البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (197)

الجدال : فعال مصدر : جادل ، وهي المخاصمة الشديدة ، مشتق ذلك من الجدالة ، وهي الأرض .

كان كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه ، فيكون كمن ضرب منه الجدالة ، ومنه قول الشاعر :

قد أنزل الآلة بعد الآلة***

وأنزل العاجز بالجدالة

أي : بالأرض ، وقيل : اشتق ذلك من الجدل وهو القتل ، ومنه قيل : زمام مجدول ، وقيل : له جديل ، لقتله وقيل : للصقر : الأجدل لشدّته واجتماع حلقه ، كأن بعضه فتل في بعض فقوي .

الزاد : معروف ، وهو ما يستصحبه الإنسان للسفر من مأكول ، ومشروب ، ومركوب ، وملبوس ، إن احتاج إلى ذلك ، وألفه منقلبة عن واو ، يدل على ذلك قولهم : تزوّد ، تفعَّل من الزاد .

{ الحج أشهر معلومات } لما أمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة ، وكانت العمرة لا وقت لها معلوماً .

بين أن الحج له وقت معلوم ، فهذه مناسبة هذه الآية لما قبلها .

والحج أشهر ، مبتدأ وخبر ولا بد من حذف ، إذ الأشهر ليست الحج ، وذلك الحذف أما في المبتدأ ، فالتقدير : أشهر الحج ، أو وقت الحج ، أو : في الخبر ، أي : الحج حج أشهر ، أو يكون : الأصل في أشهر ، فاتسع فيه ، وأخبر بالظرف عن الحج لما كان يقع فيه ، وجعل إياه على سبيل التوسع والمجاز ، وعلى هذا التقدير كان يجوز النصب ، ولا يمتنع في العربية .

قال ابن عطية : ومن قدر الكلام : في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ، ولم يقرأ بنصبها أحد .

انتهى كلامه .

ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر ، كما ذكر ابن عطية : لأنا قد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع ، وهذا لا خلاف فيه عند البصريين ، أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبراً عن المصادر ، فإنه يجوز عندهم الرفع والنصب ، وسواء كان الحدث مستغرقاً للزمان أو غير مستغرق ، وأما الكوفيون فعندهم في ذلك تفصيل ، وهو : أن الحدث إما أن يكون مستغرقاً للزمان ، فيرفع ، ولا يجوز فيه النصب ، أو غير مستغرق فذهب هشام أنه يجب في الرفع ، فيقول : ميعادك يوم ، وثلاثة أيام ، وذهب الفراء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين ، ونقل عن الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر ، لأن : أشهراً ، نكرة غير محصورة .

وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه ، فيمكن أن يكون له القولان ، قول البصريين ، وقول هشام ، وجمع شهر على أفعل لأنه جمع قلة بخلاف قوله { إن عدة الشهور } فإنه جاء على : فعول ، وهو جمع الكثرة .

وظاهر لفظ أشهر الجمع ، وهو : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، كله ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والزهري ، والربيع ، ومالك .

وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وابن سيرين ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وطاووس ، والنخعي ، وقتادة ، ومكحول ، والسدي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وابن حبيب ، عن مالك ، هي : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة .

وروي هذا عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وحكى الزمخشري ، وصاحب ( المنتخب ) عن الشافعي : أن الثالث التسعة من ذي الحجة مع ليلة النحر ، لأن الحج يفوت بطلوع الفجر .

وهذان القولان فيهما مجاز ، إذ أطلق على بعض الشهر ، شهر .

وقال الفراء : تقول العرب : له اليوم يومان لم أره ، وإنما هو وبعض يوم آخر ، وإنما قالوا ذلك تغليباً لأكثر الزمان على أقله ، وهو كما نقل في الحديث : أيام منى ثلاثة أيام وإنما هي يومان وبعض الثالث ، وهو من باب إطلاق بعض على كل ، وكما قال الشاعر :

ثلاثون شهراً في ثلاثة أحوال***

على أحد التأويلين ، قيل : ولأن العرب توقع الجمع على التثنية إذا كانت التثنية أقل الجمع ، وقال الزمخشري .

فإن قلت : فكيف كان الشهران .

وبعض الشهر أشهراً ؟ قلت : اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، بدليل قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما } فلا سؤال فيه إذن ، وإنما يكون موضعاً للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات .

انتهى كلامه .

وما ذكره الدعوى فيه عامة ، وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، وهذا فيه النزاع .

والدليل الذي ذكره خاص ، وهو : { فقد صغت قلوبكما } وهذا لا خلاف فيه ، ولإطلاق الجمع في مثل هذا على التثنية شروط ذكرت في النحو و : أشهر ، ليس من باب { فقد صغت قلوبكما } فلا يمكن أن يستدل به عليه .

