قوله تعالى :{ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أي : مهورهن ، { وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك } رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك مثل صفية وجويرية ، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له { وبنات عمك وبنات عماتك } يعني : نساء قريش ، { وبنات خالك وبنات خالاتك } يعني : نساء بني زهرة ، { اللاتي هاجرن معك } إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها . وروى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له ، لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من الطلقاء ، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل . { وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين } أي . أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق ، فأما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه . واختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي صلى الله عليه وسلم نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر ؟ فذهب جماعة إلى أنه كان لا يحل له ذلك ، لقوله : { وامرأة مؤمنة } وأول بعضهم الهجرة في قوله : { اللاتي هاجرن معك } على الإسلام ، أي : أسلمن معك . فيدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة ، وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر ، وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم في النكاح لقوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } كالزيادة على الأربع ، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه ولا مشاركة لأحد معه فيه . واختلف أهل العلم في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والزهري ، ومجاهد ، وعطاء ، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي . وذهب قوم إلى أنه ينعقد بلفظ الهبة والتمليك ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وأهل الكوفة . ومن قال لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج اختلفوا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم : فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد في حقه بلفظ الهبة ، لقوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } . وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كما في حق الأمة لقوله عز وجل : { إن أراد النبي أن يستنكحها } وكان اختصاصه صلى الله عليه وسلم في ترك المهر لا في لفظ النكاح . واختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهل كانت عنده امرأة منهن ؟ . فقال عبد الله بن عباس ، ومجاهد : لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه ، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، وقوله : { إن وهبت نفسه } على طريق الشرط والجزاء . وقال آخرون : بل كانت عنده موهوبة ، واختلفوا فيها ، فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية ، يقال لها : أم المساكين . وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث . وقال علي بن الحسين ، والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر من بني أسد . وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت حكيم من بني سليم . قوله عز وجل : { قد علمنا ما فرضنا عليهم } أي : أوجبنا على المؤمنين ، { في أزواجهم } من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر ، { وما ملكت أيمانهم } أي : ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين ، { لكيلا يكون عليك حرج } وهذا يرجع إلى أول الآية أي : أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لك لكي لا يكون عليك حرج وضيق . { وكان الله غفوراً رحيما* }
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِيَ آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ إِنْ أَرَادَ النّبِيّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيَ أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ يعني : اللاتي تزوّجتهنّ بصداق مسمى ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ قال : صدقاتهنّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا أيّهَا النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ قال : كان كل امرأة آتاها مهرا ، فقد أحلها الله له .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزَوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ . . . إلى قوله : خِالصَةً لَكَ مِنْ دُون المُؤْمِنِينَ فما كان من هذه التسمية ما شاء كثيرا أو قليلاً .
وقوله : وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ممّا أفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ يقول : وأحللنا لك إماءك اللواتي سبيتهنّ ، فملكتهنّ بالسباء ، وصرن لك بفتح الله عليك من الفيء وَبَناتِ عَمّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وبَناتِ خالاتِكَ اللاّتي هاجَرْنَ مَعَكَ فأحلّ الله له صلى الله عليه وسلم من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ، المهاجرات معه منهنّ دون من لم يهاجر منهنّ معه ، كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي صالح ، عن أمّ هانىء ، قالت : خطبني النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاعتذرت له بعذري ، ثم أنزل الله عليه : إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ . . . إلى قوله اللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قالت : فلم أحلّ له ، لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء .
وقد ذُكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود : «وَبَناتِ خالاتِكَ وَاللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ » بواو وذلك وإن كان كذلك في قراءته محتمل أن يكون بمعنى قراءتنا بغير الواو ، وذلك أن العرب تدخل الواو في نعت من قد تقدم ذكره أحيانا ، كما قال الشاعر :
فإِنّ رُشيدا وَابنَ مَرْوَانَ لَمْ يَكُنْ *** لِيَفْعَلَ حتى يَصْدُرَ الأَمْرُ مَصْدَرَا
ورشيد هو ابن مروان . وكان الضحاك بن مزاحم يتأوّل قراءة عبد الله هذه أنهنّ نوع غير بنات خالاته ، وأنهنّ كل مهاجرة هاجرت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر الخبر عنه بذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في حرف ابن مسعود : «وَاللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ » يعني بذلك : كلّ شيء هاجر معه ليس من بنات العمّ والعمة ، ولا من بنات الخال والخالة .
وقوله : وَامْرأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ يقول : وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي بغير صداق ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ بغير صداق ، فلم يكن يفعل ذلك ، وأحلّ له خاصة من دون المؤمنين .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «وَامْرأةً مُؤْمِنَةً وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ » بغير إن ، ومعنى ذلك ومعنى قراءتنا وفيها «إن » واحد ، وذلك كقول القائل في الكلام : لا بأس أن يطأ جارية مملوكة إن ملكها ، وجارية مملوكة ملكها .
