التفسير : من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر ، فالتقدير أشهر الحج أو وقته أشهر معلومات ، كقولك " البلد شهران " ، أو الحج حج أشهر معلومات ؛أي لا حج إلا فيها خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من النسيء . وقيل : يمكن أن يقال : جعل الحج نفس الأشهر كما في قولهم " ليل قائم ونهار صائم " واتفق المفسرون على أن شوّالاً وذا القعدة من أشهر الحج . واختلفوا في ذي الحجة فعن عروة بن الزبير ومالك كله لأن أقل الجمع ثلاثة ، وقد يفعل الإنسان بعد النحر ما يتصل بالحج من رمي الجمار ونحوه . والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لابد منه إلى أيام بعد الشهر ، من هنا ذهب عروة إلى جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر . وعن أبي حنيفة : عشر ذي الحجة وهو قول ابن عباس وابن عمرو النخعي والشعبي ومجاهد والحسن قالوا : لفظ الجمع يشترك فيما وراء الواحد بدليل قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما }
[ التحريم : 4 ] ونزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال " رأيتك سنة كذا " وإنما رآه في ساعة منها . ورمي الجمار يفعله الإنسان وقد حل بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج . والحائض إذا طاف بعده فهو في حكم القضاء . وإنما قلنا إن يوم النحر من أشهر الحج لأنه وقت لركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة . ومن المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر . وعن الشافعي : التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر ، لأن الحج يفوت بطلوع يوم النحر ولا تفوت العبادة مع بقاء وقتها . قيل : إنه تعالى جعل كل الأهلة مواقيت للحج في قوله
{ قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] وفي هذه الآية جعل وقت الحج أشهر معلومات . وأجيب بأن تلك الآية عامة وهذه خاصة والخاص مقدم على العام . وأقول : الميقات علامة الوقت فلولا الأهلة لم يعلم مدخل كل شهر على التعيين . فجميع الأهلة في الإعلام سواء بالنسبة إلى وقت مفروض ، فلا منافاة بين كون جميع الأهلة علامات الحج من حيث إنها تؤذن بما بقي من السنة إلى أوان الحج ، وبين كون الأشهر المعلومات وقتاً للحج ، ومعنى قوله { معلومات } أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معينة من شهورها ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مراراً ، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع . وعلى هذا فهذا الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه وإنما جاء موافقاً مقرراً له . أو المراد أنها معلومات ببيان الرسول ، أو المراد أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها وتأخيرها كما يفعله أصحاب النسيء . ثم إن الشافعي استدل بالآية على أنه لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج ، وبه قال أحمد وإسحاق . وأيضاً الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياساً على الصلاة . وأيضاً الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر حكماً ، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى . وأيضاً الإحرام لا يبقى صحيحاً لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء ، فلأن لا ينعقد صحيحاً لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء . وعن أبي حنيفة ومالك والثوري : جواز الإحرام في جميع السنة لقوله تعالى { قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] والجواب ما مر . قالوا : الإحرام التزام الحج فجاز تقدمه قبل الوقت كالنذر . والجواب الفرق بين النذر والإحرام ، فإن الوقت معتبر للأداء ولا اتصال للنذر بالأداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ ، وأما الإحرام مع كونه التزاماً فهو أيضاً شروع في الأداء وعقد عليه فلا جرم افتقر إلى الوقت . قالوا : اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا : من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله . وقد تبعد داره بعداً شديداً يحتاج إلى أن يحرم قبل شوال . والجواب أن النص لا يعارضه الأثر على أنه يمكن تخصيص الأثر في حق من لا يكون داره سحيقاً { فمن فرض فيهن الحج } فمن ألزم نفسه في هذه الشهور أن يحج . وبماذا يحصل هذا الإلزام المسمى بالإحرام لأنه يحرم عليه حينئذ أشياء كانت حلالاً له . قال الشافعي : إنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية . نعم إنها سنة عند النية وبه قال أحمد ومالك لقوله تعالى { فمن فرض } وفرض الحج على النية أدل منه على التلبية أو سوق الهدي . وفرض الحج موجب لانعقاد الحج بدليل قوله { فلا رفث } فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم " لكل امرئ ما نوى " وأيضاً إنه عبادة ليس في آخرها ولا في أثنائها