محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ} (4)

{ ثم ارجع البصر } أي كرره { كرتين } أي رجعتين أخرتين ابتغاء الخلل والفساد والعبث ، والمراد بالتثنية التكرير { ينقلب } أي يرجع { إليك البصر خاسئا } أي مطرودا عن إصابة المطلوب { وهو حسير } أي معي كال .

تنبيهات :

الأول : ذهب الزمخشري إلى أن قوله تعالى { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } صفة ثانية لقوله { سبع سماوات } وضع فيها خلق الرحمن موضع الضمير للتعظيم والأصل { فيهن } وتابعه القاضي والقاشاني وعبارته : نهاية كمال عالم الملك في خلق السموات لا ترى أحكم خلقا وأحسن نظاما وطباقا منها ، وأضاف خلقها إلى الرحمن لأنها من أصول النعم الظاهرة ، ومبادىء سائر النعم الدنيوية ، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضا ، وحسن انتظامها وتناسبها وإنما قال { ثم ارجع البصر كرتين } لأن تكرار النظر ، وتجوال الفكر مما يفيد تحقق الحقائق ، وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق لا يفيد إلا الخسوء والحسور تحقق الامتناع ، وما أتعب من طلب وجود الممتنع انتهى .

ولو جعل قوله تعالى { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } مستأنفا ، مقررا بعمومه لتناسب خلقه وإتقانه وتناهي حسنه فيشمل ما قبله لكان أولى من تخصيصه بوصفية ما قبله ويكون كآية {[7180]} { أحسن كل شيء خلقه } وآية{[7181]} { صنع الله الذي أتقن كل شيء } وتلطف بعضهم فقال في الآية إشارة إلى قياس تقديره ما ترى فيها من تفاوت لأنها من خلقه تعالى ، وما ترى في خلقه من تفاوت .

الثاني : للإمام ابن حزم رحمه الله كلام في هذه الآية في كتاب ( الفصل ) ساقه في مباحث مع المعتزلة ، ناثره هنا لنفاسته ، قال رحمه الله : التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس أو خرج عن المعهود ، فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتا ، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه ، فإذن ليس هو الذي يسميه الناس تفاوتا ، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة ، لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت ، لكذب قول الله عز وجل { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } ولا يكذب الله تعالى إلا كافر ، فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت ، لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز وجل مرئي فيه مشاهد بالعيان فيه فبطل احتجاجهم .

فإن قال قائل فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يرى في خلقه ؟

قيل لهم هو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلا ، بل هو معدوم جملة ، إذ لو كان شيئا موجودا في العالم ، لوجد التفاوت في خلق الله تعالى ، والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يرى في خلقه .

ثم نقول وبالله تعالى التوفيق ، إن العالم كله ما دون الله تعالى وهو كله مخلوق لله تعالى أجسامه وأعراضه كلها ، لا نحاشي شيئا منها ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه وأنواع أجسامه جرت القسمة جريا مستويا في تفضيل أجناسه وأنواعه بحددوها المميزة لها ، وفصولها المفرقة بينها على رتبة واحدة ، وهيأة واحدة ، إلى أن يبلغ على الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع ، لا تفاوت في شيء من ذلك البتة ، بوجه من الوجوه ولا تخالف في شيء منه أصلا ، ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا والصورة المستحسنة عندنا واقعتان معا تحت نوع الشكل والتخطيط ، ثم تحت نوع الكيفية ، ثم تحت اسم الغرض ، وقوعا مستويا لا تفاضل فيه ولا تفاوت في هذا الوجه من التقسيم . .

وكذلك أيضا نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ، ثم تحت فعل النفس ، ثم تحت الكيفية والعرض ، وقوعا مستويا لا تفاضل فيه ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم . وكذلك أيضا نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام ، ثم تحت نوع الحركة ، وتحت نوع الكيفية ، وتحت اسم العرض ، وقوعا حقا لا تفاوت فيه ولا اختلاف .

وهكذا القول في الظلم والإنصاف ، وفي العدل والجور ، وفي الصدق والكذب ، وفي الزنا والوطء الحلال ، وكذلك كل ما في العالم حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرؤوس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى ، وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة ، فانتفى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى ، وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة ضرورة لا منفك لهم عنها ، وهي أنه لو كان وجود الكفر والكذب والظلم تفاوتا كما زعموا ، لكان التفاوت موجودا في خلق الرحمن ، وقد كذب الله تعالى ذلك وهي أن يرى في خلقه تفاوت انتهى كلامه .

الثالث : قال الناصر في قوله تعالى { ينقلب إليك البصر خاسئا } وضع للظاهر موضع المضمر ، وفيه من الفائدة التنبيه على أن الذي يرجع خاسئا حسيرا غير مدرك الفطور ، هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن ، فإذا لم يدرك شيء دل على أنه لا شيء .


[7180]:32/ السجدة/ 7.
[7181]:27/ النمل/ 88.