وقوله إنْ أرَادَ النّبِيّ أنْ يَسْتَنْكِحَها يقول : إن أراد أن ينكحها ، فحلال له أن ينكحها إذا وهبت نفسها له بغير مهر خالِصَةً لَكَ يقول : لا يحلّ لأحد من أمّتك أن يقرب امرأة وهبت نفسها له ، وإنما ذلك لك يا محمد خالصة أخلصت لك من دون سائر أمتك ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ يقول : ليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير أمر وليّ ولا مهر ، إلا للنبيّ ، كانت له خالصة من دون الناس . ويزعمون أنها نزلت في ميمونة بنت الحارث أنها التي وهبت نفسها للنبيّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ . . . إلى قوله خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ قال : كان كل امرأة آتاها مهرا فقد أحلها الله له إلى أن وهب هؤلاء أنفسهنّ له ، فأحللن له دون المؤمنين بغير مهر خالصة لك من دون المؤمنين إلا امرأة لها زوج .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن صالح بن مسلم ، قال : سألت الشعبي عن امرأة وهبت نفسها لرجل ، قال : لا يكون ، لا تحلّ له ، إنما كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : إنْ وَهَبَتْ بكسر الألف على وجه الجزاء ، بمعنى : إن تهب . وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ : «أنْ وَهَبَتْ » بفتح الألف ، بمعنى : وأحللنا له امرأة مؤمنة أن ينكحها ، لهبتها له نفسها .
والقراءة التي لا أستجيز خلافها في كسر الألف لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وأما قوله : خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ليس ذلك للمؤمنين . وذُكر أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل عليه هذه الاَية أن يتزوّج أيّ النساء شاء ، فقصره الله على هؤلاء ، فلم يعدُهن ، وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورُباع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، عن زياد رجل من الأنصار ، عن أبيّ بن كعب ، أن التي أحلّ الله للنبيّ من النساء هؤلاء اللاتي ذكر الله يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ . . . إلى قوله : فِي أزْوَاجِهِمْ وإنما أحلّ الله للمؤمنين مثنى وثُلاث ورُباع .
وحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ . . . إلى آخر الاَية ، قال : حرّم الله عليه ما سوى ذلك من النساء وكان قبل ذلك ينكح في أيّ النساء شاء ، لم يحرّم ذلك عليه ، فكان نساؤه يجدن من ذلك وجدا شديدا أن ينكح في أيّ الناس أحبّ فلما أنزل الله : إني قد حرّمت عليك من الناس سوى ما قصصت عليك ، أعجب ذلك نساءه .
واختلف أهل العلم في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنات ، وهل كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة كذلك ؟ فقال بعضهم : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، فأما بالهبة فلم يكن عنده منهنّ أحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن عنبسة بن الأزهر ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الاَية : وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ قال : أن تهب .
وأما الذين قالوا : قد كان عنده منهن ، فإن بعضهم قال : كانت ميمونة بنت الحارث . وقال بعضهم : هي أمّ شريك . وقال بعضهم : زينب بنت خزيمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قال : وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ قال : هي ميمونة بنت الحارث .
وقال بعضهم : زينب بنت خزيمة أمّ المساكين امرأة من الأنصار .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : ثني الحكم ، قال : كتب عبد الملك إلى أهل المدينة يسألهم ، قال : فكتب إليه عليّ ، قال شعبة : وهو ظني عليّ بن حسين ، قال : وقد أخبرني به أبان بن تغلب ، عن الحكم ، أنه عليّ بن الحسين ، الذي كتب إليه ، قال : هي امرأة من الأسد يقال لها أمّ شريك ، وهبت نفسها للنبيّ .
قال : ثنا شعبة ، قال : ثني عبد الله بن أبي السفر ، عن الشعبي ، أنها امرأة من الأنصار ، وهبت نفسها للنبيّ ، وهي ممن أرجأ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم ، كانت من اللاتي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ثني سعيد بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كنا نتحدّث أن أمّ شريك كانت وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة صالحة .
وقوله : قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ يقول تعالى ذكره : قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم إذا أرادوا نكاحهنّ مما لم نفرضه عليك ، وما خصصناهم به من الحكم في ذلك دونك ، وهو أنا فرضنا عليهم أنه لا يحلّ لهم عقد نكاح على حرّة مسلمة إلا بوليّ عَصَبة وشهود عدول ، ولا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوّيَه ، قال : حدثنا مطهر ، قال : حدثنا عليّ بن الحسين ، قال : ثني أبي ، عن مطر ، عن قتادة ، في قول الله : قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ قال : إن مما فرض الله عليهم أن لا نكاح إلا بوليّ وشاهدين .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ قال : في الأربع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أزْوَاجِهِمْ قال : كان مما فرض الله عليهم أن لا تزوّج امرأة إلا بوليّ وصداق عند شاهدي عدل ، ولا يحلّ لهم من النساء إلا أربع ، وما ملكت أيمانهم .
