الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ} (97)

قوله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ } . . . " مَنْ " شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و " كان " خبرُه على ما هو الصحيحُ كما تقدَّم ، وجوابُهُ محذوفٌ تقديرُه : مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ فلا وَجْهَ لعداوتِه ، أو فَلْيَمُتْ غَيْظاً ونحوُه . ولا جائز أن يكونَ " فإنه نزَّله " جواباً للشرطِ لوجهين ، أحدُهما من جهةِ المعنى ، والثاني من جهةِ الصناعةِ ، أما الأول : فلأنَّ فِعْلَ التنزيلِ متحقِّقُ المُضِيِّ ، والجزاءُ لا يكون إلاَّ مستقبلاً ولقائلٍ أن يقولَ : هذا محمولٌ على التبيين ، والمعنى : فقد تبيَّن أنه نَزَّله ، كما قالوا في قوله : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ [ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 26 ] ونحوِه . وأمَّا الثاني : فلأنه ] لا بد من جملة الجزاء مِن ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ ، فلا يجوزُ : مَنْ يَقُمْ فزيدٌ منطَلِقٌ ، ولا ضميرَ في قولِه : " فإنَّه نَزَّله " يَعُودَ على " مَنْ " فلا يكونُ جواباً للشرط ، وقد جاءَتْ مواضعُ كثيرةٌ مِنْ ذلك ، ولكنهم أَوَّلُوها على حَذْفِ العائدِ فَمِنْ ذلك قُولُه :

فَمَنْ تَكُنِ الحضارَةُ أَعْجَبَتْهُ *** فَأَيَّ رجالِ باديةٍ تَراني

وقولُه :

فَمَنْ يَكُ أَمْسى بالمدينةِ رَحْلُه *** فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ

وينبغي أن يُبْنَى ذلك على الخلافِ في خبر اسم الشرط . فإنْ قيل : إنَّ الخبرَ هو الجزاءُ وحدَه - أو هو مع الشرطِ - فلا بدَّ من الضمير / ، وإنْ قيل بأنه فعلُ الشرطِ وحدَه فلا حاجَةَ إلى الضميرِ ، وقد تقدَّم قولُ أبي البقاء وغيره في ذلك عند قوله تعالى : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة : 38 ] ، وقد صَرَّحَ الزمخشري بأنَّه جوابُ الشرطِ ، وفيه النظرُ المذكورُ ، وجوابُه ما تقدَّم .

و " عَدُوَّاً " خبرُ كانَ ، وَيَسْتَوي فيه الواحدُ وغيرُه ، قال : " هم العدُوُّ " : والعَدَاوَةُ : التجاوُزُ . قالَ الراغب : " فبالقلب يُقال العَدَاوَةُ ، وبالمشِي يقال : العَدْوُ ، وبالإِخلال في العَدْلِ يقال : العُدْوان ، وبالمكان أو النسب يقال : قومٌ عِدَىً أي غُرَبَاء " . و " لِجبريلَ " يجوزُ أنْ يكونَ صفةً ل " عَدُوّاً " فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، وأَن تكونَ اللامُ مقويةً لتعدِيَةِ " عَدُوَّاً " إليه . وجبريل اسمُ مَلَكٍ وهو أعجمي ، فلذلك لم يَنْصَرِفْ ، وقولُ مَنْ قالَ : " إنَّه مشتقٌّ من جَبَرُوت الله " بعيدٌ ، لأنَّ الاشتقاقَ لا يكونُ في [ الأسماءِ ] الأعجميةِ ، وكذا قولُ مَنْ قالَ : " إنه مركبٌ تركيبَ الإِضافةِ ، وأنَّ " جَبْر " معناه عَبْد ، و " إيل " اسمٌ من أسماء الله تعالى فهو بمنزلةِ عبد الله " لأنه كانَ ينبغي أَنْ يَجْرِيَ الأولُ بوجوهِ الإِعراب وأن ينصرفَ الثاني ، وكذا قولُ المهدوي : إنه مركَّبٌ تركيبَ مَزْجٍ نحو : حَضْرَمَوْت لأنه كانَ ينبغي أن يُبْنَى الأولُ على الفتحِ ليس إلاَّ .

وأمَّا ردُّ الشيخِ عليه بأنه لو كانَ مركباً تركيبَ مزجٍ لجازَ فيه أَنْ يُعْرَبَ إعرابَ المتضايِفَيْنِ أو يُبْنَى على الفتحِ كأحدَ عشرَ ، فإنَّ كلَّ ما رُكِّب تركيبَ المَزْجِ يجوزُ فيه هذه الأوجهُ ، وكونُه لم يُسْمَعْ فيه البناءُ ولا جريانُه مَجْرى المتضايِفَيْنِ دليلٌ على عَدَمِ تركيبِه تركيبَ المَزْجِ ، فلا يَحْسُنَ رَدَّاً لأنه جاءَ على أحدِ الجائِزَيْنِ واتَّفَقَ أنه لم يُسْتَعْمَلْ إلا كذلك .

وقد تَصَرَّفَتْ فيه العربُ على عادَتها في الأسماءِ الأعجميَّةِ فجاءَتْ فيه بثلاثَ عشرةَ لغةً ، أشهرُها وأفصحُها : جِبْرِيل بزنةِ قِنْدِيل ، وهي قراءةُ أبي عمرو ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم . وهي لغةُ الحجازِ ، قال ورقةُ بنُ نوفل :

وجِبْريلُ يأتيه ومِيكالُ مَعْهُما *** مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصدرَ مُنْزَلُ

وقال حسان :

وجِبْريلٌ رسولُ اللهِ فينا *** وروحُ القُدْسِ ليسَ له كِفَاءُ

وقال عمران بن حطان :

والروحُ جبريلُ منهم لا كِفَاءَ له *** وكانَ جِبْرِيلُ عند الله مَأْمُوناً

الثانيةُ : كذلك إلا أنه بفتحِ الجيم ، وهي قراءة ابن كثير والحسن ، وقال الفراء : " لا أُحِبُّها لأنه ليس في كلامهم فَعْليل " . وما قاله ليس بشيء لأن ما أَدْخَلَتْه العربُ في لِسانِها على قسمين : قسمٍ ألحقُوه بأبنيتِهم كلِجام ، وقسمٍ لم يُلْحقوه كإبْرَيْسَم ، على أنه قِيل إنه نظيرُ شَمْوِيل اسمِ طائر ، وعن ابن كثير أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : جَبْريلَ وميكائيل ، قال : فلا أزال أقرؤهُما كذلك . الثالث : جَبْرَئيل كعَنْتَريس ، وهي لغةُ قيسٍ وتميمٍ ، وبها قرأ حمزةُ والكسائي ، وقال حسان :

شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ *** الدهرِ الا جَبْرَئِيلُ أَمامَها

وقال جرير :

عبَدوا الصليبَ وكَذَّبوا بمحمدٍ *** وبجَبْرَئِيلَ وكَذَّبوا مِيكالا

الرابعةُ : كذلك إلا أنه لا ياءَ بعد الهمزةِ ، وتُرْوَى عن عاصمٍ ويحيى ابن يعمر . الخامسة : كذلك إلا أنَّ اللامَ مشدَّدَةٌ ، وتُرْوى أيضاً عن عاصم ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا : و " إلَّ " بالتشديد اسمُ الله تعالى ، وفي بعض التفاسير : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } [ التوبة : 10 ] قيل : معناهُ الله . ورُوي عن أبي بكر لَمَّا سَمِعَ بسَجْع مُسَيْلَمة : " هذا كلامٌ لم يَخْرُجْ من إلّ " . السادسة : جَبْرَائِل بألفٍ بعدَ الراءِ وهمزةٍ مكسورةٍ بعدَ الألفِ ، وبها قرأ عكرمةُ . السابعةُ : مِثلُها إلا أنَّها بياءٍ بعدَ الهمزةِ . الثامنة : جِبْرايِيل بياءَيْنِ بعد الألفِ من غير هَمْزٍ ، وبها قَرأ الأعمشُ ويَحْيى أيضاً . التاسعةُ : جِبْرال . العاشرة : جِبْرايِل بالياءِ والقَصْرِ وهي قراءةُ طلحةَ بن مصرف . الحاديةَ عشرةَ ، جَبْرِين بفتحِ الجيمِ والنون . الثانيةَ عشرةَ : كذلك إلا أنَّها بكسرِ الجيم . الثالثةَ عشرةَ : جَبْرايين . والجملةُ مِنْ قولِه : " مَنْ كان " في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، والضميرُ في قوله : " فإنَّه " يعودُ على جبريل ، وفي قوله " نَزَّلَه " يعودُ على القرآنِ ، وهذا موافقٌ لقولِه : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }

[ الشعراء : 193 ] في قراءةِ مَنْ رَفَع " الروح " ، ولقولِه " مصدِّقاً " ، وقيل : الأولُ يعودُ على اللهِ والثاني يعودُ على جِبْريل ، وهو موافقٌ لقراءَةِ مَنْ قَرأَ { نَزَلَ به الروحُ } بالتشديدِ والنَّصْبِ ، وأتى ب " على " التي تقتضي الاستعلاء دونَ " إلى " التي تقتضي الانتهاء ، وخَصَّ القلبَ بالذكر لأنه خزانةُ الحِفْظِ وبيتُ الرَّبِّ ، وأضافه إلى ضميرِ المخاطب دونَ ياءِ المتكلِّمِ - وإنْ كان ظاهرُ الكلامِ يقتضي أَنْ يكون " على قلبي " - لأحدِ أمرَيْنِ : إمَّا مراعاةً لحالِ الأمرِ بالقولِ فَتَسْرُدُ لفظَه بالخطابِ كما هو نحوُ قولِك : قل لقومِك لا يُهينوك ، ولو قلت : لا تُهينوني لجازَ ، ومنه قولُ الفرزدق :

ألم تَرَ أنِّي يومَ جَوِّ سُوَيْقَةٍ *** دَعَوْتُ فنادَتْني هُنَيْدَةُ : ما ليا

فَأَحْرَز المعنى ونكبَّ عن نداءِ هُنَيْدَةَ ب " مالك " ؟ ، وإمَّا لأنَّ ثَمَّ قولاً آخرَ مضمراً بعد " قُلْ " ، والتقديرُ : قُلْ يا محمد : قال الله مَنْ كان عدوَّاً لجبريلَ ، وإليه نَحَا الزمخشري بقولِه : " جاءَتْ على حكايةِ كلامِ الله تعالى ، قُلْ ما تكلَّمْتُ به من قولي : مَنْ كانَ عَدُوّاً لجبريلَ فإنه نَزَّله على قَلْبِكَ " فعلى هذا الجملةُ الشرطيةُ معمولةٌ لذلك القولِ المضمرِ ، والقولُ المُضْمَرُ معمولٌ لِلَفْظِ " قُلْ " ، والظاهرُ ما تقدَّم من كونِ الجملةِ معمولةً لِلَفْظِ " قُلْ " بالتأويل المذكورِ أولاً ، ولا يُنافيه قولُ الزمخشري فإنَّه قَصَدَ تفسيرَ المعنى لا تفسيرَ الإِعرابِ .

قوله : { بِإِذْنِ اللَّهِ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل : " نَزَّله " إنْ قيلَ إنه ضميرُ جبريل ، أو من مفعولِه إنُ قيل إنَّ الضميرَ المرفوعَ في " نَزِّلَ " يعودُ على الله ، والتقديرُ : فإنَّه نَزَّله مأذوناً له أو ومعه إذْنُ الله . [ والإِذْنُ في الأصلِ العِلْمُ بالشيءِ ، والإِيذانُ : الإِعلامُ ] ، أَذِنَ به : عَلِمَ به . وأذَنْتُه بكذا : أَعْلَمْتُه به ، ثم يُطْلَقُ على التمكينِ ، أَذِن لي في كذا : أَمْكَنني منه ، وعلى الاختيارِ : فَعَلْتُه بإذنك : أي باختيارِك ، وقولُ مَنْ قال بإذنه أي : بتيسيرِه راجعٌ إلى ذلك .

قولُه : " مُصَدِّقاً " حالٌ من الهاءِ في " نَزَّلَه " إنْ كانَ يعودُ الضميرُ على القرآنِ ، وإنْ عادَ على جبريل ففيه احتمالان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ من المجرور المحذوفِ لفَهْمِ المعنى ، والتقديرُ : فإنَّ الله / نَزَّل جبريلَ بالقرآنِ مصدِّقاً ، والثاني : أن يكونَ مِنْ جبريل بمعنى مُصَدِّقاً لِما بينَ يديهِ من الرسلِ وهي حالٌ مؤكِّدةٌ ، والهاءُ في " بين يديه " يجوزُ أن تعودَ على " القرآنِ " أو على " جِبْريل " .

و " هُدَىً وبُشْرَى " حالان مَعْطوفانِ على الحالِ قبلهما ، فهما مصدران موضوعان مَوْضِعَ اسمِ الفاعلِ ، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي : ذا هُدَىً ، و " بُشْرى " ألفُها للتأنيثِ ، وجاءَ هذا الترتيبُ اللفظيُّ في هذه الأحوالِ مطابقاً للترتيبِ الوجودِيِّ ، وذلك أنَّه نَزَل مصدِّقاً للكتبِ لأنها من ينبوعٍ واحدٍ ، والثاني : أنه حَصَلَتْ به الهدايةُ بعد نزولِه . والثالث : أنه بُشْرى لمَنْ حَصَلَتْ له به الهدايةُ ، وخَصَّ المؤمنينَ لأنهم المنتفعونَ به دونَ غيرِهم وقد تقدَّم نحوُه .