وقوله : فلا سؤال فيه ، إذن ليس بجيد ، لأنه فرض السؤال بقوله : فإن قلت ؟ وقوله فإنما كان يكون موضعاً للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات ، ولا فرق عندنا بين شهر وبين قوله ثلاثة أشهر ، لأنه كما يدخل المجاز في لفظ أشهر ، كذلك قد يدخل المجاز في العدد ، ألا ترى إلى ما حكاه الفراء : له اليوم يومان لم أره ؟ قال : وإنما هو يوم وبعض يوم آخر ، وإلى قول امرء :

ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال

على ما قدّمنا ذكره ، وإلى ما حكي عن العرب ، ما رأيته مذ خمسة أيام وإن كنت قد رأيته في اليوم الأول والخامس فلم يشمل الإنتفاء خمسة أيام جميعها بل تجعل ما رأيته في بعضه ، وانتفت الرؤية في بعضه ، كان يوم كامل لم تره فيه ، فإذا كان هذا موجوداً في كلامهم فلا فرق بين أشهر ، وبين ثلاثة أشهر ، ولكن مجاز الجمع أقرب من مجاز العدد .

قالوا : وثمرة الخلاف بين قول من جعل الأشهر هي الثلاثة بكمالها ، وبين من جعلها شهرين وبعض الثالث ، يظهر في تعلق الذم فيما يقع من الأعمال يوم النحر ، فعلى القول الأول لا يلزمه دم لأنها وقعت في أشهر الحج ، وعلى الثاني يلزمه ، لأنه قد انقضى الحج بيوم النحر ، وأخَّر عمل ذلك عن وقته .

وفائدة التوقيت بالأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلاَّ فيها ، ويكره الإحرام بالحج في غيرها عند أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وبه قال النخعي .

قال : ولا يحل حتى يقضي حجه .

وقال عطاء ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو الثور : لا يصح ، وينقلب عمرة ويحل لها .

وقال ابن عباس : من سنة الحج الإحرام به .

وسبب الخلاف اختلافهم في المحذوف في قوله : { الحج أشهر معلومات } هل التقدير : الإحرام بالحج أو أفعال الحج ؟ وذكر الحج في هذه الأشهر لا يدل على أن العمرة لا تقع ، وما روي عن عمر وابنه عبد الله أن العمرة لا تستحب فيها ، فكأن هذه الأشهر مخلصة للحج .

وروي أن عمر كان يخفق الناس بالدرّة ، وينهاهم عن الاعتمار فيهن ، وعن ابن عمر أنه قال لرجل : إن أطلقني انتظرت ، حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة .

ومعنى : معلومات ، معروفات عند الناس ، وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقرراً عندهم .

{ فمن فرض فيهن الحج } أي : من ألزم نفسه الحج فيهن ، وأصل الفرض الحرَ الذي يكون في السهام والقسي وغيرها ، ومنه فرضة النهر والجبل ، والمراد بهذا الفرض ما يصير به المحرم محرماً ، قال ابن مسعود : وهو الإهلال بالحج والإحرام ، وقال عطاء ، وطاووس : هو أن يلبي ، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين رحمهم الله ، وهي رواية شريك عن ابن عباس : إن فرض الحج بالتلبية .

وروي عن عائشة : لا إحرام إلاَّ لمن أهلَّ ولبَّى ، وأخذ به أبو حنيفة وأصحابه ، وابن حبيب ، وقالوا ، هم وأهل الظاهر : إنها ركن من أركان الحج .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قلد بدنته وساقها يريد الإحرام .

فقد أحرم ، قول هذا على أن مذهبه وجوب التلبية ، أو ما قام مقامها من الدم ، وروي عن ابن عمر : إذا قلد بدنته وساقها فقد أحرم ، وروي عن علي ، وقيس بن سعد ، وابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، ومجاهد ، والشعبي ، وابن سيرين ، وجابر بن زيد ، وابن جبير : أنه لا يكون محرماً بذلك ، وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحسن : فرض الحج الإحرام به ، وبه قال الشافعي .

وهذه الأقوال كلها مع اشتراط النية .

وملخص ذلك أنه يكون محرماً بالنية ، والإحرام عند مالك ، والشافعي ، وبالنية والتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة ، أو النية وإشعار الهدي أو تقليده عند جماعة من العلماء .

و : مَنْ ، شرطية أو موصولة ، و : فيهن ، متعلق بفرض ، والضمير عائد على : أشهر ، ولم يقل : فيها ، لأن أشهراً جمع قلة ، وهو جار على الكثير المستعمل من أن جمع القلة لما لا يعقل يجرى مجرى الجمع مطلقاً للعاقلات على الكثير المستعمل أيضاً ، وقال قوم : هما سواء في الاستعمال .

{ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } الرفث هنا قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، والزهري ، والسدي : هو الجماع ؛ وقال ابن عمر ، وطاووس ، وعطاء ، وغيرهم : هو الإفحاش للمرأة بالكلام ، كقوله : إذا أحللنا فعلنا بك كذا ، لا يكني ، وقال قوم : الإفحاش بذكر النساء ، كان ذلك بحضرتهن أم لا ؛ وقال قوم : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من أهله ، وقال أبو عبيدة : هو اللغو من الكلام ، وقال ابن الزبير : هو التعرض بمعانقة ومواعدة أو مداعبة أو غمز .

وملخص هذه الأقوال أنها دائرة بين شيء يفسده وهو الجماع ، أو شيء لا يليق لمن كان ملتبساً بالحج لحرمة الحج .

والفسوق : فسر هذا بفعل ما نهى عنه في الإحرام من قتل صيد ، وحلق شعر ، والمعاصي كلها لا يختص منها شيء دون شيء قاله ابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاووس .

أو الذبح للأصنام ومنه : { أو فسقاً أهل لغير الله به } قاله ابن زيد ، ومالك ، أو التنابذ بالألقاب قال : { بئس الاسم الفسوق } قاله الضحاك ، أو السباب منه : «سباب المسلم فسوق » .

قاله ابن عمر أيضاً ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والسدي ، ورجح محمد بن جرير أنه ما نهي عنه الحاج في إحرامه لقوله : { فمن فرض فيهن الحج } .

وقد علم أن جميع المعاصي محرم على كل أحد من محرم وغيره ، وكذلك التنابذ ، ورجح ابن عطية ، والقرطبي المفسر وغيرهما قول من قال : إنه جميع المعاصي لعمومه جميع الأقوال والأفعال ، ولأنه قول الأكثر من الصحابة والتابعين ، ولأنه روي : " والذي نفسي بيده ، ما بين السماء والأرض عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله ، أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال "

وقال العلماء : الحج المبرور هو الذي لم يعص الله في أثناء أدائه ؛ وقال الفراء : هو الذي لم يعص الله بعده .

والجدال : هنا مماراة المسلم حتى يغضب ، فأما في مذاكرة العلم فلا نهي عنها ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد .

أو السباب ، قاله ابن عمر ، وقتادة .

أو : الاختلاف : أيهم صادف موقف أبيهم ؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، تقف قريش في غير موقف العرب ، ثم يتجادلون بعد ذلك ، قاله ابن زيد ، ومالك .

أو يقول قوم : الحج اليوم ، وقوم الحج غداً ، قاله القاسم .

أو المماراة في الشهور حسبما كانت العرب عليه من الذي كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة ، ويقف بعضهم بجمع ، وبعضهم بعرفة ، ويتمارون في الصواب من ذلك ، قاله مجاهد .

قال ابن عطية : وهذا أصح الأقوال ، وأظهرها قرر الشرع وقت الحج وإحرامه حتم لا جدال فيه .

أو قول طائفة : حجنا أبر من حجكم ، وتقول الأخرى مثل ذلك ، قاله محمد بن كعب القرطبي ، أو الفخر بالآباء ، قاله بعضهم ، أو قول الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم إنا أهللنا بالحج ، حين قال في حجة الوداع : « من لم يكن معه هدي فليحلل من إحرامه وليجعلها عمرة » قاله مقاتل .

أو المراء مع الرفقاء والخدام والمكارين ، قاله الزمخشري .

أو كلَّ ما يسمى جدالاً للتغالب ، وحظ النفس ، فتدخل فيه الأقوال التسعة السابقة .

و : الفاء ، في : فلا رفث ، هي الداخلة في جواب الشرط ، إن قدر : من ، شرطاً ، وهو الأظهر ، أو في الخبر إن قدر : من ، موصولاً .

وقرأ ابن مسعود والأعمش : رفوث ، وقد تقدّم أن الرفث والرفوث مصدران .

وقرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين في الثلاثة ، ورويت عن عاصم في بعض الطرق ، وهو طريق المفضل عن عاصم ، وقرأ أبو رجاء العطاردي بالنصب والتنوين في الثلاثة .

وقرأ الكوفيون ، ونافع بفتح الثلاثة من غير تنوين ؛ وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر برفع : فلا رفث ولا فسوق ، والتنوين ، وفتح : ولا جدال ، من غير تنوين .

فأمّا من رفع الثلاثة فإنه جعل : لا ، غير عاملة ورفع ما بعدها بالابتداء ، والخبر عن الجميع هو قوله : في الحج ، ويجوز أن يكون خبراً عن المبتدأ الأول ، وحذف خبر الثاني .

والثالث للدلالة ، ويجوز أن يكون خبراً عن الثالث وحذف خبر الأول والثاني للدلالة ، ولا يجوز أن يكون خبراً عن الثاني ويكون قد حذف خبر الأول والثالث لقبح هذا التركيب والفصل .

قيل : ويجوز أن تكون : لا ، عاملة عمل ليس فيكون : في الحج ، في موضع نصب ، وهذا الوجه جزم به ابن عطية ، فقال : و : لا ، في معنى ليس في قراءة الرفع ، وهذا الذي جوّزه وجزم به ابن عطية ضعيف ، لأن إعمال : لا ، إعمال : ليس ، قليل جداً ، لم يجىء منه في لسان العرب إلاَّ ما لا بال له ، والذي يحفظ من ذلك قوله :

تعزّ فلا شيء على الأرض باقياً***

ولا وزرٌ مما قضى الله واقياً

أنشده ابن مالك ، ولا أعرف هذا البيت إلاَّ من جهته ، وقال النابغة الجعدي :

وحلت سواد القلب لا أنا باغياً***

سواها ولا في حبها متراخياً

وقال آخر :

أنكرتها بعد أعوام مضين لها***

لا الدار دار ولا الجيرانُ جيرانا

وخرج على ذلك سيبويه قول الشاعر :

من صدّ عن نيرانها***

فأنا ابن قيس لا براح

وهذا كله يحتمل التأويل ، وعلى أن يحمل على ظاهره لا ينتهي من الكثرة بحيث تبنى عليه القواعد ، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله الذي هو أفصح الكلام وأجله ، ويعدل عن الوجه الكثير الفصيح .

