معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ} (97)

قوله تعالى : { قل من كان عدواً لجبريل } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن حبراً من أحبار اليهود يقال له عبد الله بن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أي ملك يأتيك من السماء قال جبريل . قال : ذلك عدونا من الملائكة ، ولو كان ميكائيل لآمنا بك ، إن جبريل ينزل بالعذاب والقتال والشدة وإنه عادانا مراراً وكان من أشد ذلك علينا ، أن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له بختنصر ، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه ، فلما كان وقته بعثنا رجلاً من أقوياء بني إسرائيل في طلبه ليقتله فانطلق حتى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل ، وكبر بختنصر وقوي ، وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدواً ، فأنزل الله هذه الآية .

وقال مقاتل : قالت اليهود : إن جبريل عدونا لأنه أمر بجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا ، وقال قتادة وعكرمة والسدي : كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة وممرها على مدارس اليهود فكان إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم فقالوا له : ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك ، إنهم يمرون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا وإنا لنطمع فيك فقال عمر : والله ما آتيكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني ، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم فقالوا : من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة قال : جبريل فقالوا : ذلك عدونا يطلع محمداً على سرنا وهو صاحب كل عذاب وخسف وسنة وشدة ، وإن ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والسلم ، فقال لهم عمر : تعرفون جبريل وتنكرون محمداً قالوا : نعم . قال : فأخبروني عن منزلة جبريل ، وميكائيل ، من الله عز وجل ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، وميكائيل عدو لجبريل ، قال عمر : فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكائيل ، ومن كان عدواً لميكائيل فإنه عدو لجبريل ، ومن كان عدواً لهما كان الله عدوا له . ثم رجع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات . فقال : لقد وافقك ربك يا عمر فقال عمر : لقد رأيتني بعد ذلك ، في دين الله أصلب من الحجر . قال الله تعالى : ( قل من كان عدواً لجبريل ) .

قوله تعالى : { فإنه } . يعني : جبريل .

قوله تعالى : { نزله } . يعنى : القرآن ، كناية عن غير مذكور .

قوله تعالى : { على قلبك } . يا محمد .

قوله تعالى : { بإذن الله } . بأمر الله .

قوله تعالى : { مصدقاً } . موافقاً .

قوله تعالى : { لما بين يديه } . لما قبله من الكتب .

قوله تعالى : { وهدىً وبشرى للمؤمنين } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ} (97)

ثم ساق القرآن بعد ذلك لوناً عجيباً من ألوان ضلال اليهود وهو مجاهرتهم بالعداوة لأمين الوحي جبريل - عليه السلام - فقال - تعالى - :

{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ . . . }

هاتان الآيتان تكشفان عن رذيلة غريبة حقاً من رذائل اليهود وهي عداوتهم لملك من ملائكة الله ، لا يأكل مما يأكلون ، ولا يشرب مما يشربون وإنما هو من الملائكة المقربين ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وإذا فليس هناك مقتض لعداوته ، فلماذا هذا التصريح منهم ببغضه وكراهيته ؟

لقد سمعوا أن جبريل - عليه السلام - ينزل بالوحي من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم وهم يحسدونه على النبوة ، فلج بهم الحقد والغيظ إلى أن أعلنوا عن عدائهم لجبريل - أيضاً - وهذه حماقة وجهالة منهم ، لأن جبريل - عليه السلام - نزل بالخير لهم في دينهم وفي دنياهم . ولكن الحقد والحسد إذا استوليا على النفوس جعلالها لا تفرق بين الخير والشر .

ومعنى الآيتين الكريمتين ، قل - يا محمد - لهؤلاء اليهود الذين أعلنوا عداءهم لجبريل أنه لا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وإنما نزل على قلبك بأمر الله ليكون مؤيداً لما نزل قبله من الكتب السماوية وليكون هداية إلى طريق السعادة وبشارة للمؤمنين بالجنة ، وقل لهم كذلك من كان معادياً لله أو لملك من ملائكته أو لرسول من رسله ، فقد كفر وباء بغضب من الله ، ومن غضب الله عليه ، فجزاؤه الخزي وسوء المصير .

قال الإِمام ابن جرير : ( أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً ، على أن هذه نزلت جواباً ليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ، وميكائيل ولي لهم ) .

وروى البخاري في صحيحه - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف - أي يجني ثمارها - فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ، فيم أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : أخبرني بهن جبريل آنفاً . قال : جبريل ؟ قال : نعم قال ذكل عدو اليهود من الملائكة - فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ . . . } الآية ثم قال : أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ! وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سببق ماء المرأة نزعت فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله : إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني ، فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أي رجل فيكم عبد الله ؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا : قال " أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ؟ فخرج عبد الله فقال : " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا ، وانتقصوه ، قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله " .

وأخرج الإِمام أحمد عن ابن عباس : " أن اليهود بعد أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة أجابهم عنها ، قالوا صدقت فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك . قال : وليى جبريل ، لم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه ، قالوا : فعندما نفارقك ، ولو كان وليك سواه من الملائكة لتابعناك وصدقناك ، قال : فما يمنعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدونا ، فأنزل الله - تعالى - قوله : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ . . . } الآيات .

وفي حديث للإِمام أحمد والترمذي والنسائي " قال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سألوه عن أشياء أجابهم عنها إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخير ، فأخبرنا من صاحبك ؟ قال جبريل - عليه السلام - قالوا : جبريل ذلك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا ، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان . فأنزل الله - تعالى - : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } الآية .

فيؤخذ من هذه الأحاديث وما في معناها أن اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهرون بعداوتهم لجبريل - عليه السلام - وأن هذه المجاهرة بالعداوة ، قد تكررت منهم في مواقف متعددة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وأن الذي حملهم على ذلك هو حسدهم له ، وغيظهم من جبريل ، لأنه ينزل بالوحي عليه .

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من عند الله ، ومع ذلك يبغضونه ، وهذا أحط درجات الانحطاط في العقل والعقيدة ، ولا شك أن الاضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تضافر آرائهم على الخطأ والأوهام " .

وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ { قُلْ } كي يرد على اليهود ، تثبيت له ، وتطمين لنفسه وتوبيخ لهم على معاداتهم لأمين الوحي ، وهو جبريل - عليه السلام - .

وقوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } شرط عام قصد الإِتيان به ليعلموا أن الله - تعالى - لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل ، إن وجد معاد آخر له سواهم .

وقوله تعالى : { على قَلْبِكَ } زيادة تقرير للتنزيل ، ببيان محل الوحي ، وإشارة إلى أن السبب في تمكنه صلى الله عليه وسلم من تلاوة القرآن الكريم ، وإبلاغه للناس ، ثباته في قلبه .

وقوله تعالى : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله } معناه : فلا موجب لعداوته . لأنه نزل القرآن على قلبك يا محمد بإذن الله وأمره . وإذاً فعداوته عداوة لله في الحقيقة والواقع ، ومن هنا يتبين أن هذه الجملة تعليل لجواب الشرط وقائمة مقامه .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف استقام قوله تعالى : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ } جزاء للشرط ؟ قلت : فيه وجهان :

أحدهما : إن عادي جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته ، حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب التي بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم .

والثاني : إن عاداه أحد فالسبب في عداواته أنه نزل عليك القرآن مصدقاً لكتابهم ، وموافقاً له ، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم ، ولذلك يحرفونه ويجحدون موافقته له . كقولك : " إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه " .

وقوله - تعالى - : { بِإِذْنِ الله } أي بأمره ، وهو توبيخ لهم على عداوتهم لجبريل ، الذي أنزل بالقرآن بإذن الله ، لا من تلقاء نفسه ، وهذه حجة أولى عليهم .

وقوله تعالى : { مُصَدِّقاً } حال من الضمير العائد على القرآن الكريم ، ف قوله { نَزَّلَهُ } أي أنزله حالة كونه مؤيداً للكتب السماوية التي قبله ومن بينها التوراة ، وهذه حجة ثانية عليهم .

ثم عززهما بثالثة ورابعة - فقال تعالى : { وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي هذا القرآن الذي نزل مصدقاً لكتبكم ، هو هاد إلى طريق الفلاح والنجاح ، والعقال لا يرفض الهداية التي تأتيه وتنقذه مما هو فيه من ضلالات ولو كان الواسطة في مجيئها عدواً له ، وهو - أيضاً - مبشر للمؤمنين برضا الله تعالى - عنهم في الدنيا والآخرة ، أما الضالون فقد أنذرهم بسوء العقبى فعليكم أن تتبعوا طريق الإِيمان لتكونوا من المفلحين وبذلك يكون القرآن قد أقام حججاً متعددة على حماقتهم وعنادهم وجحودهم للحق بعد ما تبين . وتكون الآية الكريمة قد مدحت القرآن بخمس صفات .

أولها : أنه منزل من عند الله وبإذنه .

وثانيها : أنه منزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم .

وثالثها : أنهن مصدق لما نزل قبله من الكتب السماوية .

ورابعها : أنه هاد إلى الخير أبلغ هدى وأقواه .

وخامسها : أنه بشارة سارة للمؤمنين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ} (97)

{ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } ( 97 )

وقوله تعالى : { قل من كان عدواً لجبريل } الآية : نزل على سبب لم يتقدم له ذكر فيما مضى من الآيات ، ولكن أجمع أهل التفسير أن اليهود قالت : جبريل عدونا ، واختلف في كيفية ذلك( {[986]} ) ، فقيل إن يهود فدك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : نسألك عن أربعة أشياء فإن عرفتها اتبعناك ، فسألوه عما حرم إسرائيل على نفسه ، فقال : لحوم الإبل وألبانها ، وسألوه عن الشبه في الولد ، فقال : أي ماء علا كان الشبه له ، وسألوه عن نومه ، فقال : تنام عيني ولا ينام قلبي ، وسألوه عمن يجيئه من الملائكة ، فقال : جبريل ، فلما ذكره قالوا ذاك عدونا ، لأنه ملك الحرب والشدائد والجدب ، ولو كان الذي يجيئك ميكائيل ملك الرحمة والخصب والأمطار لاتبعناك ، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتكرر على بيت المدارس فاستحلفتهم يوماً بالذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتعلمون أن محمداً نبي ؟ قالوا نعم ، قال : فلم تهلكون في تكذبيه( {[987]} ) ، قالوا : صاحبه جبريل وهو عدونا ، وذكر أنهم قالوا سبب عداوتهم له أنه حمى بختنصر حين بعثوا إليه قبل أن يملك من يقتله ، فنزلت هذه الآية لقولهم .

وفي جبريل لغات : «جِبرِيل » بكسر الجيم والراء من غير همز ، وبها قرأ نافع ، و «جَبرِيل » بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز ، وبها قرأ ابن كثير ، وروي عنه أنه قال : «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ ( جبريل وميكال ) ( {[988]} ) فلا أزال أقرؤهما أبداً كذلك( {[989]} ) » ، وجَبرَيل بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام وبها قرأ عاصم ، و «جَبرَءيل » بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء وياء بين الهمزة واللام ، وبها قرأ حمزة والكسائي وحكاها الكسائي عن عاصم ، «وجبرائل » بألف بعد الراء ثم همزة وبها قرأ عكرمة ، و «جبرائيل » بزيادة ياء بعد الهمزة( {[990]} ) ، و «جبراييل » بياءين وبها قرأ الأعمش ، و «جَبرَئلّ » بفتح الجيم والراء وهمزة ولام مشددة ، وبها قرأ يحيى بن يعمر ، و «جبرال » لغة فيه ، و «جِبرِين » بكسر الجيم والراء وياء ونون ، قال الطبري : «هي لغة بني أسد » ولم يقرأ بها ، و «جبريل » اسم أعجمي عربته العرب فلها فيه هذه اللغات( {[991]} ) ، فبعضها هي موجودة في أبنية العرب ، وتلك أدخل في التعريب كجبريل الذي هو كقنديل ، وبعضها خارجة عن أبنية العرب فذلك كمثل ما عربته العرب ولم تدخله في بناء كإبريسم وفرند وآجُرّ ونحوه( {[992]} ) .

وذكر ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن «جبر » و «ميك » و «سراف » هي كلها بالأعجمية بمعنى عبد ومملوك ، وإيل اسم الله تعالى( {[993]} ) ، ويقال فيه إلّ ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة : هذا كلام لم يخرج من إلّ .

وقوله تعالى : { فإنه نزّله على قلبك }( {[994]} ) الضمير في { فإنه } عائد على الله عز وجل ، والضمير في { نزّله } عائد على جبريل صلى الله عليه وسلم ، والمعنى بالقرآن وسائر الوحي ، وقيل : الضمير في «إنه » عائد على جبريل وفي { نزله } على القرآن ، وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف( {[995]} ) ، وجاءت المخاطبة بالكاف في { قلبك } اتساعاً في العبارة إذ ليس ثم من يخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكاف ، وإنما يجيء قوله : فأنه نزله على قلبي ، لكن حسن هذا إذ يحسن في الكلام العرب أن تحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ويحسن أن تقصد المعنى الذي يقوله فتسرده مخاطبة له( {[996]} ) ، كما تقول لرجل : قل لقومك لا يهينوك ، فكذلك هي الآية ، ونحو من هذا قول الفرزدق [ الطويل ]

ألم تَرَ أنّي يوم جو سويقة . . . بكيت فنادتْني هنيدةُ ما ليا( {[997]} )

فأحرز المعنى ونكب عن نداء هنيدة «ما لك » ، و { بإذن الله } معناه : بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة ، و { مصدقاً } حال من ضمير القرآن( {[998]} ) في { نزله } و { ما بين يديه } : ما تقدمه من كتب الله تعالى ، { هدى } إرشاد ، والبشرى : أكثر استعمالها في الخير ، ولا تجيء في الشر إلا مقيدة به ، ومقصد هذه الآية : تشريف جبريل صلى الله عليه وسلم وذم معاديه .


