ثم وبخ - سبحانه - هؤلاء الظالمين على عدم اعتبارهم واتعاظهم بمن كان قبلهم فقال : { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ } .
أى : أبلغت الجهالة والغفالة وانطماس البصيرة بهؤلاء المشركين من قومك - يا محمد - أنهم لم يعتبروا ولم يتعظوا بالظالمين السابقين الذين دمرناهم تدميرا .
إنهم يمرون عليهم مصبحين وبالليل ، وإنهم ليشاهدون آثارهم ماثلة أمام أعينهم ، يشاهدون آثار قوم صالح ، ويشاهدون آثار غيرهم .
ولقد كان هؤلاء السابقون الظالمون ، أشد من مشركى قريش فى القوة والبأس ، وأشد منهم فى إقامة المبانى الفارهة ، والحصون الحصينة . .
فلما استمروا فى جحودهم وكفرهم ، أخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر ، بسبب ذنوبهم . وما كان لهم من دون الله - تعالى - من يدفع عنهم عذابه ، أو يقيهم من بأسه .
ثم ذكر تعالى لنفسه صفتين َبِّين ُعُرُّو الأوثان عنهما وهي{[9981]} في جهة الله تعالى عبارة عن الإدراك على إطلاقه ، ثم أحال كفار قريش وهم أصحاب الضمير في { يسيروا } على الاعتبار بالأمم القديمة التي كذبت أنبياءها فأهلكها الله تعالى .
وقوله : { فينظروا } يحتمل أن يجعل في موضع نصب جواب الاستفهام ، ويحتمل أن يكون مجزوماً عطفاً على { يسيروا } . و : { كيف } في قوله : { كيف كان عاقبة } خبر { كان } مقدم ، وفي { كيف } ضمير ، وهذا مع أن تكون { كان } الناقصة . وأما إن جعلت تامة بمعنى حدث ووقع ، ف { كيف } ظرف ملغى لا ضمير فيه .
وقرأ ابن عامر وحده : «أشد منكم » بالكاف ، وكذلك هي في مصاحف الشام ، وذلك على الخروج من غيبة إلى الخطاب . وقرأ الباقون : «أشد منهم » وكذلك هي في سائر المصاحف ، وذلك أوفق لتناسب ذكر الغيب .
والآثار في ذلك : هي المباني والمآثر والصيت الدنياوي ، وذنوبهم كانت تكذيب الأنبياء ، والواقي : الساتر المانع ، مأخوذ من الوقاية{[9982]} .
انتقال من إنذارهم بعذاب الآخرة على كفرهم إلى موعظتهم وتحذيرهم من أن يحل بهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة كما حلّ بأمم أمثالهم .
فالواو عاطفة جملة { ألم يسيروا في الأرض } على جملة { وأنذرهم يوم الأزِفَة } [ غافر : 18 ] الخ . والاستفهام تقريري على ما هو الشائع في مثله من الاستفهام الداخل على نفي في الماضي بحرف ( لْم ) ، والتقرير موجه للذين ساروا من قريش ونظروا آثار الأمم الذين أبادهم الله جزاء تكذيبهم رسلهم ، فهم شاهدوا ذلك في رحلتيهم رحلةِ الشتاء ورحلة الصيف وإنهم حدثوا بما شاهدوه مَن تضمهم نواديهم ومجالسهم فقد صار معلوماً للجميع ، فبهذا الاعتبار أسند الفعل المقرر به إلى ضمير الجمع على الجملة .
والمضارع الواقع بعد ( لَم ) والمضارعُ الواقع في جوابه منقلبان إلى المضي بواسطة ( لم ) . وتقدم شبيه هذه الآية في آخر سورة فاطر وفي سورة الروم .
والضمير المنفصل في قوله : { كانُوا هُم } ضمير فصل عائد إلى { الظالمين } [ غافر : 18 ] وهم كفار قريش الذين أريدوا بقوله : { وأنذرهم } [ غافر : 18 ] ، وضمير الفصل لمجرد توكيد الحكم وتقويته وليس مراداً به قصر المسند على المسند إليه ، أي قصر الأشدّية على ضمير : كانوا } إذ ليس للقصر معنى هنا كما تقدم في قوله تعالى : { إنني أنا الله } في سورة [ طه : 14 ] وهذا ضابط التفرقة بين ضمير الفصل الذي يفيد القصر وبين الذي يفيد مجرد التأكيد . واقتصار القزويني في « تلخيص المفتاح » على إفادة ضمير الفصل الاختصاص تقصير تبع فيه كلام « المفتاح » وقد نبه عليه سعد الدين في « شرحه على التلخيص » .
والمراد بالقوة القوةُ المعنوية وهي كثرة الأمة ووفرةُ وسائل الاستغناء عن الغير كما قال تعالى : { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } [ فصلت : 15 ]
وجملة { كانوا هم أشد منهم قوَّة } الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً لتفصيل الإِجمال الذي في قوله : { كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم } لأن العبرة بالتفريع بعدها بقوله : { فأخَذَهم الله بذنوبهم } .
وقرأ الجمهور { منهم } بضمير الغائب ، وقرأه ابن عامر { منكم بضمير خطاب الجماعة وكذلك رسمت في مصحف الشام ، وهذه الرواية جارية على طريقة الالتفات .
والآثار : جمع أثر ، وهو شيء أو شكل يرسمه فعل شيء آخر ، مثلُ أثر الماشي في الرمْل قال تعالى : { فقبضت قبضة من أثر الرسول } [ طه : 96 ] ومثلُ العشب أثر المطر في قوله تعالى : { فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها } [ الروم : 50 ] ، ويستعار الأثر لما يقع بعد شيء كقوله تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم } [ الكهف : 6 ] .
والفاء في { فأخَذَهُم الله } لتفريع الأخذ على كونهم أشدَّ قوة من قريش لأن القوة أريد بها هنا الكناية عن الإِباء من الحق والنفور من الدعوة ، فالتقدير : فأعرضوا ، أو فكفروا فأخذهم الله .
والآخذ : الاستئصال والإِهلاك كنّي عن العقاب بالأخذ ، أو استعمل الأخذ مجازاً في العقاب .
والذنوب : جمع ذنب وهو المعصية ، والمراد بها الإِشراك وتكذيب الرسل ، وذلك يستتبع ذنوباً جمة ، وسيأتي تفسيرها بقوله : { ذلك بأنَّهم كانت تأتِيهِم رُسُلُهم بالبينات } .
ومعنى : { وما كانَ لهُم مِنَ الله من وَاق } ما كان لهم من عقابه وقدرته عليهم ، فالواقي : هو المدافع الناصر .
و { مِن الأولى متعلقة بواقٍ ، } وقدم الجار والمجرور للاهتمام بالمجرور ، و { من } الثانية زائدة لتأكيد النفي بحرف ( ما ) وذلك إشارة إلى المذكور وهو أخذ الله إياهم بذنوبهم .
والباء للسببية ، أي ذلك الأخذ بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا بهم ، وفي هذا تفصيل للإجمال الذي في قوله : { فأخذهم الله بذنوبهم } . والجملة بعد ( أنَّ ) المفتوحة في تأويل مصدر . فالتقدير : ذلك بسبب تحقق مجيء الرسل إليهم فكفرهم بهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.