وأما قراءة النصب والتنوين فإنها منصوبة على المصادر ، والعامل فيها أفعال من لفظها ، التقدير : فلا يرفث رفثاً ، ولا يفسق فسوقاً ، ولا يجادل جدالاً .

و : في الحج ، متعلق بما شئت من هذه الأفعال على طريقة الإعمال والتنازع .

وأما قراءة الفتح في الثلاثة من غير تنوين ، فالخلاف في الحركة ، أهي حركة إعراب أو حركة بناء ؟ الثاني قول الجمهور ، والدلائل مذكورة في النحو ، وإذا بنى معها على الفتح فهل المجموع من لا والمبنى معها في موضع رفع على الابتداء ؟ وإن كانت : لا ، عاملة في الاسم النصب على الموضع ، ولا خبر لها ، أو ليس المجموع في موضع مبتدأ ؟ بل .

لا ، عاملة في ذلك الاسم النصب على الموضع ، وما بعدها خبر : لا ، إذا أجريت مجرى .

إن ، في نصب الاسم ورفع الخبر ، قولان للنحويين ، الأول : قول سيبويه ، والثاني : الأخفش ، فعلى هذين القولين يتفرّع إعراب : في الحج ، فيكون في موضع خبر المبتدأ على مذهب سيبويه ، وفي موضع خبر : لا ، على مذهب الأخفش .

وأما قراءة من رفع ونون : فلا رفث ولا فسوق ، وفتح من غير تنوين : ولا جدال ، فعلى ما اخترناه من الرفع على الابتداء ، وعلى مذهب سيبويه : إن المفتوح مع : لا ، في موضع رفع على الابتداء ، يكون : في الحج ، خبراً عن الجميع ، لأنه ليس فيه ، إلاَّ العطف ، عطف مبتدأ على مبتدأ .

وأمّا قول الأخفش فلا يصح أن يكون : في الحج ، إلاَّ خبراً للمبتدأين ، أو : لا ، أو خبر للا ، لاختلاف المعرب في الحج ، يطلبه المبتدأ أو تطلبه لا فقد اختلف المعرب فلا يجوز أن يكون خبراً عنهما .

وقال ابن عطية في هذه القراءة ما نصه : و : لا ، بمعنى ليس في قراءة الرفع ، وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو ، و : في الحج ، خبر : لا جدال ، وحذف الخبر هنا هو على مذهب أبي علي ، وقد خولف في ذلك بل : في الحج ، هو خبر الكل ، إذ هو في موضع رفع في الوجهين ، لأن : لا ، إنما تعمل على بابها فيما يليها ، وخبرها مرفوع بأن على حاله من خبر الابتداء ، وظنّ أبو علي أنها بمنزلة : ليس ، في نصب الخبر ، وليس كذلك ، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و : في الحج ، هو الخبر انتهى كلامه .

وفيه مناقشات .

الأولى : قوله و : لا ، بمعنى : ليس ، وقد قدّمنا أن كون : لا ، بمعنى ليس هو من القلة في كلامهم بحيث لا تبنى عليه القواعد ، وبيَّنا أن ارتفاع مثل هذا إنما هو على الابتداء .

الثانية : قوله : وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو ، وقد نص الناس على أن خبر كان وأخواتها ومنها : ليس ، لا يجوز حذفه لا اختصاراً ، ولا اقتصاراً ، ثم ذكروا أنه قد حذف خبر ليس في الشعر في قوله :

يرجو جوارك حين ليس مجير***

على طريق الضرورة أو الندور ، وما كان هكذا فلا يحمل القرآن عليه .

الثالثة : قوله بل : في الحج ، هو خبر الكل إذ هو في موضع رفع على الوجهين ، يعني بالوجهين : كونها بمعنى : ليس ، وكونها مبنية مع : لا ، وهذا لا يصح ، لأنها إذا كانت بمعنى ليس احتاجت إلى خبر منصوب ، وإذا كانت مبنية مع لا احتاجت إلى أن يرتفع الخبر إما لكونها هي العاملة فيه الرفع على مذهب الأخفش ، وإما لكونها مع معمولها في موضع رفع على الابتداء فيقتضي أن يكون خبراً للمبتدأ على مذهب سيبويه ، على ما قدمناه من الخلاف ، وإذا تقرر هذا امتنع أن يكون : في الحج ، في موضع رفع على ما ذكر ابن عطية من الوجهين .

الرابعة : قوله : لأن : لا ، إنما تعمل على بابها فيما تليها ، وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء ، هذا تعليل لكون : في الحج ، خبراً للكل ، إذ هي في موضع رفع في الوجهين على ما ذهب إليه ، وقد بينا أن ذلك لا يجوز ، لأنها إذا كانت بمعنى : ليس ، كان خبرها في موضع نصب ، ولا يناسب هذا التعليل إلاَّ كونها تعمل عمل إن فقط ، على مذهب سيبويه لا على مذهب الأخفش ، لأنه على مذهب الأخفش يكون : في الحج ، في موضع رفع بلا ، و : لا ، هي العاملة الرفع ، فاختلف المعرب على مذهبه ، لأن قراءة الرفع هي على الابتداء ، وقراءة الفتح في : ولا جدال ، هي على عمل : لا ، عمل إن .