نطق واجب ، فكذلك في ابتدائها كالطهارة والصوم . وعند أبي حنيفة : التلبية شرط انعقاد الإحرام لإطباق الناس على الاعتناء به عند الإحرام إلا أن سوق الهدي وتقليده والتوجه معه يقوم مقام التلبية . وعن ابن عمر أنه قال : إذا قلد أو أشعر فقد أحرم . وعن ابن عباس : إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحج فقد أحرم . وروى أبو منصور الماوردي في تفسيره عن عائشة أنها قالت : لا يحرم إلا من أهل أو لبى . وأيضاً إن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيها بنفس النية كالصلاة . وصورة التلبية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " ولا تكره الزيادة على هذا . روي عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها . لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرغبى إليك والعمل . فإن رأى شيئاً يعجبه قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة . ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي بعض الروايات أنه قال في تلبيته : لبيك حقاً تعبداً ورقاً . قال الشافعي في أصح قوليه : الأفضل أن ينوي ويلبي حين تنبعث به راحلته إن كان راكباً ، وحين يتوجه إلى الطريق إن كان ماشياً لما روي أنه صلى الله عليه وسلم لم يهل حتى انبعثت به دابته ، قال إمام الحرمين : ليس المراد من انبعاث الدابة ثورانها ، بل المراد استواؤها في صوب مكة . فإذا استوت به راحلته متوجهاً إلى الطريق نوى : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ولبى . وإن كان يريد القران نوى الحج والعمرة ، وإن كان يريد العمرة نوى العمرة ولبى . والقول الثاني وبه قال أحمد ومالك وأبو حنيفة أن الأفضل أن ينوي ويلبي كما تحلل من الصلاة أي من ركعتي الإحرام وهو قاعد . ثم يأخذ في السير لرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم ، وتكثير التلبية في دوام إلا حرام مستحب قائماً كان أو قاعداً راكباً أو ماشياً حتى في حالة الجنابة والحيض لأنه ذكر لا إعجاز فيه فأشبه التسبيح ، قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت : " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " .
قوله عز من قائل { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال } من قرأ بفتح الثلاثة أو برفعها فلا إشكال ، ومن قرأ برفع الأولين وفتح الأخير فقيل : لأن الأولين محمولان على معنى النهي كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، ثم أخبر بانتفاء الجدال أي لا شك ولا خلاف في الحج . وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج ، وربما يستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم " من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه " وإنه لم يذكر الجدال . وقيل : الاهتمام بنفي الجدال أشد من الاهتمام بنفي الرفث والفسوق فلذلك قرئ كذلك . أما الأوّل فلأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة ، والجدال مشتمل على ذلك لأن المجادل يشتهي تمشية قوله ، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله ، والمجادل لا ينقاد للحق . وكثيراً ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء ، فدل على أن الجدال مشتمل على جميع أنواع القبح . وأما أن القراءة تفيد ذلك فلأن الفتح يقتضي نفي الماهية ، وانتفاؤها يوجب انتفاء جميع أفرادها . وأما الرفع فلا يوجب انتفاء جميع أفراد الماهية بل يجوّز ، فيكون الفتح أدل على عموم النفي . أما تفسير الرفث فعن ابن عباس هو الجماع ، وله في العمرة والحج نتائج منها . فساد النسك يروى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من الصحابة ، واتفق الفقهاء عليه بعدهم ، وإنما يفسد الحج بالجماع إذا وقع قبل التحللين لقوّة الإحرام . ولا فرق بين أن يقع قبل الوقوف بعرفة أو بعده خلافاً لأبي حنيفة حيث قال : لا يفسد بالجماع بعد الوقوف ولكن يلزمه الفدية . وأما الجماع بين التحللين فلا أثر له في الفساد على الصحيح . وعن مالك وأحمد أنه يفسد ما بقي شيء من إحرامه ، وتفسد العمرة أيضاً بالجماع قبل حصول التحلل . ووقت التحلل عنها بعد الفراغ من الحلق بناء على أنه نسك وهو الأصح ، فتفسد العمرة بالجماع قبل الحلق ، واعلم أن للعمرة تحللاً واحداً وذلك إذا طاف وسعى وحلق ، وللحج تحللان وذلك أنه إذا أتى باثنين من الرمي والنحر والحلق والطواف أعني الرمي والحلق ، أو الرمي والطواف ، أو الحلق والطواف ، حصل التحلل الأول وهو إباحة جميع المحظورات من التطيب والقلم ولبس المخيط وقتل الصيد وعقد النكاح إلا الجماع فإنه لا يحل إلى الإتيان بالأمر الثالث ، فإذا أتى به حل الجماع أيضاً وهو المراد بالتحلل الثاني قال الأئمة : الحج يطول زمانه وتكثر أعماله بخلاف العمرة فأبيح بعض محظوراته دفعة وبعضها أخرى . قال صلى الله عليه وسلم " إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء " واللواط وإتيان البهيمة في الإفساد كالوطء في الفرج وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة فيهما ولمالك في إتيان البهيمة ، ثم سائر العبادات لا حرمة لها بعد الفساد ويصير الشخص بالفساد خارجاً منها ، لكن الحج والعمرة وإن فسدا يجب امضي فيهما وذلك بإتمام ما كان يفعله لولا عروض الفساد روي عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من أفسد حجه مضى في فاسده وقضى من قابل . ومن نتائج الفساد الكفارة يستوي فيها الحج والعمرة . وخصالها خمس على الترتيب بدنة إن وجدها لأن الصحابة نصوا على البدنة وإلا فبقرة وإلا فسبع من الغنم وإلا قومت البدنة دراهم والدراهم طعاماً فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوماً . ومن النتائج القضاء باتفاق لما روينا عن كبار الصحابة وقضى من قابل ، سواء كان المقضي عنه فرضاً أو تطوعاً فإن القضاء واجب ، وأصح الوجهين في القضاء أنه على الفور لا على التراخي ، لأنه لزم وتضيق بالشروع ويدل عليه ظاهر قول الصحابة و " قضى من قابل " . وكذا الكلام فيمن ترك الصوم أو الصلاة بعدوان على الأشبه ، لأن جواز التأخير نوع ترفيه وتخفيف والمتعدي لا يستحق ذلك . ولو كانت المرأة محرمة نظر إن جامعها وهي نائمة أو مكرهة لم يفسد حجها وإلا فسد ، ولكن لا يجب على أصح القولين إلا بدنة واحدة عنهما جميعاً . وإذا أفسد حجه بالجماع ثم جامع ثانياً فإن لم يفد عن الأول لزم بدنة أخرى . وإن فدى لم يلزم إلا شاة . وعن الحسن : الرفث كل ما يتعلق بالجماع ، فليس للمحرم التقبيل بالشهوة ولا المباشرة فيما دون الفرج . فلو باشر شيئاً منها عمداً فالفدية . روي عن علي وابن عباس أنهما أوجبا بالقبلة شاة وإن كان ناسياً لم يلزمه شيء ولا يفسد شيء من مقدمات الجماع الحج ولا يوجب البدنة بحال سواء أنزل أو لم ينزل ، وبه قال أبو حنيفة ، وعند مالك يفسد الحج إذا أنزل وهو أظهر الروايتين عن أحمد . وقيل : الرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها . والرفث باليد اللمس والغمز ، والرفث بالفرج الجماع . وقيل : الرفث هو قول الخنا والفحش لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم " وعن أبي عبيدة : الرفث الإفحاش وعنه الرفث اللغو في الكلام . وأما الفسوق فهو الخروج عن الطاعة وحدود الشريعة فيشمل كل المعاصي قال تعالى { ففسق عن أمر ربه } [ الكهف : 50 ] وقيل : هو التنابز بالألقاب والسباب قال تعالى { ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } وقال صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وقيل الإيذاء والإيحاش { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } [ البقرة : 282 ] وعن ابن زيد : هو الذبح للأصنام { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وأنه لفسق }
[ الأنعام : 121 ] وقيل : الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة والفسوق ذلك مع الأجنبية . وأما الجدال فإنه فعال من المجادلة وأصله من الجدل والفتل كأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه . واختلف المفسرون فيه . فعن الحسن : هو الجدال الذي يفضي إلى السباب والتكذيب والتجهيل ، وإنه واجب الاجتناب في كل حال إلا أنه مع الرفقاء وفي الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة ، وقال محمد بن كعب القرظي : إن قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم : حجنا أتم . وقال آخرون : بل حجنا أتم . وقال آخرون : بل حجنا أتم . فنهاهم الله عن ذلك . وقال مالك في الموطأ : الجدال في الحج أن قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وإنه جبل هناك ، وكان غيرهم يقفون بعرفات ، وكل من الفريقين يقول : نحن أصوب . وقال القاسم بن محمد : كانوا يجعلون الشهور على العدد فيختلفون في يوم النحر بسبب ذلك . فبعضهم يقول هذا يوم عيد ، ويقول آخرون بل غداً فكأنه قيل لهم : قد بينا لكم أن الأهلة هي مواقيت الحج فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه . قال القفال : ويدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق ذلك عليهم وقالوا : نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً . فقال صلى الله عليه وسلم " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " فتركوا الجدال حينئذ . وقال عبد الرحمان بن زيد : جدالهم في الحج اختلافهم في أن أيهم المصيب مقام إبراهيم . وقيل : إنه النسيء نهوا عن ذلك فإن الزمان قد عاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، قال القاضي أبو بكر الباقلاني : لو حمل النفي في الألفاظ الثلاثة على الخبر وجب أن يحمل الرفث على الجماع ، والفسوق على الزنا ، والجدال على الشك في الحج ، ليصح خبر الله تعالى بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج المعتبر . وإن