وقوله : وَما مَلَكَتْ أيمانُهُمْ يقول تعالى ذكره : قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم ، لأنه لا يحلّ لهم منهنّ أكثر من أربع ، وما ملكت أيمانهم ، فإن جميعهن إذا كنّ مؤمنات أو كتابيات ، لهم حلال بالسباء والتسرّي وغير ذلك من أسباب الملك . وقوله : لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما يقول تعالى ذكره : إنا أحللنا لك يا محمد أزواجك اللواتي ذكرنا في هذه الاَية ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ ، إن أراد النبيّ أن يستنكحها ، لكيلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف التي أبحت لك نكاحهنّ من المسميّات في هذه الاَية ، وكان الله غفورا لك ولأهل الإيمان بك ، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب منهم سلف بعد توبتهم منه .
قرأ الجمهور «اللاتي » بالتاء من فوق ، وقرأ الأعمش «اللايي » بياءين من تحت ، وذهب ابن زيد والضحاك في تفسير قوله { إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } إلى أن المعنى أن لله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها وأباح له تعالى كل النساء بهذا الوجه وأباح له ملك اليمين وبنات العم والعمة والخال والخالة ممن هاجر معه ، وخصص هؤلاء بالذكر تشريفاً وتنبيهاً منهن إذ قد تناولهن على تأويل ابن زيد قوله تعالى : { أزواجك التي آتيت أجورهن } ، وأباح له الواهبات خاصة له فهو على تأويل ابن زيد إباحة مطلقة في جميع النساء حاشى ذوات المحارم ، لا سيما على ما ذكر الضحاك أن في مصحف ابن مسعود «وبنات خالاتك واللاتي هاجرن معك » ، ثم قال بعد هذه { ترجي من تشاء منهم } [ الأحزاب : 51 ] أي من هذه الأصناف كلها ، ثم تجري الضمائر بعد ذلك على العموم إلى قوله تعالى : { ولا أن تبدل بهن } [ الأحزاب : 52 ] فيجيء هذا الضمير مقطوعاً من الأول عائداً على أزواجه التسع فقط على الخلاف في ذلك ، وتأول غير ابن زيد قوله { أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أن الإشارة إلى عائشة وحفصة ومن في عصمته ممن تزوجها بمهر ، وأن ملك اليمين بعد حلال له ، وأن الله تعالى أباح له مع المذكورات بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ممن هاجر معه والواهبات خاصة له ، فيجيء الأمر على هذا التأويل أضيق على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء وكان ذلك يشق على نسائه ، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى سر نساؤه بذلك .
قال الفقيه الإمام القاضي : لأن ملك اليمين إنما يفعله في النادر من الأمر وبنات العم والعمات والخال والخالات يسير{[9542]} ، ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه ، لا سيما وقد قيد ذلك شرط الهجرة معه والواهبة أيضاً من النساء قليل ، فلذلك سر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بانحصار الأمر ، ثم يجيء قوله تعالى : { ترجي من تشاء منهن } [ الأحزاب : 51 ] إشارة إلى من تقدم ذكره ، ثم يجيء قوله { ولا أن تبدل بهن من أزواج } [ الأحزاب : 52 ] إشارة إلى أزواجه اللاتي تقدم النص عليهن بالتحليل فيأتي الكلام متسقاً مطرداً أكثر من اطراده على التأويل الأول{[9543]} ، و «الأجور » المهور ، وقوله { مما أفاء الله عليك } أي رده إليك في الغنائم ، يريد وعلى أمتك لأنه فيء عليه ، و «ملك اليمين » أصله الفيء من الغنائم أو ما تناسل من سبي والشراء من الحربيين كالسباء ، ومباح السباءة هو من الحربيين ، ولا يجوز سبي من له عهد ولا تملكه ، ويسمى سبي الخبثة{[9544]} .
وقوله تعالى : { وبنات عمك } الآية ، يريد قرابته{[9545]} ، وروي عن أم هاني بنت أبي طالب أنها قالت : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم نزلت هذه الآية ، فحرمني عليه لأني لم أهاجر معه وإنما كنت من الطلقاء{[9546]} ، وقرأ جمهور الناس «إن وهبت » بكسر الألف هذا يقتضي استئناف الأمور ، إن وقع فهو حلال له ، على أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين .
فأما بالهبة فلم يكن عنده منهن أحد ، وقرأ الحسن البصري وأبيّ بن كعب والثقفي والشعبي ، «أن وهبت » بفتح الألف فهي إشارة إلى ما وقع من الهبات قبل نزول الآيات .