الخامسة : قوله : وظنّ أبو علي أنها بمنزلة : ليس ، في نصب الخبر وليس كذلك ، هذا الظنّ صحيح ، وهو كما ظنّ ، ويدل عليه أن العرب حين صرحت بالخبر على أن : لا ، بمعنى ليس أتت به منصوباً في شعرها ، فدل على أن ما ظنه أبو علي من نصب الخبر صحيح ، لكنه من الندور بحيث لا تبنى عليه القواعد كما ذكرنا ، فأجازه أبو علي ، مثل هذا في القرآن لا ينبغي .

السادسة : قوله : بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و : في الحج ، هو الخبر ، هذا الذي ذكره توكيد لما تقرر قبل من أنها إذا كانت بمعنى : ليس ، إنما تعمل في الاسم الرفع فقط ، وهي والاسم في موضع رفع بالابتداء ، وأن الخبر يكون مرفوعاً لذلك المبتدأ ، وقد بينا أن ذلك ليس بصحيح لنصب العرب الخبر إذا كانت بمعنى : ليس ، وعلى تقدير ما قاله لا يمكننا العلم بأنها تعمل عمل ليس في الاسم فقط إذا كان الخبر مرفوعاً ، لأنه ليس لنا إلاَّ صورة : لا رجل قائم ، ولا امرأة .

فرجل هنا مبتدأ ، وقائم خبر عنه ، وهي غير عاملة ، وإنما يمتاز كونها بمعنى ليس ، وارتفاع الاسم بها من كونه مبتدأ بنصب الخبر إذا كانت بمعنى ليس ، ورفع الخبر إذا كان ما بعدها مرفوعاً بالابتداء ، وإلاَّ فلا يمكن العلم بذلك أصلاً لرجحان أن يكون ذلك الاسم مبتدأ ، والمرفوع بعده خبره .

وقال الزمخشري : وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال ، كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ؛ وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب ، فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة ، وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة ، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج .

واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال ، بقوله عليه السلام : « من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمّه » ، وأنه لم يذكر الجدال .

انتهى كلامه .

وفيه تعقبات .

الأول : تأويله على أبي عمرو ، وابن كثير أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع والثالث على الإخبار بسبب البناء ، والرفع والبناء لا يقتضيان شيئاً من ذلك ، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنياً ، وأما أن الرفع يقتضي النهي ، والبناء يقتضي الخبر فلا ، ثم قراءة الثلاثة بالرفع وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك ، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم ، وقراءة الرفع مرجحة له ، فقراءتهما الأوّلين بالرفع والثالث بالبناء على الفتح إنما ذلك سنة متبعة إذا لم يتأد ذلك إليهما إلاَّ على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب .

الثاني : قوله : كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ، وترشيح ذلك بالتاريخ الذي ذكره بهذا التفسير مناقض لما شرح هو به الجدال ، لأنه قال قبل : ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين .

وهذا التفسير في الجدال مخالف لذلك التفسير .

الثالث : أن التاريخ الذي ذكره هو قولان في تفسير : ولا جدال ، للمتقدمين اختلافهم : في الموقف : لابن زيد ، ومالك ، والنسيء : لمجاهد ، فجعلهما هو شيئاً واحداً سبباً للإخبار أن لا جدال في الحج .

الرابع : قوله واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال إلى آخر كلامه ، ولا دليل في ذلك ، لأن الجدال إن كان من باب المحظور فقد اندرج في قوله : { ولا فسوق } لعمومه ، وإن كان من باب المكروه وترك الأولى ، فلا يجعل ذلك شرطاً في غفران الذنوب ، فلذلك رتب صلى الله عليه وسلم غفران الذنوب على النهي عن ما يفسد الحج من المحظور فيه ، الجائز في غير الحج ، وهو الجماع المكني عنه بالرفث ؛ ومن المحظور الممنوع منه مطلقاً في الحج وفي غيره ، وهو معصية الله المعبر عنها بالفسوق ، وجاء قوله : ولا جدال ، من باب التتميم لما ينبغي أن يكون عليه الحاج ، من : إفراغ أعماله للحج ، وعدم المخاصمة والمجادلة .

فمقصد الآية غير مقصد الحديث ، فلذلك جمع في الآية بين الثلاثة ، وفي الحديث اقتصر على الاثنين .

وقد بقي الكلام على هذه الجملة : أهي مراد بها النفي حقيقة فيكون إخباراً ؟ أو صورتها صورة النفي والمراد به النهي ؟ اختلفوا في ذلك فقال في ( المنتخب ) قال أهل المعاني : ظاهر الآية نفي ، ومعناها نهي .

أي : فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، كقوله تعالى : { لا ريب فيه } أي : لا ترتابوا فيه ، وذكر القاضي أن ظاهره الخبر ، ويحتمل النهي ، فإذا حمل على الخبر فمعناه : أن حجه لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل يفسد ، فهو كالضد لها وهي مانعة من صحته ، ولا يستقيم هذا المعنى ، إلاَّ إن أريد بالرفث : الجماع ، والفسوق : الزنا ، وبالجدال : الشك في الحج وفي وجوبه ، لأن الشك في ذلك كفر ولا يصح معه الحج ، وحملت هذه الألفاظ على هذه المعاني حتى يصح خبر الله ، لأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، وإذا حمل على النهي ، وهو خلاف الظاهر ، صلح أن يراد بالرفث : الجماع ، ومقدماته ، وقول الفحش والفسوق والجدال جميع أنواعهما لإطلاق اللفظ ، فيتناول جميع أقسامه ، لأن النهي عن الشيء نهي عن جميع أقسامه .

