القول في تأويل قوله تعالى { وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنّ أَكْثَرَ الْنّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وحلف هؤلاء المشركون من قريش بالله جَهْد أيْمانِهِمْ حلفهم ، لا يبعث الله من يموت بعد مماته ، وكذبوا وأبطلوا في أيمانهم التي حلفوا بها كذلك ، بل سيبعثه الله بعد مماته ، وعدا عليه أن يبعثهم وعد عباده ، والله لا يخلف الميعاد . ولَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ يقول : ولكن أكثر قريش لا يعلمون وعد الله عباده أنه باعثهم يوم القيامة بعد مماتهم أحياء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأقْسَمُوا باللّهِ جَهْدَ أيمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ تكذيبا بأمر الله أو بأمرنا ، فإن الناس صاروا في البعث فريقين : مكذّب ومصدّق . ذُكر لنا أن رجلاً قال لابن عباس : إن ناسا بهذا العراق يزعمون أن عليّا مبعوث قبل يوم القيامة ، ويتأوّلون هذه الاَية فقال ابن عباس : كذب أولئك ، إنما هذه الاَية للناس عامّة ، ولعمري لو كان عليّ مبعوثا قبل يوم القيامة ما أنكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال ابن عباس : إن رجالاً يقولون : إن عليّا مبعوث قبل يوم القيامة ، ويتأوّلون : وأقْسَمُوا باللّهِ جَهْدَ أيمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْدا عَلَيْهِ حَقّا وَلكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ قال : لو كنا نعلم أن عليّا مبعوث ، ما تزوّجنا نساءه ولا قسمنا ميراثه ، ولكن هذه للناس عامة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : وأقْسَمُوا باللّهِ جَهْدَ أيمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ قال : حلف رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عند رجل من المكذّبين ، فقال : والذي يرسل الروح من بعد الموت فقال : وإنك لتزعم أنك مبعوث من بعد الموت ؟ وأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين ، فأتاه يتقاضاه ، فكان فيما تكلم به : والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا فقال المشرك : إنك تزعم أنك تُبعث بعد الموت ؟ فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت فأنزل الله : وأقْسَمُوا باللّهِ جَهْدَ أيمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْدا عَلَيْهِ حَقّا وَلكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عطاء بن أبي رباح أنه أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : «قال الله : سبني ابن آدم ، ولم يكن ينبغي له أن يسبني ، وكذّبني ولم يكن ينبغي له أن يكذّبني فأما تكذيبه إياي فقال : وأقْسَمُوا باللّهِ جَهْدَ أيمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ قال : قلت : بَلى وَعْدا عَلَيْهِ حَقّا . وأما سَبّه إياي فقال : إنّ اللّهَ ثالثُ ثَلاثَةٍ ، وقلت : قُلْ هُوَ اللّهُ أحَدٌ اللّهُ الصّمَدُ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أحَدٌ » .
انتقال لحكاية مقالة أخرى من شنيع مقالاتهم في كفرهم ، واستدلال من أدلّة تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به إظهاراً لدعوته في مظهر المحال ، وذلك إنكارهم الحياة الثانية ولبعث بعد الموت . وذلك لم يتقدم له ذكر في هذه السورة سوى الاستطراد بقوله : { فالذين لا يؤمنون بالآخرة } [ سورة النحل : 22 ] .
والقسم على نفي البعث أرادوا به الدّلالة على يقينهم بانتفانه .
وتقدّم القول في { جهد أيمانهم } عند قوله تعالى : { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } في سورة العقود ( 53 ) .
وإنما أيقنوا بذلك وأقسموا عليه لأنّهم توهّموا أن سلامة الأجسام وعدم انخرامها شرط لقبولها الحياة ، وقد رأوا أجساد الموتى معرّضة للاضمحلال فكيف تعاد كما كانت .
وجملة لا يبعث الله من يموت } عطف بيان لجملة { أقسموا } وهي ما أقسموا عليه .
والبعث تقدّم آنفاً في قوله تعالى : { وما يشعرون أيّان يبعثون } [ سورة النمل : 65 ] .
والعدول عن ( الموتى ) إلى { من يموت } لقصد إيذان الصّلة بتعليل نفي البعث ، فإن الصّلة أقوى دلالة على التعليل من دلالة المشتق على عليّة الاشتقاق ، فهم جعلوا الاضمحلال منافياً لإعادة الحياة ، كما حكي عنهم { وقال الذين كفروا أإذا كنا تراباً وآباؤنا أإنا لمخرجون } [ سورة النمل : 67 ] .
و { بَلى } حرف لإبطال النفي في الخبر والاستفهام ، أي بل يبعثهم الله . وانتصب { وعداً } على المفعول المطلق مؤكداً لما دلّ عليْه حرف الإبطال من حصول البعث بعد الموت . ويسمى هذا النوع من المفعول المطلق مؤكداً لنفسه ، أي مؤكداً لمعنى فعل هو عين معنى المفعول المطلق .
و { عليه } صفة ل { وعداً } ، أي وعداً كالواجب عليه في أنه لا يقبل الخلف . ففي الكلام استعارة مكنية . شبه الوعد الذي وعده الله بمحض إرادته واختياره بالحقّ الواجب عليه ورُمز إليه بحرف الاستعلاء .
و { حقاً } صفة ثانية ل { وعداً } . والحقّ هنا بمعنى الصدق الذي لا يتخلّف . وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن } في سورة براءة ( 111 ) .
والمراد بأكثر الناس المشركون ، وهم يومئذٍ أكثر الناس . ومعنى لا يعلمون } أنهم لا يعلمون كيفيّة ذلك فيقيمون من الاستبعاد دليل استحالة حصول البعث بعد الفناء .
والاستدراك ناشىء عن جعله وعداً على الله حقّاً ، إذ يتوهّم السامع أن مثل ذلك لا يجهله أحد فجاء الاستدراك لرفع هذا التوهّم ، ولأن جملة { وعداً عليه حقاً } تقتضي إمكان وقوعه والناس يستبعدون ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.