قال الفقيه الإمام القاضي : وكسر الألف يجري مع تأويل ابن زيد الذي قدمناه ، وفتح الألف يجري مع التأويل الآخر ، ومن قرأ بفتح الألف قال الإشارة إلى من وهب نفسه من النساء للنبي صلى الله عليه وسلم على الجملة ، قال ابن عباس فيما حكى الطبري هي ميمونة بنت الحارث ، وقال علي بن الحسين هي أم شريك ، وقال عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة أم المساكين ، وقال أيضاً عروة بن الزبير خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمي ممن وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وامرأة مؤمنة وهبت » دون «إن » ، وقوله تعالى : { خالصة لك } أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل ، وأجمع الناس على أن ذلك لا يجوز ، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح إلا ما روي عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف أنهم قالوا : إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز .
قال الفقيه الإمام القاضي : فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة ، وإلا فالأفعال التي اشترطها هي أفعال النكاح بعينه .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويظهر من لفظ أبيّ بن كعب أن معنى قوله { خالصة لك } يراد به جميع هذه الإباحة لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع ، وقوله تعالى : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } يريد الولي والشاهدين والمهر والاقتصار على أربع قاله قتادة ومجاهد ، وقال أبيّ بن كعب هو مثنى وثلاث ورباع ، وقوله تعالى { لكي لا } أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح { لكي لا يكون عليك حرج } ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك في شيء ، ثم أنس تعالى الجميع من المؤمنين بغفرانه ورحمته .
{ ياأيها النبى إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ وبنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ وامْرَأَةً مُّؤمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِىِّ إنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ } .
نداء رابع خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في شأن خاص به هو بيان ما أحلّ له من الزوجات والسراري وما يزيد عليه وما لا يزيد مما بعضه تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل ، ومما بعضه يتساوى فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع الأمة وبعضه خاص به أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعة عليه ، أو مما روعي في تخصيصه به علوّ درجته .
ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنتِ جحش وقالوا : تزوج من كانت حليلة متبنّاه ، أراد الله أن يجمع في هذه الآية مَن يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون . ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء } الآية ، ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعاً لتكون جامعة للأحوال ، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال .
فأما تقرير ما هو مشروع فذلك من قوله تعالى : { إنا أحللنا لك أزواجك التي آتيت أجورهن } إلى قوله : { وبنات خالاتك } ، وأما تشريع ما لم يكن مشروعاً فذلك من قوله : { اللاتي هاجرن معك } إلى قوله : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } [ الأحزاب : 52 ] .
فقوله تعالى : { إنا أحللنا لك أزواجك } خبر مُراد به التشريع . ودخول حرف ( إنّ ) عليه لا ينافي إرادة التشريع إذ موقع ( إنَّ ) هنا مجرد الاهتمام ، والاهتمام يناسب كلاّ من قصد الإِخبار وقصدِ الإِنشاء ، ولذلك عُطفت على مفعول { أحللنا } معطوفات قيدت بأوصاف لم يكن شرعها معلوماً من قبل وذلك في قوله : { وبنات عمك } وما عطف عليه باعتبار تقييدهن بوصف { الاتي هاجرن معك } ، وفي قوله : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها } باعتبار تقييدها بوصف الإِيمان وتقييدها ب« إن وهبت نفسها للنبي وأراد النبي أن يستنكحها » . هذا تفسير الآية على ما درج عليه المفسرون على اختلاف قليل بين أقوالهم .
وعندي : أن الآية امتنان وتذكير بنعمة على النبي صلى الله عليه وسلم وتؤخذ من الامتنان الإِباحة ويؤخذ من ظاهر قوله : { لا يحل لك النساء من بعد } [ الأحزاب : 52 ] الاقتصار على اللاتي في عصمته منهن وقت نزول الآية ، ولتكون هذه الآية تمهيداً لقوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد } الخ .
وسيجيء ما لنا في معنى قوله : { من بعدُ } وما لنا في موضع قوله { إن أراد النبي أن يستنكحها } .
ومعنى { أحللنا لك } الإِباحة له ، ولذلك جاءت مقابلته بقوله عقب تعداد المحلّلات له { لا يحل لك النساء من بعد } .
وإضافة أزواج إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تفيد أنّهن الأزواج اللاتي في عصمته ، فيكون الكلام إخباراً لتقرير تشريع سابق ومسوقاً مساق الامتنان ، ثم هو تمهيد لما سيتلوه من التشريع الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم من قوله : { اللاتي هاجرن معك } إلى قوله : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } [ الأحزاب : 52 ] . وهذا هو الوجه عندي في تفسير هذه الآية .