وتكون الآية جلية على الأخلاق الجميلة ، ومشيرة إلى قهر القوة الشهوانية ، بقوله : { فلا رفث } وإلى قهر القوة النفسانية بقوله : { ولا فسوق } وإلى قهر القوة الوهمية بقوله : { ولا جدال } فذكر هذه الثلاثة لأن منشأ الشر محصور فيها ، وحيث نهى عن الجدال حمل الجدال على تقرير الباطل وطلب المال والجاه ، لا على تقرير الحق ودعاء الخلق إلى الله والذب عن دينه .

انتهى ما لخصناه من كلامه .

والذي نختاره أنها جملة ، صورتها صورة الخبر ، والمعنى على النهي ، لأنه لو أريد حقيقة الخبر لكان المؤدّي لهذا المعنى تركيب غير هذا التركيب ، ألا ترى أنه لو قال إنسان مثلاً : من دخل في الصلاة فلا جماع لامرأته ، ولا زنا بغيرها ، ولا كفر في الصلاة ، يريد الخبر ، وأن هذه الأشياء مفسدة لها لم يكن هذا الكلام من الفصاحة في رتبة قوله : من دخل في الصلاة فلا صلاة له مع جماع امرأته وزناه وكفره ؟ فالذي يناسب المعنى الخبري نفي صحة الحج مع وجود الرفث والفسوق والجدال لا نفيهنّ فيه ، هكذا الترتيب العربي الفصيح ، وإنما أتى في النهي بصورة النفي إيذانا بأن المنهي عنه يستبعد الوقوع في الحج ، حتى كأنه مما لا يوجد ، ومما لا يصح الإخبار عنه بأنه لا يوجد .

وقال في ( المنتخب ) أيضاً : إن كان المراد بالرفث الجماع فيكون نهياً عن ما يقتضي فساد الحج ، والإجماع منعقد على ذلك ، ويكون نفياً للصحة مع وجوده ، وإن كان المراد به التحدث مع النساء في أمر الجماع ، أو الفحش من الكلام ، فيكون نهياً لكمال الفضيلة .

وقال ابن العربي ليس نفياً لوجود الرفث ، بل نفي لمشروعيته ، فإن الرفث يوجد من بعض الناس فيه ، وإخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً ، لا إلى وجوده محسوساً ، كقوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ومعناه مشروعاً لا محسوساً ، فإنا نجد المطلقات لا يتربصنّ ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي ، وهذا كقوله : { لا يمسه إلاَّ المطهرون } إذا قلنا إنه وارد في الآدميين ، وهو الصحيح ، لأن معناه لا يمسه أحد منهم شرعاً ، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء ، فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النهي ، وما وجد ذلك قط ، ولا يصح أن يوجد ، فإنهما يختلفان حقيقة ، ويتباينان وصفاً انتهى كلام ابن العربي .

وتلخص في هذه الجملة أربعة أقوال :

أحدهما : أنها إخبار بنفي أشياء مخصوصة وهي : الجماع ، والزنا ، والكفر .

الثاني : أنها إخبار بنفي المشروعية لا بنفي الوجود .

الثالث : أنها إخبار صورة ، والمراد بها النهي .

الرابع : التفرقة في قراءة ابن كثير ، وابن عمر ، وبأن الأوّلين في معنى النهي ، والثالث خبر ، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت : مَنْ ، شرطية ، وفي موضع الخبر ، إن كانت : مَنْ ، موصولة .

وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزاء بالشرط ، إذا كان الشرط بالإسم ، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول إذا لم يكن إياه في المعنى ، ولا رابط هنا ملفوظ به ، فوجب أن يكون مقدراً .

ويحتمل وجهين .

أحدهما : أن يقدر منه ، بعد : ولا جدال ، ويكون : منه ، في موضع الصفة ، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم : السمن منوان بدرهم أي : منوان منه ، ومنه صفة للمنوين .

والثاني : أن يقدر بعد الحج ، وتقديره : في الحج منه أوله ، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط .

وللكوفيين تخريج في مثل هذا ، وهو أن تكون الألف واللام عوضاً من الضمير ، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله : في الحج ، في حجه ، فنابت الألف واللام عن الضمير ، وحصل بها الربط .

قال بعضهم : وكرر في الحج ، فقال : في الحج ، ولم يقل : فيه ، جرياً على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر ، كقول الشاعر :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء***

انتهى كلامه ، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول ، ولمجيئه في جملة غير الجملة الأولى ، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائداً على : من ، لا على : الحج ، أي : في فارض الحج .

وعلى ما اخترناه من أن المراد بهذه الإخبار النهي ، يكون هذه الأشياء الثلاثة منهياً عنها في الحج .

أما الرفث فأكثر أهل العلم ، خلفاً وسلفاً ، أنه يراد به هنا الجماع ، وأنه منهي عنه بالآية ، وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج ، وأن مقدماته توجب الدم ، إلاَّ ما رواه بعض المجهولين عن أبي هريره ، أنه سمع يقول : « للمحرم من إمرأته كل شيء إلاَّ الجماع » وقد اتفقت الأمة على خلافه ، وعلى أن من قبّل إمرأته بشهوة فعليه دم ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وابراهيم ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وهو قول فقهاء الأمصار .

