قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام } ، قال مجاهد : سميت كعبة لتربيعها ، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبةً ، قال مقاتل : سميت كعبة لانفرادها من البناء ، وقيل : سميت كعبة لارتفاعها من الأرض ، وأصلها من الخروج والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً لنتوه ، وخروجه من جانبي القدم ، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ ، وخرج ثديها تكعبت . وسمي البيت الحرام : لأن الله تعالى حرمه ، وعظم حرمته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ) . قوله تعالى : { قياماً للناس } ، قرأ ابن عامر { قيماً } بلا ألف ، والآخرون : ( قياما ) بالألف ، أي قواماً لهم في أمر دينهم ودنياهم . أما الدين لأن به يقوم الحج والمناسك ، وأما الدنيا فيما يجبى إليه من الثمرات ، وكانوا يأمنون فيه من النهب والغارة ، فلا يتعرض لهم أحد في الحرم .
قال الله تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت :67 ]
قوله تعالى : { والشهر الحرام } . أراد به الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، أراد أنه جعل الأشهر الحرم قياماً للناس ، يأمنون فيها القتال .
قوله تعالى : { والهدي والقلائد } . أراد أنهم كانوا يأمنون بتقليد الهدي ، فذلك القوام فيه .
قوله تعالى : { ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم } ، فإن قيل : أي اتصال لهذا الكلام بما قبله ؟ قيل : أراد الله عز وجل جعل الكعبة قياماً للناس لأن الله تعالى يعلم صلاح العباد ، كما يعلم ما في السماوات وما في الأرض . وقال الزجاج : قد سبق في هذه السورة الإخبار عن الغيوب ، والكشف عن الأسرار ، مثل قوله { سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين } ، ومثل إخباره بتحريفهم الكتب ، ونحو ذلك فقوله : { ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } راجع إليه .
{ جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً . . . }
قال الفخر الرازي : " اعلم أن اتصال هذه الآي - { جَعَلَ الله الكعبة } بما قبلها هو أن الله - تعالى - حرم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم . فبين أن الحرم أنه سبب لأمن الوحش والطير . فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات ، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة .
والكعبة في اللغة : البيت المكعب أي المربع . وقيل المرتفع .
قال القرطبي : وقد سميت الكعبة كعبة ، لأنها مربعة . . وقيل : إنما سميت كبعة لنتوئها وبروزها ، فكل نأتئ بارز كعب ، ومنه كعب القدم وكعوب الفتاة ، وكعب ثدى المرأة إذا ظهر في صدرها .
وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى صير فيتعدى لاثنين أولهما الكعبة وثانيهما قياما ويحتمل أن يكون بمعنى خالق أو شرع فيتعدى لواحد وهو الكعبة ويكون قوله : { قياما } حال من البيت الحرام .
والبيت الحرام : بدل من الكعبة أو عطف بيان جيء به على سبيل المدح والتعظيم ووصف بالحرام إيذانا بحرمته وإشعاراً بشرفه ، حيث حرم - سبحانه - القتل فيه ، وجعله مكان أمان الناس واطمئنانهم .
وقوله { قياما } أصله قواماً فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .
والقيام والقوام ما به صلاح الشيء ، كما يقال : الملك العادل قوام رعيته . لأنه يدبر أمرهم ويردع ظالمهم ، ويحجز قويهم عن ضعيفهم ، ومسيئتهم عن محسنهم .
والمراد بالشهر الحرام : الأشهر الحرم على إرادة الجنس وهي : ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب .
وقيل المراد به شهر ذي الحجة فحسب ، لأنه هو الذي تؤدي فيه فريضة الحج ، فالتعريف للعهد وليس للجنس .
والهدى : اسم لما يهدي إلى الحرم من حيوان ليتقرب بذبحه إلى الله تعالى - وهو جمع هدية - بسكون الدال - .
والقلائد جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدى ليعلم أنه مهدي إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء .
فالمراد بالقلائد هنا الحيوانات ذوات القلائد التي تساق إلى الحرم لذبحها فيه ، فيكون ذكر القلائد بعد الهدى من باب التخصيص بالذكر على سبيل الاهتمام بشأنها ، لأن الثواب فيها أكثر .
وقيل المراد بها : ما كان يفعله بعض الناس من وضع قلادة من شعر أو من غيره في أعناقهم عندما يحرمون حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء .
وقوله : { والشهر الحرام والهدي والقلائد } معطوف على ما قبله وهو الكعبة .
والمعنى : اقتضت حكمة الله - تعالى - ورحمته بعباده أن يصير الكعبة التي هي البيت الحرام { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } أي قوامهم في إصلاح أمورهم دينا ودنيا ، وكذلك جعل الأشهرا الحرم والهدى وخصوصاً ما يقلد منه قياماً للناس أيضاً .
وذلك لأن البيت الحرام الذي يأتي الناس إليه من كل فج عميق ، يجدون في رحابه ما يقوى إيمانهم ، ويرفع درجاتهم ، ويغسل سيئاتهم ، ويصلح من شئون دنياهم عن طريق تبادل المنافع ، وبذل الأموال ، والشعور بالأمان والاطمئنان ، وتوثيق الصلات الدينية والدنيوية التي ترضي الله - تعالى - ، وتجعلهم أهلا لفضله ورحمته .
ولأن الأشهر الحرم تأتي للناس فتجعلهم يمتنعون عن القتال فيها ، فتهدأ نفوسهم ، ويحصل التآلف والتزاور بعد التدابر والتقاطع والتعادي ولأن الهدى والقلائد التي يسوقها المحرمون إلى الحرم لذبحها فيها ما فيها من التوسعة على الفقراء . وإشاعة روح المحبة والتسامح والإِخاء .
ورحم الله الإِمام القرطبي حيث يقول : " والحكمة في جعل الله - تعالى - هذه الأشياء قياما للناس ، أن الله - سبحانه - خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتقاطع والسلب والغارة . فلم يكن بد في الحكمة الإِلهية من وازع يزعهم - أي يزجرهم - عن التنازع ، ويحملهم على التآلف ، ويرد الظالم عن المظلوم ، فقد روى مالك أن عمثان بن عفان كان يقول : " ما يزع الإِمام أكثر مما يزع القرآن " .
فجعل - سبحانه - الخليفة في الأرض حتى لا يكون الناس فوضى ، وعظم في قلوبهم البيت الحرام ، وأوقع في نفوسهم هيبته ، فكان من لجأ إليه معصوما به ، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه .
ولما كان لهذا البيت موضعا مخصوصا - ومكانا معينا - لا يدركه كل مظلوم ، فقد جعل - سبحانه - الأشهر الحرم ملجأ آخر . وقرر في قلوبهم حرمتها ، فكانوا لا يروعن فيها سربا - أي نفسا - ولا يطلبون فيها دما ، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه . ثم شرع لهم الهدى والقلائد ، فكانوا إذا أخذوا بعيرا وأشعروه دما ، أو علقوا عليه قلادة أو فعل ذلك الرجل بنفسه . لم يروعه أحد حيث لقيه .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
يعود على الجعل المذكور الذي هو تصيير البيت الحرام وما عطف عليه قياما للناس ، أي ؛ صلاحا لأحوالهم الدينية والدنيوية .
والمعنى : فعل الله - تعالى - ذلك لتعلموا أنه - سبحانه - يعلم علما تاما شاملا ما في السموات وما في الأرض ، ولتوقنوا بأنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم ، وهتاف أرواحهم . لأن التشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار ولجلب المصالح الدينية والدنيوية دليل على أنه - سبحانه - يعلم ما في السموات وما في الأرض . وعلى أنه بكل شيء عليم دون أن تخفى عليه خافية مما في هذا الكون : وكرر - سبحانه - " ما . وفي " في المعطوف والمعطوف عليه للإِشارة إلى دقة العلم وشموله ، وأنه - سبحانه - لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
وقوله : { وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تعميم إثر تخصيص . للتأكيد وقدم الخاص على العام ليكون ذكر الخاص كالدليل على العام .
قال الجمل : واسم الإِشارة { ذلك } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها أنه خبر لمبتدأ محذوف أي : الحكم الذي حكمناه ذلك لا غير .
والثاني : أنه مبتدأ وخبره محذوف أي : ذلك الحكم هو الحق لا غيره .