[986]:- أي في سبب هذا القول، فقيل: إن سبب ذلك محاورتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: محاورتهم مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكل سند. والظاهر أن أسئلة عبد الله بن سلام لم تكن سببا لنزول الآية الكريمة، وإن تليت الآية عندها، إذ لا يلزم من تلاوتها نزولها حينئذ، والله أعلم.
[987]:- أي بسبب تكذيبه.
[988]:- حاصل قراءة السبعة في (حبريل وميكائيل) أن حمزة والكسائي قرآ بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة بعدها ياء، وشعبة مثلهما إلا أنه يقرأ بدون ياء بعد الهمزة، والباقون يقرؤون (جبريل) بكسر الجيم كقنديل، إلا ابن كثير فإنه يفتح الجيم فقط، وأما (ميكائيل) فقرأ نافع بالهمز من دون ياء، والبصري وحفص بحذف الهمز والياء كميزان، والباقون بإثباتهما، وروي (ميكال) عن ابن كثير منذ رآها في النوم. ويأتي عند ابن عطية لدى قوله تعالى: (من كان عدوا لله) الآية: أن لابن كثير ثلاث قراءات.
[989]:- أي مع اعتماد الرواية في ذلك، إذ لا يعتمد في مثل هذا على المنام.
[990]:- نسب أبو (ح) قراءة (جبرائيل، وجبْراييل) إلى ابن عباس وعكرمة، انظره.
[991]:- يعني أنها تصرفت فيه هذه التصرفات العشرة. قال ابن جني: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه اهـ.
[992]:- الإبريسم بكسر السين وفتحها: الحرير معرب، والفِرند بكسر الفاء: السيف وجوهره، والورد الأحمر، معرب. والأجر بشد الراء: الطوب الذي بيني به، معرب.
[993]:- قال أبو عبد الله البخاري: قال عكرمة: جبرا وميكا وإسراف: عبد، إيل: الله- وما حكاه البخاري عن عكرمة هو المشهور من قولهم أن إيل هو الله، وقد رواه سفيان الثوري عن نصيف، عن عكرمة. ورواه عبد بن حميد، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة، ورواه ابن جرير بسنده عن عكرمة، وبذلك قال غير واحد من السلف. قال أبو علي الفارسي: هذا لا يستقيم من وجهين: أحدهما أن إيل لا يعرف من أسماء الله تعالى في اللغة العربية، والآخر أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجرورا أبدا كما تقول عبد الله. ومن الناس من يقول: إيل عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم الله، لأن كلمة إيل لا تتغير في الجميع، وكلام العجم يقدم المضاف إليه على المضاف.
[994]:- هذا القول يقوم مقام الجواب، والمعنى: من كان عدوا لجبريل فليمُتْ غيظا، وليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل القرآن على قبلك بإذن الله، فهو رسول الله، ومن عادى رسولا فقد عادى الرسل كلهم، كما أن من كفر برسول فيلزمه الكفر بجميع الرسل، ومن عادى جبريل فقد عادى الله، ومن عادى الله هلك. وفي الحديث: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب). وفي الحديث أيضا: (إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب).
[995]:- ولأنه إذا صلح صلح الجسد كله كما في الحديث المشهور.
[996]:- يعنى أنه يجوز في كلام العرب للمأمور أن يقصد اللفظ بالقول، وأن يقصد المعنى فيسرده بالخطاب كما في الآية الكريمة، وكما في بيت الفرزدق.
[997]:- وبعد هذا البيت: فقلت لها: إن البكاء لراحة به يشتــفي من ظــن ألا تــــلاقـــيا قفي ودعينا يا هُنَيْدُ فإنـني أرى الحي قد شاموا العقيق اليمانيا وهي أول قصيدة هجا بها الفرزدق جريرا والبعيث. و(جو سويقة) موضع. وفي بلاد العرب أجوبة كثيرة كل جو منها يعرف بما نسب إليه.
[998]:- أي على الإعراب الثاني وهو أن ضمير (فإنه) عائد على جبريل، وضمير (نزله) عائد على القرآن، وهذا الإعراب أصح من الأول، والضمير الثاني عائد على القرآن من دون تقدم ذكره إيذانا بفخامة شأنه، لكمال شهرته ونباهته، لا سيما عند ذكر بعض صفاته.