وذهب أبو محمد بن حزم إلى حل تقبيل إمرأته ومباشرتها ، ويتجنب الوطىء .

وأما الفسوق والجدال ، وإن كان منهياً عنهما في غير الحج ، فإنما خص بالذكر في الحج تعظيماً لحرمة الحج ، ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير ، لفعل هذه العبادة ، أفحش وأعظم منه في غيرها ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حق الصائم : « فلا يرفث ولا يجهل ، فإن جهل عليه فليقل إني صائم ؟ » وإلى قوله وقد صرف وجه الفضل بن العباس عن ملاحظة النساء في الحج : « إن هذا يوم ، من ملك فيه سمعه وبصره غفر له ؟ » ومعلوم خطر ذلك في غير ذلك اليوم ، ولكنه خصه بالذكر تعظيماً لحرمته .

وفي قوله : ولا فسوق ، إشارة إلى أنه يحدث للحج توبة من المعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه .

{ وما تفعلوا من خير يعلمه الله } هذه جملة شرطية ، وتقدّم الكلام على إعراب نظيرها في قوله : { وما ننسخ من آية } وخص الخير ، وإن كان تعالى عالماً بالخير والشر ، حثاً على فعل الخير ، ولأن ما سبق من ذكر فرض الحج ، وهو خير ، ولأن نستبدل بتلك المنهيات أضدادها ، فنستبدل بالرفث الكلام الحسن والفعل الجميل ، وبالفسوق الطاعة ، والجدال الوفاق ، ولأن يكثر رجاء وجه الله تعالى ، ولأن يكون وعداً بالثواب .

وجواب الشرط وهو : يعلمه الله ، فإما أن يكون عبّر عن المجازاة عن فعل الخير بالعلم ، كأنه قيل : يجازكم الله به ، أو يكون ذكر المجازاة بعد ذكر العلم ، أي : يعلمه الله فيثيب عليه ، وفي قوله : وما تفعلوا ، التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وحمل على معنى : مِنْ ، إذ هو خروج من إفراد إلى جمع ، وعبر بقوله : تفعلوا ، عن ما يصدر عن الإنسان من فعل وقول ونية ، إما تغليباً للفعل ، وإما إطلاقاً على القول ، والإعتقاد لفظ الفعل ، فإنه يقال : أفعال الجوارح ، وأفعال اللسان ، وأفعال القلب ، والضمير في : يعلمه ، عائد على : ما ، من قوله : وما تفعلوا ، و : من ، في موضع نصب ، ويتعلق بمحذوف .

وقد خبط بعض المعربين فقال : إن : من خير ، متعلق : بتفعلوا ، وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره : وما تفعلوه فعلاً من خير يعلمه الله ، جزم بجواب الشرط ، والهاء في : يعلمه الله ، يعود إلى خير انتهى قوله .

ولولا أنه مسطر في التفسير لما حكيته ، وجهة التخبيط فيه أنه زعم أن : من خير ، متعلق : بتفعلوا ، ثم قال : وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر .

فإذا كان كذلك كان العامل فيه محذوفاً ، فيناقض هذا القول كون : من ، يتعلق : بتفعلوا ، لأن : من ، حيث تعلقت بتفعلوا كان العامل غير محذوفاً وقوله والهاء تعود إلى خير خطأ فاحش لأن الجملة جواب لجملة شرطية بالاسم ، فالهاء عائدة على الاسم ، أعني : اسم الشرط ، واذا جعلتها عائدة على الخير عري الجواب عن ضمير يعود على إسم الشرط ، وذلك لا يجوز ، لو قلت : من يأتني يخرج خالد ، ولا يقدر ضميراً يعود على إسم الشرط ، لم يجز بخلاف الشرط إذا كان بالحرف ، فإنه يجوز خلوّ الجملة من الضمير نحو : إن تأتني يخرج خالد .

{ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } روي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من اليمن يحجون بغير زاد ، ويقولون : نحن متوكلون بحج بيت الله أفلا يطعمنا ؟ فيتوصلون بالناس ، وربما ظلموا وغصبوا ، فأمروا بالتزود ، وأن لا يظلموا أو يكونوا كُلاًّ على الناس .

وروي عن ابن عمر قال : إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها ، واستأنفوا زاداً آخر ، فنهوا عن ذلك ، وأُمروا بالتحفظ بالزاد والتزود .

فعلى ما روي من سبب نزول هذه الآية يكون أمراً بالتزود في الأسفار الدنيوية ، والذي يدل عليه سياق ما قبل هذا الأمر وما بعده ، أن يكون الأمر بالتزود هنا بالنسبة إلى تحصيل الأعمال الصالحة التي تكون له كالزاد إلى سفره للآخرة ، ألا ترى أن قبله : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } ومعناه الحث والتحريض على فعل الخير الذي يترتب عليه الجزآء في الآخرة ؟ وبعده { فإن خير الزاد التقوى } والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن ما يتقى به النار ؟ ويكون مفعول : تزودوا ، محذوفاً تقديره ، وتزودوا التقوى ، أو : من التقوى ، ولما حذف المفعول أتى بخبر إن ظاهراً ليدل على أن المحذوف هو هذا الظاهر ، ولو لم يحذف المفعول لأتي به مضمراً عائداً على المفعول ، أو كان يأتي ظاهراً تفخيماً لذكر التقوى ، وتعظيماً لشأنها .

وقد قال بعضهم في التزود للاخرة :

إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى***

ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله***

وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقال بعض عرب الجاهلية :

فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت***

ولكن حمد الناس ليس بمخلد

ولكن منه باقيات وراثة***

فأورث بنيك بعضها وتزود

تزود إلى يوم الممات فإنه***

وإن كرهته النفس آخر موعد

وصعد سعدون المجنون تلاًّ في مقبرة ، وقد انصرف ناس من جنازة فناداهم :

ألاَ يا عسكر الأحياء***

هذا عسكر الموتى

أجابوا الدعوة الصغرى***

وهم منتظرو الكبرى

يحثون على الزاد***

ولا زاد سوى التقوى

يقولون لكم جدوا***

فهذا غاية الدنيا

وقيل : أمر بالتزود لسفر العبادة والمعاش ، وزاده الطعام والشراب والمركب والمال ، وبالتزود لسفر المعاد ، وزاده تقوى الله تعالى ؛ وهذا الزاد خير من الزاد الأول لقوله : { فإن خير الزاد التقوى } .

فتلخص من هذا كله ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه أمر بالتزود في أسفار الدنيا ، فيكون مفعول : تزودوا ، ما ينتفعون به ، فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم من السؤال ، وأنفسكم من الظلم ، وقال البغوي : قال المفسرون : التقوى هنا : الكعك والزيت والسويق والتمر والزبيب وما يشاكل ذلك من المطعومات .

والثاني : أنه أمر بالتزود لسفر الآخرة ، وهو الذي نختاره .

والثالث : أنه أمر بالتزود في السفرين ، كأن التقدير : وتزودوا ما تنتفعون به لعاجل سفركم وآجله .

وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : وتزودوا الرفيق الصالح ، إلاّ أن عنى به العمل الصالح ، فلا يبعد ، لأنه هو القول الثاني الذي اخترناه .

وقال أبو بكر الرازي : احتمل قوله : وتزودوا ، الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى ، فوجب الحمل عليهما ، إذ لم تقم دلالة على تخصيص أحد الأمرين ، وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج ، لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه ، كما نص على خطر الفسوق ، وإن كان محظوراً في غيره ، تعظيماً لحرمة الإحرام ، وإخباراً أنه فيه أعظم مأثماً .

ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه ، ودوام ثوابه ، وهذا يدل على بطلان مذهب أهل التصوف ، والذين يسافرون بغير زاد ولا راحلة ، لأنه تعالى خاطب بذلك من خاطبه بالحج ، وعلى هذا " قال النبي صلى الله عليه وسلم ، حين سئل عن الاستطاعة ، فقال : «هي الزاد والراحلة " انتهى كلامه .

ورد عليه بأن الكاملين في باب التوكل لا يطعن عليهم إن سافروا بغير زاد ، لأنه صح : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدوا خِماصاً ، وتروح بطاناً .

وقال تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقد طوى قوم الأيام بلا غذاء ، وبعضهم اكتفى باليسير من القوت في الأيام ذوات الأعداد ، وبعضهم بالجرع من الماء .

وصح من حديث أبي ذر اكتفاؤه بماء زمزم شهراً ، وخرج منها وله عكن ، وأن جماعة من الصحابة اكتفوا أياماً كثيرة ، كل واحد منهم بتمرة في اليوم .

فأما خرق العادات من دوران الرحى بالطحين ، وامتلاء الفرن بالعجين ، وإن لم يكن هناك طعام ، ونحو ذلك ، فحكوا وقوع ذلك .

وقد شرب سفيان بن عيينة فضلة سفيان الثوري من ماء زمزم فوجدها سويقاً ، وقد صح وثبت خرق العوائد لغير الأنبياء عليهم السلام ، فلا يتكرر ذلك إلاَّ مِنْ مدَّعِ ذلك ، وليس هو على طريق الاستقامة ككثير ممن شاهدناهم يدعون ، ويدعى ذلك لهم .

{ واتقون } هذا أمر بخوف الله تعالى ، ولما تقدم ما يدل على اجتناب أشياء في الحج ، وأمروا بالتزود للمعاد ، وأخبر بالتقوى عن خير الزاد ، ناسب ذلك كله الأمر بالتقوى ، والتحذير من ارتكاب ما تحل به عقوبته ، ثم قال { يا أولي الألباب } تحريكاً لامتثال الأمر بالتقوى ، لأنه لا يحذر العواقب ، إلاَّ مَن كان ذا لبٍّ ، فهو الذي تقوم عليه حجة الله ، وهو القابل للأمر والنهي ، وإذا كان ذو اللب لا يتقي الله ، فكأنه لا لب له ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا النداء في قوله : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } فأغنى عن إعادته .

والظاهر من اللب أنه لب مناط التكليف ، فيكون عاماً ، لا اللب الذي هو مكتسب بالتجارب ، فيكون خاصاً ، لأن المأمور باتقاء الله هم جميع المكلفين .

/خ202