟ فأمرهم الله أن يتزودوا بما يكف وجوههم عن الناس .

وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن المتوكلون فأنزل الله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) {[276]} وفي ذلك ما يبين للناس أن طبيعة هذا الدين عملية ، فإنه ليس من الدين التواكل الذي يعجز معه بعض الواهمين والجهلة عن السعي والبذل والعطاء ليقولوا : نحن المتوكلون . فإن المتوكلين الحقيقيين الذين يرضى عنهم الله هم العاملون الباذلون الذين يأخذون بزمام الجد والعمل في غير عجز أو كسل وهم مع ذلك كله يتوكلون على الله ، ولا يبرح أنفسهم شعور الاعتماد عليه وحده سبحانه .

ومع الدعوة للتزود بزاد الدنيا من طعام وغيره فإن الله يدعو الحجاج والمعتمرين للتزود بزاد الآخرة ليكتب الله لهم النجاة وسلامة المصير . وذلكم هو زاد التقوى وهو خير زاد تتزود به القلوب ، فقال سبحانه : ( فإن خير الزاد التقوى ) ثم يعطف الله بالتأكيد على التقوى إذ يخاطب من عباده أولي الألباب . وهم ذوو العقول والأفهام النيّرة ، يخاطبهم بالدعوة لتقواه فيبادرون لعمل الطاعات ويبتعدون سراعا عن المناهي والمحظورات ، فقال سبحانه : ( واتقوني يا أولي الألباب ) .


[275]:- تفسير القرطبي جـ 2 ص 405، 406 وتفسير البري جـ 2 ص 152 وما بعدها.
[276]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 37.