الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ} (97)

أخرج الطيالسي والفريابي وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عباس قال : حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي . قال " سلوني عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني ؟ قالوا : فذلك لك . قالوا : أربع خلال نسألك عنها . أخبرنا أي طعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، وأخبرنا كيف ماء الرجل من ماء المرأة وكيف الأنثى منه والذكر ، وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ، ومن وليه من الملائكة ، فأخذ عليهم عهد الله لئن أخبرتكم لتتابعني ، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق . قال : فأنشدكم بالذي أنزل التوراة هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا طال سقمه ، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها ؟ فقالوا : اللهم نعم . فقال : اللهم اشهد . قال : أنشدكم بالذي لا إله إلا هو هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وأن ماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الواد والشبه بإذن الله ، إن علا ماء الرجل كان ذكرا بإذن الله وإن علا ماء المرأة كان أنثى بإذن الله ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : اللهم اشهد قال : فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن النبي الأمي هذا تنام عيناه ولا ينام قلبه ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد عليهم . قالوا : أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نتابعك أو نفارقك ؟ قال : وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه . قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليك سواه من الملائكة لا تبعناك وصدقناك . قال : فما يمنعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : هو عدونا . فأنزل الله تعالى { من كان عدوّا لجبريل } إلى قوله { كأنهم لا يعلمون } فعند ذلك باؤوا بغضب على غضب " .

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم عن الشعبي قال " نزل عمر رضي الله عنه بالروحاء ، فرأى ناسا يبتدرون أحجارا فقال : ما هذا ؟ فقالوا : يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى هذه الأحجار ، فقال : سبحان الله . . . ! ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا راكبا مر بواد فحضرت الصلاة فصلى ، ثم حدث فقال : إني كنت أغشى اليهود يوم دراستهم فقالوا : ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك لأنك تأتينا . قلت : وما ذاك إلا أني أعجب من كتب الله كيف يصدق بعضها بعضا ، كيف تصدق التوراة الفرقان والفرقان التوراة ، فمر النبي صلى الله عليه وسلم يوما وأنا أكلمهم فقلت : أنشدكم بالله وما تقرؤون من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قالوا : نعم . فقلت : هلكتم والله ، تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ؟ فقالوا : لم نهلك ولكن سألناه من يأتيه بنبوته فقال : عدوّنا جبريل ، لأنه ينزل بالغلظة والشدة والحرب والهلاك ونحو هذا ، فقلت فمن سلمكم من الملائكة ؟ فقالوا : ميكائيل ينزل بالقطر والرحمة وكذا . قلت : وكيف منزلتهما من ربهما ؟ فقالوا : أحدهما عن يمينه والآخر من الجانب الآخر . قلت : فإنه لا يحل لجبريل أن يعادي ميكائيل ، ولا يحل لميكائيل أن يسالم عدو جبريل ، وإني أشهد أنهما وربهما سلم لمن سالموا وحرب لمن حاربوا ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن أخبره ، فلما لقيته قال : ألا أخبرك بآيات أنزلت علي ؟ قلت : بلى يا رسول الله فقرأ { من كان عدوّا لجبريل } حتى بلغ { الكافرين } قلت : والله يا رسول الله ما قمت من عند اليهود إلا إليك لأخبرك بما قالوا إلي ، وقلت لهم فوجدت الله قد سبقني . صحيح الإسناد ولكن الشعبي لم يدرك عمر " .

وأخرج سفيان بن عينية عن عكرمة قال " كان عمر يأتي يهود يكلمهم فقالوا : إنه ليس من أصحابك أحد أكثر إتيانا إلينا منك ، فأخبرنا من صاحب صاحبك الذي يأتيه بالوحي ؟ فقال : جبريل . قالوا : ذاك عدونا من الملائكة ، ولو أن صاحبه صاحب صاحبنا لأتبعناه ، فقال عمر : ومن صاحب صاحبكم ؟ قالوا : ميكائيل . قال : وما هما ؟ قالوا : أما جبريل فينزل بالعذاب والنقمة وأما ميكائيل فينزل بالغيث والرحمة وأحدهما عدو لصاحبه . فقال عمر . وما منزلتهما ؟ قالوا : إنهما من أقرب الملائكة منه أحدهما عن يمينه وكلتا يديه يمين والآخر على الشق الآخر . فقال عمر : لئن كانا كما تقولون ما هما بعدوين ، ثم خرج من عندهم فمر بالنبي صلى الله عليه وسلم فدعاه فقرأ عليه { من كان عدوا لجبريل . . . } الآية . فقال عمر : والذي بعثك بالحق إنه الذي خاصمتهم به آنفا .

وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود ، فلما أبصروه رحبوا به فقال عمر : والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم ولكني جئت لأسمع منكم ، وسألوه فقالوا : من صاحب صاحبكم ؟ فقال لهم : جبريل ، قالوا : ذاك عدونا من الملائكة يطلع محمد على سرنا ، وإذا جاء ، جاء بالحرب والسنة ولكن صاحبنا ميكائيل ، وإذا جاء جاء بالخصب والسلم . فتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم ، فوجده قد أنزل هذه الآية { قل من كان عدوا لجبريل . . . } الآية .

وأخرج ابن جرير عن السدي قال " لما كان لعمر أرض بأعلى المدينة يأتيها ، وكان ممره على مدارس اليهود ، وكان كلما مر دخل عليهم فسمع منهم ، وإنه دخل عليهم ذات يوم فقال لهم : أنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتجدون محمدا عندكم ؟ قالوا : نعم ، إنا نجده مكتوبا عندنا ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي جبريل وجبريل عدونا ، وهو صاحب كل عذاب وقتال وخسف ، ولو كان وليه ميكائيل لآمنا به ، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث . قال عمر : فأين مكان جبريل من الله ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره . قال عمر : فأشهدكم أن الذي عدو للذي عن يمينه عدو للذي هو عن يساره والذي عدو للذي هو عن يساره عدو للذي هو عن يمينه ، وأنه من كان عدوهما فإنه عدو لله ، ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال فوجد جبريل قد سبقه بالوحي ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ { قل من كان عدوا لجبريل . . . } الآية . فقال عمر : والذي بعثك بالحق لقد جئت وما أريد إلا أن أخبرك " .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى . أن يهوديا لقي عمر فقال : إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا . فقال عمر { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو الكافرين } قال : فنزلت على لسان عمر ، وقد نقل ابن جرير الإجماع على أن سبب نزول الآية ذلك .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي في الدلائل عن أنس قال " سمع عبد الله بن سلام بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو بأرض يخترف ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي . ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : أخبرني جبريل بهن آنفا . قال : جبريل ؟ قال : نعم . قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة . فقرأ هذه الآية { من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك } قال : أما أول أشراط الساعة فنار تخرج من المشرق فتحشر الناس إلى المغرب ، وأما أول ما يأكل أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما ما ينزع الولد إلى أبيه وأمه فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها . قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله " .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { فإنه نزله على قلبك بإذن الله } يقول : جبريل نزل القرآن بإذن الله يشدد به فؤادك ، ويربط به على قلبك { مصدقا لما بين يديه } يقول : لما قبله من الكتب التي أنزلها ، والآيات والرسل الذين بعثهم الله .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { مصدقا لما بين يديه } قال : من التوراة والإنجيل { وهدى وبشرى للمؤمنين } قال : جعل الله هذا القرآن هدى وبشرى للمؤمنين ، لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ، ووعاه ، وانتفع به ، واطمأن إليه ، وصدق بموعود الله الذي وعده فيه ، وكان على يقين من ذلك .