معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ} (4)

{ ثم ارجع البصر كرتين } قال ابن عباس : مرة بعد مرة ، { ينقلب } ينصرف ويرجع ، { إليك البصر خاسئاً } صاغراً ذليلاً مبعداً لم ير ما يهوى ، { وهو حسير } كليل منقطع لم يدرك ما طلب . وروي عن كعب أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية من درة بيضاء ، والثالثة حديد ، والرابعة صفراء ، وقال : نحاس ، والخامسة فضة ، والسادسة ذهب ، والسابعة ياقوتة حمراء ، ومن السماء السابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ} (4)

ثم ساق - سبحانه - بأسلوب فيه ما فيه من التحدي ، ما يدل على أن خلقه خال من التفاوت والخلل فقال : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }

و { الفطور } جمع فَطْر ، وهو الشق والصدع ، يقال : فطر فلان الشئ فانفطر ، إذا شقه ، وبابه نصر .

وقوله { كَرَّتَيْنِ } مثنى كرَّة ، وهي المرة من الكَرّ ، وهو الرجوع إلى الشيء مرة أخرى ، يقال كر المقاتل على عدوه ، إذا عاد إلى مهاجمته بعد أن تركه .

والمراد بالكرتين هنا : معاودة النظر وتكريره كثيرا ، بدون اقتصار على المرتين ، فالتثنية هنا : كناية عن مطلق التكرير ، كما في قولهم : لبيك وسعديك .

وقوله : { خَاسِئاً } أي صاغراً خائبا لأنه لم يجد ما كان يطلبه ويتمناه .

وقوله : { حَسِيرٌ } بمعنى كليل ومتعب ، من حسَر بصرُ فلان يَحسُر حسورا إذا كَلَّ وتعب من طول النظر والتأمل والفحص ، وفعله من باب قعد .

والمعنى : ما ترى - أيها الناظر - فى خلق الرحمن من تفاوت أو خلل . . فإن كنت لا تصدق ما أخبرناك به ، أو في أدنى شك من ذلك ، فكرر النظر فيما خلقنا حتى يتضح لك الأمر ، ولا يبقى عندك أدنى شك أو شبهة .

والاستفهام فى قوله : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } للتقرير : أي : إنك مهما نظرت فى خلق الرحمن وشددت فى التفحص والتأمل . . فلن ترى فيه من شقوق أو خلل أو تفاوت . .

وقوله : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } تعجيز إثر تعجيز ، وتحد فى أعقاب تحد . . أي : ثم لا تكتف بإعادة النظر مرة واحدة ، فربما يكون قد فاتك شيء فى النظرة الأولى والثانية . . بل أعد النظر مرات ومرات . . فتكون النتيجة التي لا مفر لك منها ، أن بصرك - بعد طول النظر والتأمل - ينقلب إليك خائبا وهو كليل متعب . . لأنه - بعد هذا النظر الكثير - لم يجد فى خلقنا شيئا من الخلل أو الوهن أو التفاوت .

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } أي : إن رجعت البصر ، وكررت النظر ، لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل ، وإدراك العيب ، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور . . أي : بالبعد عن إصابة الملتمس .

فإن قلت : كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين ؟

قلت : معنى التثنية هنا التكرير بكثرة ، كقولك لبيك وسعديك . .

فإن قلت : فما معنى { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ } ؟ قلت : أمره برجع البصر ، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء وأن يتوقف بعدها ، ويُجِم بصره ثم يعاود ويعاود ، إلى أن يَحْسِر بصرُه من طول المعاودة ، فإنه لا يعثر على شيء من فطور . .

هذا ، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يراها قد ساقت ما يدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته بأبلغ أسلوب ، ودعت الغافلين الذين فسقوا عن أمر ربهم ، إلى التدبر فى هذا الكون الذي أوجده - سبحانه - فى أبدع صورة وأتقنها ، فإن هذا التدبر من شأنه أن يهدي إلى الحق ، ويرشد إلى الصواب . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ} (4)

وقال منذر بن سعيد : أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ثم أمر بالتكرير في النظر ، وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر ، ليرى فيها خللاً أو نقصاً ، فإن بصره ينقلب { خاسئاً } حسيراً ، ورجع البصر ترديده في الشيء المبصر .

وقوله : { كرتين } معناه مرتين ، ونصبه على المصدر ، والخاسئ المبعد بذل عن شيء أراده وحرص عليه ، ومنه الكلب الخاسئ ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد : «اخسأ فلن تعد وقدرك »{[11204]} ، ومنه قوله تعالى للكفار الحريصين على الخروج من جهنم : { اخسؤوا فيها }{[11205]} [ المؤمنون : 108 ] ، وكذلك هنا البصر يحرص على رؤية فطور أو تفاوت فلا يجد ذلك ، فينقلب { خاسئاً } ، والحسير العييّ الكالّ ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

لهن الوجا لم كن عوناً على النوى*** ولا زال منها طالح وحسير{[11206]}


[11204]:هذا جزء من حديث أخرجه البخاري في الجنائز والجهاد والقدر والأدب، وأخرجه كل من مسلم والترمذي في الفتن، وأبو داود في الملاحم، والدارمي في المقدمة، وأحمد في مسنده (1/380، 3/268، 4/170، 5/148)، ولفظه كما في مسند أحمد، عن عبد الله قال: كنا نمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم. فمر بابن صياد، فقال إني قد خبأت لك خبأ، قال ابن صياد: دخ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اخسأ فلن تعدو قدرك)، فقال عمر: يا رسول الله دعنى أضرب عنقه، قال: (لا، إن يكن الذي نخاف فلن تستطيع قتله). قال العلماء: الدخ هو الدخان، ولم يكملها، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد أضمر له آية من سورة الدخان، وهي قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين).
[11205]:من الآية 108 من سورة المؤمنون.
[11206]:الوجى: الحفا، وقيل: يكون قبل الحفا، وقيل: بل هو أشد م الحفا، والنوى: البعد والفراق والانتقال إلى مكان بعيد، والظالع: الذي أصيب بالعرج من ألم في رجله، والحسير: الذي كل وتعب وأصبح عاجزا عن السير، يقال: حسرت الدابة والناقة حسرا:أعيت وكلت، وهو موضع الاستشهاد هنا، يطلب للنوق الوجى والظلع والإعياء لأنهن كن عونا على فراق الأحبة.