السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

{ الحج أشهر } أي : وقته كقولك البرد شهران { معلومات } وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر عندنا ، والعشر كله عند أبي حنيفة وذو الحجة كله عند مالك ، وعلى الأوّلين إنما سمي شهرين وبعض شهر أشهراً إقامة للبعض مقام الكلّ ، وإطلاقاً للجمع على ما فوق الواحد كما في قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } ( التحريم ، 4 ) لحفصة وعائشة .

{ فمن فرض } على نفسه { فيهنّ الحج } بالإحرام به عندنا أو بالتلبية أو بسوق الهدي عند أبي حنيفة ، وفيه دليل على أنّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج ، وهو قول ابن عباس وجماعة من الصحابة ، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعيّ ، وقال : ينعقد إحرامه عمرة ؛ لأنّ الله تعالى خص هذه الأشهر بفرض الحج فيها ، فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة ، كما أنه تعالى علق الصلاة بالمواقيت ، ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لم ينعقد إحرامه عن الفرض ، وإنما انعقد عمرة لأنّ الإحرام شديد التعلق ، وذهب جماعة إلى أنه ينعقد إحرامه بالحج وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة ، أما العمرة فجميع السنة وقت لها إلا أن يكون عليه بقية من أعمال الحج كالرمي .

{ فلا رفث } أي : جماع فيه كما قال ابن عباس وجماعة من الصحابة ، وقيل : الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز وأن يعرض لها بالفحش من الكلام ، وقيل : هو الفحش والقول القبيح .

{ ولا فسوق } أي : ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات وقيل : هو السباب والتنابز بالألقاب { ولا جدال } أي : خصام مع الخدم والرفقة وغيرهما { في الحج } أي : في أيامه ، فنفى الثلاث على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون وما كان منها مستقبحاً في نفسه ، ففي الحج أقبح كلبس الحرير في الصلاة ، والتطريب بقراءة القرآن ، وهو مدّ الصوت وتحسينه بحيث يخرج الحروف عن هيأتها ، فإنه يقبح في كل كلام لكنه في قراءة القرآن أقبح ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الثاء من رفث والقاف من فسوق ، والتنوين فيهما على معنى لا يكون رفث ولا فسوق والباقون بنصبهما ولا خلاف في { ولا جدال } فالجميع بالنصب ولا تنوين على معنى الإخبار ، كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ، وذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة وكانوا يقدّمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ورد الوقوف إلى عرفة ، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج ، واستدل على أنّ المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم : ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه ) فإنه لم يذكر الجدال { وما تفعلوا من خير } كصدقة { يعلمه الله } فيه حث على الخير حيث عقب به النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق : البر والتقوى ، ومكان الجدال : الوفاق والأخلاق الجميلة { وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى } أي : وتزوّدوا لمعادكم التقوى فإنها خير زاد ، روى البخاري وغيره أنّ أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون : نحن متوكلون ، ونحن نحج بيت الله تعالى أفلا يطعمنا فيكونون كلاً على الناس فيسألونهم ، وربما يفضي الحال بهم إلى النهب والغصب ، فقال الله جل ذكره : { وتزوّدوا } أي : ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم ، قال أهل التفسير : الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها ، { فإن خير الزاد التقوى } أي : ما يتقي به سؤال الناس وغيره .

{ واتقون يا أولي الألباب } أي : يا ذوي العقول فإن قضية اللب خشية الله تعالى وتقواه وحثهم على التقوى ، ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه ، وهو مقتضى العقل العريّ عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب .