تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِيَٰمٗا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَٱلۡهَدۡيَ وَٱلۡقَلَـٰٓئِدَۚ ذَٰلِكَ لِتَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ} (97)

المفردات :

قياما للناس : ما يقوم به أمر الناس ؛ ويصلح شأنهم في دينهم ودنياهم .

والشهر الحرام : الحرام ؛ ( أل ) في الشهر ، للجنس . فيعم الاشهر الحرم الأربعة . وهي : ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ورجب . وقيل : ( الشهر ) هو شهر ذي الحجة .

والهدى : ما يهدي إلى الحرم من الانعام قربة إلى الله ، للتوسعة على فقراء الحرم .

والقلائد : جمع قلادة ، وهي كل ما علق على أسنمة النعام وأعناقها ، علامة على أنها لله والمراد بالقلائد : ذوات القلائد إذا ساقوها هديا .

التفسير :

97- جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي . . . الآية .

اقتضت حكمة الله تعالى رحمته بعباده ان يصير الكعبة التي هي البيت الحرام قياما للناس أي به قوامهم في إصلاح أمر دينهم ودنياهم فهي مركز الإسلام الأول .

وصلاح أمر الدين بالحج إلى البيت الحرام وأداء المناسك والعبادات ، وصحة الصلاة باستقبال البيت الحرام ، وصلاح امر الدنيا عن طريق تبادل المنافع ، وبذل الأموال والشعور بالأمان والاطمئنان ، وتوثيق الصلات الدينية والدنيوية .

فقد جعل الله الكعبة معظمة في القلوب ، يفد الناس إليها من كل فج عميق لأداء المناسك ، وصار ذلك سببا في إسباغ النعم على أهلها ، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم الخليل : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقوموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون . ( إبراهيم 37 ) .

وقد حقق الله دعوة سيدنا إبراهيم ، فصارت الكعبة ملاذا للناس ، وأمنا لأهلها على أنفسهم وأموالهم ، فلو وجد الإنسان قاتل أبيه أو أخيه عند الكعبة لم يجز له ان يقتله .

وكذلك جعل الله الأشهر الحرم منطقة زمنية يحرم فيها القتال وذلك لن الناس يتفرغون للتجارة والعمل والإنتاج والإفادة ، فتطمئن الأفئدة ويحصل التآلف والتزاور بعد التدابر والتقاطع والتعادي .

كما ان الهدي والقلائد ، التي يسوقها المحرمون إلى الحرم فيها ما فيها من التوسعة على الفقراء ، وإشاعة روح المحبة والتسامح والإخاء .

ويشير الإمام القرطبي في تفسيره إلى الحكمة من جعل هذه الأشياء قياما للناس فيقول :

إن الله تعالى خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتقاطع والسلب والغارة ، فلم يكن يد في الحكمة الإلهية من وازع يحملهم على التآلف .

فجعل الله الخليفة في الأرض حتى لا يكون الناس فوضى ، وعظم في قلوبهم البيت الحرام ، وأوقع في نفوسهم هيبته فكان من لجأ إليه معصوما به ، وكان من اضطهد محميا بالالتجاء إليه ، كما جعل الله الأشهر الحرم ملجأ آخر ، وقرر في نفوسهم حرمتها فكانوا لا يطلبون فيها دما ، ولا يروعون فيها نفسا ، ثم شرع لهم الهدي والقلائد فمن علق قلادة على بعيره أو على نفسه لم يروعه أحد حيث لقيه .

والهدي : ما يهدى للبيت الحرام وفي ذبحه منافع للفقراء وقيام لمعيشتهم وثواب للأغنياء ، ورفع لدرجتهم

والقلائد : أي الحيوانات التي توضع في رقبتها قلادة من ورق الشجر ، فمن رآها علم أنها ستقدم للبيت الحرام فترك سبيلها حتى تذبح ، وتوزع على الفقراء الحرم ، وتخصيص القلائد بالذكر – مع شمول الهدي إياها – لبيان أن الشرع أباح تقليد الهدي ، لما فيه من إظهار شعائر الله ، والمبالغة في منع التعرض لها .

ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم . أي شرع الله هذه الأحكام السابقة لتعلموا أنه سبحانه يعلم علما شاملا ما في السموات وما في الأرض ، ولتوقنوا بأنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم ، وهتاف أرواحهم . . لأن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار ، ولجلب المصالح الدينية والدنيوية دليل على أنه سبحانه يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وعلى أنه بكل شيء عليم فلا تخفى عليه خافية والجملة الأخيرة في الآية توكيد ، لإحاطته تعالى بما كان ، وبما هو كائن ، وبما سيكون .