{ قل من كان عدوّا لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين 97 } .
{ قل من كان عدوّا لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله مصدّقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين * من كان عدوّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوّ للكافرين } .
روى البخاري في ( صحيحه ) في كتاب التفسير عن أنس قال{[660]} : ( سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو في أرض يخترف ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبي . فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزِع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال . ( أخبرني بهن جبريل آنفا ) ، قال : جبريل ؟ قال : ( نعم ) قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : { من كان عدوّا لجبريل فإنه نزّله على قلبك } . ( أما أول أشراط الساعة ، فنار تَحْشُر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام أهل الجنة ، فزيادة كبد حوت . وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت ) قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله ! إن اليهود قوم بُهُتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يَبْهَتُوني . فجاءت اليهود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أي رجل عبد الله فيكم ) ؟ قالوا :خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : ( أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ) ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ! فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . فقالوا : شرُّنا وابن شرنا . وانتقصوه .
قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال{[661]} : ( حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبيّ ) . وساق نحوا مما تقدم . وتتمته قالوا : ( أنت الآن ، فحدثنا من وليّك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، قال : فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط ، إلا وهو وليه . قالوا : فعندها نفارقك . ولو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : فما منعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدونا ، فأنزل الله عز وجل : { قل من كان عدوّا لجبريل } إلى قوله : { لو كانوا يعلمون } فعندها باؤوا بغضب على غضب ) . وفي رواية للإمام أحمد والترمذي والنسائي في القصة : ( فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : جبريل عليه السلام . قالوا : جبريل ! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب ، عدونا . لو قلت : " ميكائيل " الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ! فأنزل الله تعالى : { قل من كان عدوّا لجبريل } إلى آخر الآية ) . ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم . فقد روى ابن جرير عن الشعبيّ قال : ( نزل عمرُ الرَّوْحاءَ ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلّون إليها . فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . قال فكره ذلك ، وقال : أيْما ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركه . ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مِدْرَاسِهم ، فأعجب من التوراة كيف تصدّق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة ! فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ! ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال قلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان قال ، ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، وما استودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظَّم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ نشدتنا به . فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت ويحكم ، إذا هلكتم . قالوا : إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدوّا من الملائكة ، وسِلْماً من الملائكة . وإنه قُرِنَ به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم . قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ؟ وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار ، والتشديد والعذاب ، ونحو هذا . وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ، ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما ؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، قال : قلت : فوالله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدوّ لمن عاداهما وسِلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل ، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل . قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان . فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن ؟ فقرأ علي { قل من كان عدوّا لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله } حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر ) .
ورواه مختصرا ابن أبي حاتم أيضا ، وفيه انقطاع ، فإن الشعبي لم يدرك زمان عمر رضي الله عنه . كذا قاله الحافظ ابن كثير . وساقه أيضا الواحديّ ، وزاد في آخره : قال عمر : ( فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر ) .
قال العلامة البقاعيّ : وقد روى هذا الحديث أيضا إسحق بن راهويه في ( مسنده ) عن الشعبيّ ، عن عمر رضي الله عنه . قال شيخنا البوصيريّ : وهو مرسل صحيح الإسناد ، انتهى . وثم روايات متنوعات ساقها ابن كثير في ( تفسيره ) ، لا نطوّل كتابنا بسردها ، ومرجعها واحد . فإن قيل : بين رواية البخاري الأولى وما بعدها تناف . فالجواب : لا منافاة ، لأن قراءته صلى الله عليه وسلم لها في محاورة عبد الله بن سلام ، ردًّا لقول اليهود ، لا يستلزم نزولها حينئذ . فإن المعتمد في سبب نزولها غير قصة عبد الله بن سلام مما سلف من الروايات . فإن طرقها يقوي بعضها بعضا ، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عبد الله بن سلام : إن جبريل عدو لليهود ، تلا عليه الآية ، مذكّراً له سبب نزولها كذا قاله الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) .
وقد أشار إلى ذلك السيوطي في " الإتقان " حيث قال ( تنبيه ) قد يكون في إحدى القصتين ، ( فتلا ) فَيَهِمُ الراوي ، فيقول ( فينزل ) . وقال العلامة ولي الله الدهلويّ قدس سره في كتابه " أصول التفسير " وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيرا ما كانوا يقولون : نزلت الآية في كذا وكذا ، وكأن غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها . سواء تقدمت القصة أو تأخرت . إسرائيليا كان ذلك أو جاهليا أو إسلاميا . استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها ، والله أعلم .
فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلا . وللقصص المتعددة هنالك سعة . فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية . انتهى .
وقوله تعالى : { لجبريل } قرئ في السبع بكسر الجيم والراء بلا همز ، وبفتح الجيم بدونها أيضا ، وبفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة ثم ياء وبدونها . قال ابن جنيّ : العرب إذا نطقت بالأعجميّ خلطت فيه .
وقوله : { فإنه نزله } تعليل لجواب الشرط قائم مقامه ، والبارز الأول لجبريل عليه السلام ، والثاني للقرآن ، أضمر من غير سبق ذكر ، إيذانا بفخامة شأنه ، واستغنائه عن الذكر ، لكمال شهرته ونباهته ، لاسيما عند ذكر شيء من صفاته . وقوله : { على قلبك } زيادة تقرير للتنزيل ، ببيان محل الوحي ، فإنه القابل الأول له ، إن أريد به الروح . ومدار الفهم والحفظ إن أريد به العضو ، وهذا كقوله : { نزل به الروح الأمين على قلبك } {[662]} وكان حق الكلام أن يقال : ( على قلبي ) لأنه المطابق لقُلْ ، ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به تحقيقا لكونه كلام الله . وأنه أمر بإبلاغه . وقوله : { بإذن الله } أي بأمره . وقوله : { مصدقا لما بين يديه } أي من التوراة وبقية الصحف المنزلة . وقوله : { وهدى وبشرى للمؤمنين } أي يهدي للرشد وبشرى لهم بالجنة ، كما قال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } {[663]} الآية . وقال تعالى : { وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } {[664]} وفيه رد على اليهود ، حيث قالوا : إن جبريل ينزل بالحرب والشدة كما تقدم ، فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضا . فإن قيل : من شأن الشرط والجزاء الاتصال بالسببية والترتب ، فكيف استقام قوله : { فإنه نزله } جزاء للشرط ؟ أجيب بأن قوله : { فإنه نزله } تعليل لجواب الشرط ، كما أسلفنا . والمعنى : من عادى جبريل من أهل الكتاب ، فلا وجه لمعاداته ، بل يجب عليه محبته ، فإنه نزل عليك كتابا مصدقا لكتبهم . فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه ، في إنزاله ما ينفعهم ، ويصحح المآل عليهم . وقيل : الجواب محذوف تقدير " فليمت غيظا " . وعليه فلا يكون { فإنه نزله } نائبا عنه . ووجهه أن يقدر الجواب مؤخراً عن قوله : { فإنه نزله } ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة ، كأنه قيل : من عاداه ، لأنه نزل على قلبك فليمت غيظا .
قال الرضى : كثيرا ما يدخل الفاء على السبب ويكون بمعنى اللام ، قال الله تعالى : { فاخرج منها فإنك رجيم } {[665]} ، وقيل تقديره : فهو عدو لي وأنا عدوه ، بقرينة الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم ، وهي قوله تعالى : { من كان عدوّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوّ للكافرين } أي من كان عدوا لله لإنزاله فضله على من يشاء أو لأمر آخر . وأفادت الآية غضب الله تعالى لجبريل على من عاداه . وقد{[666]} روى البخاري في ( صحيحه ) ، عن أبي هريرة حديثا قدسيا ( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ) .
وصدَّر الكلام بذكره الجليل تفخيما لشأنهم وإيذانا بأن عداوتهم عداوته عز وعلا . وقدم الملائكة على الرسل ، كما قدم الله على الجميع ؛ لأن عداوة الرسل بسبب نزول الوحي ، ونزوله بتنزيل الملائكة ، وتنزيلهم لها بأمر الله ، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب ، وإنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما ، والدلالة على فضلهما ، وإنهما ، وإن كانا من الملائكة ، فقد صار باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة ، تنزيلا للتغاير الوصفيّ ، منزلة التغاير الذاتيّ ، وللتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر ، واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وإن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع ، إذ الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد ، ولأن المحاجة كانت فيهما . ووضع { الكافرين } موضع { لهم } ، ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وإن عداوة الملائكة كفر . وقد قرئ في السبع " ميكال " كميزان ، و " ميكائل " بهمزة مكسورة بعد الألف بدون ياء و " ميكائيل " بالهمزة والياء .