غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ} (97)

97

التفسير : هذا نوع آخر من قبائح أفعال اليهود ، والسبب في نزوله أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا من أحبار فدك فقال : " يا محمد ، كيف نومك ؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجيء في آخر الزمان ، فقال صلى الله عليه وسلم تنام عيناي ولا ينام قلبي . قال : صدقت يا محمد ، فأخبرنا عن الولد من الرجل يكون أو من المرأة ؟ فقال : أما العظام والعصب والغضروف فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة . فقال صدقت . قال : فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله ، أو يشبه أخواله دون أعمامه ؟ فقال : أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له . قال : صدقت . قال : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً إن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب على نفسه وهو لحمان الإبل وألبانها ؟ فقالوا : اللهم نعم . فقال له : بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك . أيّ ملك يأتيك بما تقول عن الله ؟ قال : جبريل قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة ، ورسولنا ميكائيل يأتي باليسر والرخاء . فإن كان هو يأتيك آمنا بك . فقال عمر : ما مبدأ هذا العداوة ؟ فقال ابن صوريا : إن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس يخرب في زمان رجل يقال له بختنصر ، ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً فدفع عنه جبريل وقال : إن سلطكم الله على قتله ، فهذا ليس هو ذاك وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه . ثم إنه كبر وقوي وملك وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدواً . وأما ميكائيل فإنه عدو لجبريل . فقال عمر : فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكائيل ، وهما عدوان لمن عاداهما " ، فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين . وقيل : كان لعمر أرض بالمدينة أعلاها ، وكان ممره على مدراس اليهود ، وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم . فقالوا : يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك . فقال : والله لا أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني ، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم . ثم سألوه فقالوا : من صاحب صاحبكم ؟ فقال عمر : جبريل . فقالوا : ذاك عدوّنا يطلع محمداً على أسرارنا ، وهو صاحب كل خسف وعذاب ، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام . فقال لهم : وما منزلتهما من الله ؟ قالوا : أقرب منزلة جبريل وهو عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وميكائيل عدوّ لجبريل . فقال عمر : إن كان كما تقولون فما هما بعدوّين ، ولأنتم أكفر من الحمير ، ومن كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر ، ومن كان عدواً لهما كان عدواً لله . ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد وافقك ربك يا عمر " . قال : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر . وعن مقاتل : زعمت اليهود أن جبريل عدونا أمر بأن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا . والأقرب في سبب عداوتهم إياه أنه كان ينزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كما يشعر بذلك قوله { فإنه نزّله } أي إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقاً لكتابهم وموافقاً له وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم ، ولذلك كانوا يحرّفونه ويجحدون موافقته له كقولك " إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه " أو إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في النزول بما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم . ويمكن أن يتوجه الجزاء إلى قوله { بإذن الله } إلى آخره . أي إن عاداه أحد فلا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وباختياره وإنما جاء به بإذن الله وأمره الذي لا محيص عنه ولا سبيل إلى مخالفته وجاء به مصدقاً هادياً مبشراً ، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذوراً ، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يلزم أن يكون مشكوراً . فعداوة من هذا سبيله عداوة الله ، ولو أنه تعالى أمر ميكائيل بذلك لانقاد لأمره أيضاً لا محالة ولتوجه الإشكال عليه ، فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة ؟ وجبريل ممتنع من الصرف للعلمية والعجمة بشرطها . وعن ابن عباس وغيره أن معناه عبد الله ، والضمير في نزله للقرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم مثل قوله تعالى

{ ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : 45 ] وهذا النوع من الإضمار فيه فخامة لشأن صاحبه حيث جعله لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه . وأكثر الأمة على أن القرآن إنما نزل على محمد لا على قلبه ، لكن خص القلب بالذكر لأن السبب في تمكنه صلى الله عليه وسلم من الأداء ثباته في قلبه ، فمعنى على قلبك حفظه إياك وفهمه . وقيل : أي جعل قلبك متصفاً بأخلاق القرآن ومتأدباً بآدابه كما في حديث عائشة " كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن " وكان حق الكلام أن يقال على قلبي إلا أنه جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي { من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك } ومعنى { مصدقاً لما بين يديه } موافقاً لما قبله من كتب الأنبياء فيما يرجع إلى المبادئ والغايات دون الأوساط التي يتطرق إليها الاختلاف بتبدل الأزمان والأوقات . ومعنى قوله { وهدى وبشرى } أن القرآن يشتمل على أمرين . أحدهما بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأفعال الجوارح فهو من هذا الوجه هدى ، وثانيهما بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه فهو من هذا الوجه بشرى ، والأول مقدم على الثاني في الوجود فقدم في الذكر أيضاً . ولا ريب أن البشرى تختص بالمؤمنين ، وأما الهدى فلأنهم هم المنتفعون به كما مر في { هدى للمتقين } .