حملنا الكلام على النهي صح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش ، وبالفسوق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أصنافه ، فعلى هذا يكون في الآية بعث على الأخلاق الحميدة والآداب الحسنة . وبالحقيقة لا رفث نهي عن طاعة القوّة الشهوية التي توجب الانهماك في الفجور ، ولا فسوق إشارة إلى قهر القوّة الغضبية الداعية إلى التمرد والاستعلاء ، ولا جدال رمز إلى تسخير القوّة الوهمية التي تحمل الإنسان على الخلاف في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحكامه ، فمنه تنشأ الآراء المتخالفة والأهواء المتصادمة والعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة . واعلم أن الجدال ليس منهياً عنه بجميع أقسامه وإنما المذموم منه هو الذي منشأه صرف العصبية ومحض المراء لتنفيذ الآراء الزائفة وتحصيل الأعراض الزائلة والأغراض الفارغة ، وأما الذب عن الدين القويم والدعاء إلى الصراط المستقيم وإلزام الخصم الألد وإفحام المعاند اللجوج بمقدمات مشهورة وآراء محمودة حتى يستقر الحق في مركزه ويضمحل صولة الباطل ويركد ريحه فمأمور به في قوله عز من قائل { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] وإنه إحدى شعب البيان وقد يكون أنجع من قاطعة البرهان { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } لم يتعرض لمقابل الخير وإن كان عالماً به أيضاً لنكتة هي أني إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك ضده أخفيته وسترته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك هكذا في الدنيا فكيف تكون في العقبى ؟ وفيه ترغيب للمطيعين وإيذان بأنهم من المحسنين " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " والعبد الصالح إذا علم اطلاع مولاه على سرائره وخفاياه اجتهد في أداء ما أمره به ، واحترز عن ارتكاب ما نهاه عنه ، ومن غاية عنايته حثهم على الخير بعدما نهاهم عن الشر ليستعملوا مكان الرفث التفث ، وبدل الفسوق رعاية الحقوق ، ومقام الجدال والشقاق الوفاق مع الرفاق تتميماً لمكارم الأخلاق وتنبيهاً على شرف النفس وطيب الأعراق بدليل قوله { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن ذلك خير الزاد . وليس السفر من الدنيا أهون من السفر في الدنيا ، وهذا لابد له من زاد فكذا ذلك . بل يزداد فإن زاد الدنيا يخلصك عن عذاب منقطع موهوم ، وزاد الآخرة ينجيك من عذاب أبديّ معلوم . زاد الدنيا يوصلك إلى متاع الغرور ، وزاد الآخرة يبلغك دار السرور . وزاد الدنيا سبب حصول حظوظ النفس ، وزاد الآخرة سبب الوصول إلى عتبة الجلال والقدس .
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى *** ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على أن لا تكون كمثله *** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقيل : نزلت في ناس من اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون : نحن متوكلون . ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموهم وغصبوهم فأمرهم الله سبحانه أن يتزوّدوا ما يتبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم . وفيه دليل على أن القادر على استصحاب الزاد في السفر ، إذا لم يستصحب عصى الله في ذلك ، ففيه إبطال حكمة الله تعالى ورفع الوسائط والروابط التي عليها تدور المناجح وبها تنتظم المصالح . روي أن بعض العارفين زهد فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار وقال : لا أسأل أحداً شيئاً حتى يأتيني رزقي . فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعاً لم يأته شيء حتى كاد يتلف . فقال : يا رب إن أحببتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك . فألهمه الله تعالى في قلبه : وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس فدخل المدينة وأقام بين ظهراني الناس فجاء هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك ، فسمع أردت أن تبطل حكمته بزهدك في الدنيا ، أما علمت أنه يرزق العباد بأيدي العباد أحب إليه من أن يرزقهم بيد القدرة . وقيل : في الآية حذف أي تزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى واتقون وخافوا عقابي . وفيه تنبيه على كمال عظمته كقوله " أنا أبو النجم وشعري شعري " { يا أولي الألباب } يعني أن قضية العقل تقوى الله ومن لم يتقه فلا لب له في التحقيق . ولما منع الناس عن الجدال اختلج في قلب المكلف شبهة أن التجارة لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها يجب أن تكون منهية . وأيضاً أنها كانت محرمة في الجاهلية وقت الحج وأنه أمر غير مستحسن ظاهراً لأن المشتغل بخدمة الله تعالى يجب أن لا يتلوث بالأطماع الدنيوية . وأيضاً كان من الممكن أن تقاس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة والاصطياد في كونها محظورة بالإحرام فلدفع هذه الشبهة نزلت .