قوله تعالى : { إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } أعطاكم الله ، { قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم } أنرزق ، { من لو يشاء الله أطعمه } وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة : أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله ، وهو ما جعلوا لله من حروثهم وأنعامهم ، قالوا : أنطعم ، أنرزق { من لو يشاء الله أطعمه }رزقه ، ثم لم يرزقه مع قدرته عليه ، فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله ، وهذا مما يتمسك به البخلاء ، يقولون : لا نعطي من حرمه الله . وهذا الذي يزعمون باطل ، لأن الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاءً ، فمنع الدنيا من الفقير لا بخلاً ، وأمر الغني بالإنفاق لا حاجةً إلى ماله ، ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما أمر ، وفرض له في مال الغني ، ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه ، { إن أنتم إلا في ضلال مبين } يقول الكفار للمؤمنين : ما أنتم إلا في خطأ بين في اتباعكم محمداً صلى الله عليه وسلم وترك ما نحن عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره : وإذا قيل لهؤلاء المشركين بالله : أنفقوا من رزق الله الذي رزقكم ، فأدّوا منه ما فرض الله عليكم فيه لأهل حاجتكم ومسكنتكم ، قال الذين أنكروا وحدانية الله ، وعبدوا مَنْ دونه للذين آمنوا بالله ورسوله : أنطعم أموالنا وطعامنا مَنْ لو يشاء الله أطعمه ؟ .
وفي قوله : { إنْ أنْتُمْ إلاّ فِي ضَلالٍ مُبِين }وجهان : أحدهما أن يكون من قيل الكفار للمؤمنين ، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ : ما أنتم أيها القومُ في قيلكم لنا : أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم ، إلا في ذهاب عن الحقّ ، وجور عن الرشد مُبِين لمن تأمله وتدبره ، أنه في ضلال وهذا أَوْلى وجهيه بتأويله . والوجه الاَخر : أن يكون ذلك من قيل الله للمشركين ، فيكون تأويله حينئذٍ : ما أنتم أيها الكافرون في قيلكم للمؤمنين : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ، إلا في ضلال مبين ، عن أن قيلكم ذلك لهم ضلال .
كانوا مع ما هم عليه من الكرم يشحّون على فقراء المسلمين فيمنعونهم البذل تشفّياً منهم فإذا سمعوا من القرآن ما فيه الأمر بالإِنفاق أو سألهم فقراء المسلمين من فضول أموالهم أو أن يعطوهم ما كانوا يجعلونه لله من أموالهم الذي حكاه الله عنهم بقوله : { وجعلوا للَّه مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } [ الأنعام : 136 ] فلعل من أسلم من الفقراء سألوا المشركين ما اعتادوا يعطونهم قَبْل إسلامهم فيقولون أعطوا مما رزقكم الله وقد سمعوا منهم كلمات إسلامية لم يكونوا يسمعونها من قبل ، وربما كانوا يحاجونهم بأن الله هو الرزاق ولا يقع في الكون كائن إلا بإرادته فجعل المشركون يتعللون لمنعهم بالاستهزاء فيقولون : لا نُطعم من لو يشاء الله لأطعمه ، وإذا كان هذا رزقناه الله فلماذا لم يرزقكم ، فلو شاء الله لأطعمكم كما أطعمنا . وقد يقول بعضهم ذلك جهلاً فإنهم كانوا يجهلون وضع صفات الله في مواضعها كما حكى الله عنهم : { وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] .
وإظهار الموصول من قوله : { قَالَ الذيِنَ كَفَرُوا } في مقام الإِضمار مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : قالوا أنطعم الخ لنكتة الإِيماء إلى أن صدور هذا القول منهم إنما هو لأجل كفرهم ولأجل إيمان الذين سئل الإِنفاق عليهم .
روى ابنُ عطية : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المشركين بالإِنفاق على المساكين في شدة أصابت الناس فشحّ فيها الأغنياء على المساكين ومنعوهم ما كانوا يعطونهم .
واللام في قوله : { لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } يجوز أن تكون لتعدية فعل القول إلى المخاطب به أي خاطبوا المؤمنين بقولهم : { أنُطعِمُ مَن لو يَشاءُ الله أطعَمَهُ } ، ويجوز أن تكون اللام للعلة ، أي قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا ، أي قالوا في شأن الذين آمنوا كقوله تعالى : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } [ آل عمران : 168 ] وقوله : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } [ الأحقاف : 11 ] أي قالوا ذلك تعلة لعدم الإِنفاق على فقراء المؤمنين .
والاستفهام في { أنُطْعِمُ } إنكاري ، أي لا نطعم من لو شاء الله لأطعمهم بحسب اعتقادكم أن الله هو المطعم .
والتعبير في جوابهم بالإِطعام مع أن المطلوب هو الإِنفاق : إمّا لمجرد التفنن تجنباً لإِعادة اللفظ فإن الإِنفاق يراد منه الإِطعام ، وإمّا لأنهم سئلوا الإِنفاق وهو أعمّ من الإِطعام لأنه يشمل الإِكساء والإِسكان فأجابوا بإمساك الطعام وهو أيسر أنواع الإِنفاق ، ولأنهم كانوا يعيّرون من يشحّ بإطعام الطعام وإذا منعوا المؤمنين الطعام كان منعهم ما هو فوقه أحرى .
وجملة { إنْ أنتُمْ إلاَّ في ضَلالٍ مُبِينٍ } من قول المشركين يخاطبون المؤمنين ، أي ما أنتم في قولكم : { أنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } وما في معناه من اعتقاد أن الله متصرف في أحوالنا إلا متمكن منكم الضلال الواضح . وجعلوه ضلالاً لجهلهم بصفات الله ، وجعلوه مبيناً لأنهم يحكمون الظواهر من أسباب اكتساب المال وعدمه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.