وحكى ابن الفرس عن الضحاك وابن زيد أن المعنى بقوله : { أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أن الله أحلّ له أن يتزوج كل امرأة يُصدقها مهرها فأباح له كل النساء ، وهذا بعيد عن مقتضى إضافة أزواج إلى ضميره . وعن التعبير ب { آتيت أجورهن } بصيغة المضيّ . واختلف أهل التأويل في محمل هذا الوجه مع قوله تعالى في آخر الآية : { لا يحل لك النساء من بعد } فقال قوم : هذه ناسخة لقوله : { لا يحل لك النساء من بعد } ولو تقدمت عليها في التلاوة . وقال آخرون : هي منسوخة بقوله : { لا يحل لك النساء من بعد } .
و { اللاتي آتيت أجورهن } صفة ل { أزواجك } ، أي وهن النسوة اللاتي تزوجتهن على حكم النكاح الذي يعم الأمة ، فالماضي في قوله : { آتيت أجورهن } مستعمل في حقيقته . وهؤلاء فيهن من هن من قراباته وهن القرشيات منهن : عائشة ، وحفصة ، وسودة ، وأم سلمة ، وأم حبيبة ، وفيهن من لسن كذلك وهنّ : جويرية من بني المصطلق ، وميمونة بنت الحارث من بني هلال ، وزينب أم المساكين من بني هلال ، وكانت يومئذٍ متوفاة ، وصفية بنت حيي الإِسرائيلية .
وعطف على هؤلاء نسوة أخر وهنّ ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : ما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه ، أي مما أعطاه الله من الفيء ، وهو ما ناله المسلمون من العدوّ بغير قتال ولكن تركَه العدو ، أو مما أعطي للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل مارية القبطية أمّ ابنه إبراهيم فقد أفاءها الله عليه إذ وهبها إليه المقوقس صاحب مصر ، وإنما وهبها إليه هدية لمكان نبوءته فكانت بمنزلة الفيء لأنها ما لوحظ فيها إلا قصد المسالمة من جهة الجوار ، إذ لم تكن له مع الرسول صلى الله عليه وسلم سابق صحبة ولا معرفة ، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتسرّ غير مارية القبطية . وقيل : إنه تسرى جارية أخرى وهبتها له زوجه زينبُ ابنة جحش ولم يثبت . وقيل أيضاً : إنه تسرى ريحانَة من سبي قريظة اصطفاها لنفسه ولا تشملها هذه الآية لأنها ليست من الفيء ولكن من المغنم إلا أن يراد ب { مما أفاء الله عليك } المعنى الأعم للفيء وهو ما يشمل الغنيمة .
وهذا الحكم يشركه فيه كثير من الأمة من كل من أعطاه أميره شيئاً من الفيء ، كما قال تعالى : { ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ الحشر : 7 ] فمن أعطاه الأمير من هؤلاء الأصناف أمة من الفيء حلّت له .
وقوله : { مما أفاء الله عليك } وصف لما ملكت يمينك وهو هنا وصف كاشف لأن المراد به مارية القبطية ، أو هي وريحانة إن ثبت أنّه تسراها .
الصنف الثاني : نساء من قريب قرابته صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه أو من جهة أمه مؤمنات مهاجرات . وأغنى قوله : { هاجرن معك } عن وصف الإِيمان لأن الهجرة لا تكون إلا بعد الإِيمان ، فأباح الله للنبيء عليه الصلاة والسلام أن يتزوج من يشاء من نساء هذا الصنف بعقد النكاح المعروف ، فليس له أن يتزوج في المستقبل امرأة من غير هذا الصنف المشروط بشرط القرابة بالعمومة أو الخؤولة وشرط الهجرة . وعندي : أن الوصفين ببنات عمه وعمّاته وبناتتِ خاله وخالاته ، وبأنهن هاجَرْن معه غير مقصود بهما الاحتراز عمن لسن كذلك ولكنه وصف كاشف مسوق للتنويه بشأنهن .
وخص هؤلاء النسوة من عموم المنع تكريماً لشأن القرابة والهجرة التي هي بمنزلة القرابة لقوله تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] . وحكم الهجرة انقضى بفتح مكة . وهذا الحكم يتجاذبه الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم والتعميم لأمته ، فالمرأة التي تستوفي هذا الوصف يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام ولأمته الذين تكون لهم قرابة بالمرأة كهذه القرابة تزوجُ أمثالها ، والمرأة التي لم تستوف هذا الوصف لا يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام تزوجها ، وهو الذي درج عليه الجمهور ، ويؤيده خبر روي عن أمّ هاني بنت أبي طالب . وقال أبو يوسف : يجوز لرجال أمته نكاح أمثالها . وباعتبار عدم تقييد نساء الرسول صلى الله عليه وسلم بعدد يكون هذا الإطلاق خاصاً به دون أمته إذ لا يجوز لغيره تزوج أكثر من أربع .
وبنات عمّ النبي صلى الله عليه وسلم هن بنات إخوة أبيه مثل : بنات العباس وبنات أبي طالب وبنات أبي لهب . وأما بنات حمزة فإنهن بنات أخ من الرضاعة لا يحللن له ، وبناتُ عماته هن بنات عبد المطلب مثل زينب بنت جحش التي هي بنت أميمة بنت عبد المطلب .
وبناتُ خاله هنّ بنات عبد مناف بن زُهرة وهن أخوال النبي صلى الله عليه وسلم عبد يغوث بن وهب أخو آمنة ، ولم يذكروا أن له بنات ، كما أني لم أقف على ذكر خالة لرسول الله فيما رأيت من كتب الأنساب والسير . وقد ذكر في « الإصابة » فريعة بنتَ وهب وذكروا هالة بنت وهب الزهرية إلا أنها لكونها زوجةَ عبد المطلب وابنتها صفية عمة رسول الله فقد دخلت من قبل في بنات عمه .
وإنما أُفرد لفظ ( عم ) وجُمع لفظ ( عمات ) لأن العم في استعمال كلام العرب يطلق على أخي الأب ويطلق على أخي الجد وأخي جد الأب وهكذا فهم يقولون : هؤلاء بنو عم أو بنات عم ، إذا كانوا لعم واحد أو لعدة أعمام ، ويفهم المراد من القرائن . قال الراجز أنشده الأخفش :
ما بَرئتْ من ريبة وذمّ *** في حربنا إلا بناتُ العمّ
قالت بنات العم يا سلمى وإنْ *** كان فقيراً مُعدماً قالت وإنْ
فأما لفظ ( العمة ) فإنه لا يراد به الجنس في كلامهم ، فإذا قالوا : هؤلاء بنو عمةٍ ، أرادوا أنهم بنو عمةٍ معيّنة ، فجيء في الآية : { عماتك } جمعاً لئلا يفهم منه بنات عمة معينة . وكذلك القول في إفراد لفظ ( الخال ) من قوله : { بنات خالك } وجمع الخالة في قوله : { وبنات خالاتك } .
وقال قوم : المراد ببنات العم وبنات العمات : نساء قريش ، والمراد ببنات الخال : النساء الزهريات ، وهو اختلاف نظري محض لا ينبني عليه عمل لأن النبي قد عُرفت أزواجه .
وقوله : { اللاني هاجرن معك } صفة عائدة إلى { بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك } كشأن الصفة الواردة بعد مفردات ، وهو شرط تشريع لم يكن مشروطاً من قبل .
والمعية في قوله : { اللاتي هاجرن معك } معية المقارنة في الوصف المأخوذ من فعل { هاجرن } فليس يلزم أن يكنَّ قد خرجْنَ مصاحبات له في طريقه إلى الهجرة .
الصنف الثالث : امرأة تَهب نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم أي تجعل نفسها هبة له دون مهر ، وكذلك كان النساء قبل الإسلام يفعلن مع عظماء العرب ، فأباح الله للنبيء أن يتخذها زوجة له بدون مهر إذا شاء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فهذا حقيقة لفظ { وهبت } ، فالمراد من الهبة : تزويج نفسها بدون عوض ، أي بدون مهر ، وليست هذه من الهبة التي تستعمل في صيغ النكاح إذا قارنها ذكر صداق لأن ذلك اللفظ مجاز في النكاح بقرينة ذكر الصداق ويصح عقد النكاح به عندنا وعند الحنفية خلافاً للشافعي .
فقوله : { وامرأة } عطف على { أزواجك } . والتقدير : وأحللنا لك امرأة مؤمنة .
والتنكير في { امرأة } للنوعية : والمعنى : ونُعلمك أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة بقيد أن تهب نفسها لك وأن تريد أن تتزوجها فقوله : { للنبيء } في الموضعين إظهار في مقام الإِضمار . والمعنى : إن وهبتْ نفسها لك وأردتَ أن تنكحها . وهذا تخصيص من عموم قوله : { وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك } فإذا وهبت امرأة نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وأراد نكاحها جاز له ذلك بدون ذينك الشرطين ولأجل هذا وصفت { امرأة } ب { مؤمنة } ليعلم عدم اشتراط ما عدا الإيمان . وقد عُدّت زينب بنت خُزيمة الهلالية وكانت تدعى في الجاهلية أمَّ المساكين في اللاتي وهبن أنفسهن ، ولم تلبث عنده زينب هذه إلا قليلاً فتوفيت وكان تزوجها سنة ثلاث من الهجرة فليست مما شملته الآية .
ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج غيرها ممن وهبت نفسها إليه وهن : أم شريك بنت جابر الدوسية واسمها عزية ، وخولة بنت حكيم عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسها فقالت عائشة : أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل ، وامرأة أخرى عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم روى ثابت البناني عن أنس قال : « جاءت امرأة إلى رسول الله فعرضت عليه نفسها فقالت : يا رسول الله ألك حاجة بي ؟ فقالت ابنةُ أنس وهي تسمع إلى رواية أبيها : ما أقل حياءها وَاسَوأتاه واسوأتاه . فقال أنس : هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها » . وعن سهل بن سعد أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبها . فقال رجل : « يا رسول الله زوجنيها ، إلى أن قال له ، ملّكناكها بما معك من القرآن » فهذا الصنف حكمه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه نكاح مخالف لسنة النكاح لأنه بدون مهر وبدون ولي .
وقد ورد أن النسوة اللاتي وهبن أنفسهن للنبيء صلى الله عليه وسلم أربع هن : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة الأنصارية الملقبة أمّ المساكين ، وأم شريك بنت جابر الأسدية أو العامرية ، وخولة بنت حكيم بنت الأوقص السَلَمية . فأما الأوليان فتزوجهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما من أمهات المؤمنين والأخريان لم يتزوجهما .
ومعنى { وهبت نفسها للنبيء } أنها ملّكته نفسها تمليكاً شبيهاً بملك اليمين ولهذا عطفت على { ما ملكت يمينك } ، وأردفت بقوله : { خالصة لك من دون المؤمنين } أي خاصة لك أن تتخذها زوجة بتلك الهبة ، أي دون مهر وليس لبقية المؤمنين ذلك . ولهذا لما وقع في حديث سهل بن سعد المتقدم أن امرأة وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وعلم الرجل الحاضر أن النبي عليه الصلاة والسلام لا حاجة له بها سأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يُزوجه إياها علماً منه بأن تلك الهبة لا مهر معها ولم يكن للرجل ما يصدقها إياه ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك فقال له ما عندك ؟ قال : ما عندي شيء . قال : اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد فذهب ثم رجع فقال : لا والله ولا خاتَماً من حديد ، ولكن هذا إزاري فلها نصفه . قال سهل : ولم يكن له رداء ، فقال النبي : " وما تصنع بإزارك إن لبستَه لم يكن عليها منه شيء وإن لبستْه لم يكن عليك منه شيء ثم قال له ماذا معك من القرآن ؟ فقال : معي سورة كذا وسورة كذا لسُور يُعدّدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ملكناكها بما معك من القرآن " .
وفي قوله : { إن وهبت نفسها للنبي } إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : إن وهبت نفسها لك . والغرض من هذا الإِظهار ما في لفظ { النبي } من تزكية فعل المرأة التي تهب نفسها بأنها راغبة لكرامة النبوءة .
وقوله : { إن أراد النبي أن يستنكحها } جملة معترضة بين جملة { إن وهبت } وبين { خالصة } وليس مسوقاً للتقييد إذ لا حاجة إلى ذكر إرادته نكاحها فإن هذا معلوم من معنى الإِباحة ، وإنما جيء بهذا الشرط لدفع توهم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجباً عليه كما كان عرف أهل الجاهلية . وجوابه محذوف دل عليه ما قبله ، والتقدير : إن أراد أن يستنكحها فهي حلال له ، فهذا شرط مستقل وليس شرطاً في الشرط الذي قبله .
والعدول عن الإِضمار في قوله : { إن أراد النبي } بأن يقال : إن أراد أن يستنكحها لما في إظهار لفظ { النبي } من التفخيم والتكريم .
وفائدة الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطال عادة العرب في الجاهلية وهي أنهم كانوا إذا وهبت المرأة نفسها للرجل تعين عليه نكاحها ولم يجز له ردُّها ، فأبطل الله هذا الالتزام بتخيير النبي عليه الصلاة والسلام في قبول هِبة المرأة نفسها له وعدمه ، وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأن الرد مأذون به .
والسين والتاء في { يستنكحها } ليستا للطلب بل هما لتأكيد الفعل كقول النابغة :
وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوةً *** أبا جابر فاستنكحوا أم جابر
أي بنو حُنّ قتلوا أبا جابر الطائي فصارت أم جابر المزوجة بأبي جابر زوجة بني حُنّ ، أي زوجة رجل منهم . وهي مثل السين والتاء في قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } [ آل عمران : 195 ] .
فتبيَّن من جعل جملة { إن أراد النبي أن يستنكحها } معترضة أن هذه الآية لا يصح التمثيل بها لمسألة اعتراض الشرط على الشرط كما وقع في رسالة الشيخ تقي الدين السبكي المجعولة لاعتراض الشرط على الشرط ، وتبعه السيوطي في الفن السابع من كتاب « الأشباه والنظائر النحوية » ، ويلوح من كلام صاحب « الكشاف » استشعار عدم صلاحية الآية لاعتبار الشرط في الشرط فأخذ يتكلف لتصوير ذلك .
وانتصب { خالصة } على الحال من { امرأة } ، أي خالصة لك تلك المرأة ، أي هذا الصنف من النساء ، والخلوص معنيٌّ به عدم المشاركة ، أي مشاركةِ بقية الأمة في هذا الحكم إذ مادة الخلوص تجمع معاني التجرّد عن المخالطة . فقوله : { من دون المؤمنين } لبيان حال من ضمير الخطاب في قوله : { لك } ما في الخلوص من الإجمال في نسبته . وقد دل وصف { امرأة } بأنها { مؤمنة } أن المرأة غير المؤمنة لا تحل للنبيء عليه الصلاة والسلام بهبة نفسها . ودل ذلك بدلالة لحن الخطاب أنه لا يحلّ للنبيء صلى الله عليه وسلم تزوج الكتابيات بَلْهَ المشركات ، وحكى إمام الحرمين في ذلك خلافاً .
قال ابن العربي : والصحيح عندي تحريمها عليه . وبهذا يتميز علينا ؛ فإن ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر وإذا كان لا تحل له من لم تُهاجر لنقصانها فضلَ الهجرة فأحرى أن لا تحلّ له الكتابية الحرة .
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ } .
جملة معترضة بين جملة { من دون المؤمنين } وبين قوله : { لكيلا يكون عليك حرج } أو هي حال سببي من المؤمنين ، أي حال كونهم قد علمنا ما نَفرض عليهم .
والمعنى : أن المؤمنين مستمر ما شُرع لهم من قبلُ في أحكام الأزواج وما ملكتْ أيمانهم ، فلا يَشملهم ما عُيّن لك من الأحكام الخاصة المشروعة فيما تقدم آنفاً ، أي قد علمنا أن ما فرضناه عليهم في ذلك هو الَّلائق بحال عموم الأمة دون ما فرضناه لك خاصة .
و { ما فرضنا عليهم } موصول وصلته ، وتعدية { فرضنا } بحرف ( على ) المقتضي للتكليف والإِيجاب للإِشارة إلى أن من شرائع أزواجهم وما ملكَتْ أيمانهم ما يَوَدُّون أن يخفف عنهم مثل عدد الزوجات وإيجاب المهور والنفقات ، فإذا سمعوا ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من التوسعة في تلك الأحكام وَدّوا أن يلحقوا به في ذلك ، فسجل الله عليهم أنهم باقون على ما سبق شرعه لهم في ذلك ، والإخبار بأن الله قد علم ذلك كناية عن بقاء تلك الأحكام لأن معناه أنّا لم نغفل عن ذلك ، أي لم نبطله بل عن علم خصصنا نبيئنا بما خصصناه به في ذلك الشأن ، فلا يشمل ما أحللناه له بقيةَ المؤمنين .
وظرفية { في } مجازية لأن المظروف هو الأحكام الشرعية لا ذَوات الأزواج وذواتُ ما ملكته الأيمان .
{ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً } .
تعليل لما شرعه الله تعالى في حق نبيئه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة من التوسعة بالازدياد من عدد الأزواج وتزوج الواهبات أنفسهن دون مهر ، وجَعل قبول هبتها موكولاً لإِرادته ، وبما أبقى له من مساواته أمته فيما عدا ذلك من الإباحة فلم يضيّق عليه ، وهذا تعليم وامتنان .
والحرج : الضيق ، والمراد هنا أدنى الحرج ، وهو ما في التكليف من بعض الحرج الذي لا تخلو عنه التكاليف ، وأما الحرج القوي فمنفي عنه وعن أمته . ومراتب الحرج متفاوتة ، ومناط ما يُنفى عن الأمة منها وما لا ينفى ، وتقديراتُ أحوال انتفاء بعضها للضرورة هو ميزان التكليف الشرعي فالله أعلم بمراتبها وأعلم بمقدار تحرج عباده وذلك مبين في مسائل العزيمة والرخصة من علم الأصول ، وقد حرر ملاّكه شهاب الدين القرافي في الفرق الرابع عشر من كتابه « أنواء البروق » . وقد أشبعنا القول في تحقيق ذلك في كتابنا المسمى « مقاصد الشريعة الإسلامية » .
وأعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك في الأخذ بهذه التوسعات التي رفع الله بها قدره مسلك الكُمّل من عباده وهو أكملهم فلم ينتفع لنفسه بشيء منها فكان عبداً شكوراً كما قال في حديث استغفاره ربه في اليوم استغفاراً كثيراً .
والتذييل بجملة { وكان الله غفوراً رحيماً } تذييل لما شرعه من الأحكام للنبيء صلى الله عليه وسلم لا للجملة المعترضة ، أي أن ما أردناه من نفي الحرج عنك هو من متعلقات صفتي الغفران والرحمة اللتين هما من تعلقات الإِرادة والعلم فهما ناشئتان عن صفات الذات ، فلذلك جعل اتصاف الله بهما أمراً متمكّناً بما دلّ عليه فعل { كان } المشير إلى السابقية والرسوخ كما علمته في مواضع كثيرة .