والثالث : أنه منصوب بفعل مقدر يدل عليه السياق . أي : شرع الله ذلك . وهذا أقواها ، لتعلق لام العلة به . وقوله { لتعلموا } منصوب بإضمار أن بعد لام كي . وقوله : { وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } معطوف على ما قبله وهو { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
ثم ذَّكر تعالى بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير ، ولما بان في هذه الآيات تعظيم الحرم والحرمة بالإحرام من أجل الكعبة وأنها بيت الله وعنصر هذه الفضائل ، ذكر تعالى في قوله تعالى : { جعل الله } الآية ما سنه في الناس وهداهم إليه وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن الكعبة قوام و «الهدي » قوام و «القلائد » قوام أي أمر يقوم للناس بالتأمين وحل الحرب كما يفعل الملوك الذين هم قوام العالم ، فلما كانت تلك الأمة لا ملك لها جعل الله هذه الأشياء كالملك لها ، وأعلم تعالى أن التزام الناس لذلك هو مما شرعه وارتضاه ، ويدل على مقدار هذه الأمور في نفوسهم أن النبي عليه السلام لما بعثت إليه قريش زمن الحديبية الحليس ، فرآه النبي ، قال : هذا رجل يعظم الحرمة فالقوه بالبدن مشعرة ، فلما رآها الحليس عظم ذلك عليه ، وقال : ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالتهم{[4733]} .
و[ جعل ] في هذه الآية بمعنى صير ، والكعبة بيت مكة ، وسمي كعبة لتربيعه ، قال أهل اللغة كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة ، ومنه قول الأسود بن يعفر :
أهل الخورنق والسدير وبارق *** والبيت ذي الكعبات من سنداد{[4734]}
قالوا : كانت فيه بيوت مربعة وفي كتاب سير ابن إسحاق أنه كان في خثعم بيت يسمونه كعبة اليمانية ، وقال قوم : سميت كعبة لنتوئها ونشوزها على الأرض ، ومنه كعب ثدي الجارية ، ومنه كعب القدم ومنه كعوب القناة ، و { قياماً } معناه أمر يقوم للناس بالأمنة والمنافع كما الملك قوام الرعية وقيامهم ، يقال ذلك بالياء كالصيام ونحوه وذلك لخفة الياء فتستعمل أشياء من ذوات الواو بها ، وقد يستعمل القوام على الأصل ، قال الراجز :
قوام دنيا وقوام دين . . . وذهب بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى { قياماً للناس } أي موضع وجوب قيام بالمناسك والتعبدات وضبط النفوس في الشهر الحرام ، ومع الهدي والقلائد ، وقرأ ابن عامر وحده «قيماً » دون ألف ، وهذا إما على أنه مصدر كالشبع ونحوه ، وأعلّ فلم يجر مجرى عوض وحول من حيث أعلّ فعله ، وقد تعل الجموع لاعتلال الآحاد ، فأحرى أن تعلّ المصادر لاعتلال أفعالها ، ويحتمل «قيماً » أن تحذف الألف وهي مرادة ، وحكم هذا أن يجيء في شعر وغير َسَعة ، وقرأ الجحدري «قيِّماً » بفتح القاف وشد الياء المكسورة .
{ والشهر } هنا اسم جنس والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب ، وشهر مضر{[4735]} وهو رجب الأصم ، سمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد ، وسموه منصل الأسنة لأنهم كانوا ينزعون فيه أسنة الرماح ، وهو شهر قريش ، وله يقول عوف بن الأحوص :
وشهر بني أمية والهدايا *** إذا سيقت مدرجها الدماء{[4736]}
وسماه النبي عليه السلام شهر الله أي شهر آل الله ، وكان يقال لأهل الحرم آل الله ، ويحتمل أن يسمى شهر الله لأن الله سنه{[4737]} وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه ، وأما { الهدي } فكان أماناً لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وأما { القلائد } فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد من لحاء السمر أو غيره شيئاً فكان ذلك أماناً له ، وكان الأمر في نفوسهم عظيماً مكنه الله حتى كانوا لا يقدم من ليس بمحرم أن يتقلد شيئاً خوفاً من الله ، وكذلك إذا انصرفوا تقلدوا من شجر الحرم ، وقوله تعالى : { للناس } لفظ عام ، وقال بعض المفسرين أراد العرب .
قال القاضي أبو محمد : ولا وجه لهذا التخصيص ، وقال سعيد بن جبير جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون ناراً ، ثم شدد ذلك بالإسلام ، وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى أن جعل هذه الأمور قياماً ، والمعنى َفَعل ذلك لتعلموا أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم ، وقوله تعالى : { بكل شيء عليم } عام عموماً تاماً في الجزئيات ودقائق الموجودات ، كما قال عز وجل { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها }{[4738]} والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر .